النبي r:=صلي الله عليه وسلم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال تعالى: ]وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ[ [لقمان: 14].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبي r : أي العمل أحب إلى الله؟ قال: «الصلاة لوقتها»، قال: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين»، قال: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» [أخرجه البخاري ومسلم].
حث الله جل وعلا عباده على بر الوالدين في أكثر من موضع من كتابه العزيز، وقد كان موضوع البر أيضا محورًا لكثير من أحاديث المصطفى r وقد كان البر على مر السنين عملًا جليلًا للكثير من الصالحين والأتقياء، ولمن يرغبون في كسب رضا الله تعالى، ولعل قصص التاريخ حُبلى بنماذج جميلة مشرفة عن البر، وقد تلقى أصحابها نتيجة برهم في الدنيا حلو المذاق صافيًا كالعسل، والنتيجة العظمى مدخرة عند العزيز الجبار.
وكالعادة في كل شيء، فلكل قاعدة شواذ، وقد ناقض بعضهم أوامر المولى عز وجل، وتوجيهات المصطفى r بعدم اكتراثهم بواجب البر، فكان منهم من تجرع العلقم نتيجة عقوقه في الدنيا، والله شديد العقاب.
في وقتنا الحاضر يظهر التناقض واضحًا وغريبًا، فهذا بار بوالديه رغم ظروفه المادية الضعيفة، وزوجته القاسية، وهذا عاق مع أن ظروفه مناسبة وأحواله المادية جيدة أو أكثر من ذلك، وهذه تبر أمها، وتقتطع لها من وقتها ومالها، وأخرى غنية وظروفها ميسرة ولكنها لا تبالي ولا تشعر بضرر إهمالها لأمها في الدنيا والآخرة.
بين البر -وهو موجود ومستمر إن شاء الله- وبين العقوق -وهو منتشر ولا حول ولا قوة إلا بالله- تبرز القصص، وتُسرد الحكايات وسط دعاء والدين راضيين عن أبنائهم، وآخرين نحطم آهاتهم نيات القلوب.
أبناؤنا بين البر والعقوق، عبارة عن مجموعة قصصية واقعية، يعيش أفرادها بيننا من آباء وأمهات، وأبناء وبنات.
من هذه الوقائع، وتلك الملابسات، تولدت فكرة هذا الكتاب، ونبع القلم ببعض المداد، نسأل الله العلي القدير لنا ولكم التوفيق والسداد.
في ظل غياب الضمير، وخلال فترة ضعف الوازع الديني تخبر الزوجة زوجها بأن وجود والدته داخل المنزل بات شيئًا صعبًا، ووضعًا لا يطاق، وضيوف والدته لا يمكن تحملهم أكثر من ذلك، فيبدأ الزوج بالتفكير:
- ماذا أفعل؟
- وكيف أحافظ على رضا زوجتي؟
- إذا استمر الوضع هكذا ستغضب زوجتي.
- ولو خرجت أمي من البيت سيمزق الناس لحمي.
وفجأة تشع في ذهنه فكرة رآها ذهبية، فيها بعض الإهانة لأمه، ولكن لا بأس لديه فقد ترضي زوجته وأم أولاده، وقد نسي من فرط فرحته بهذه الفكرة قول الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23،24]. ينادي زوجته بسرعة، ويقول لها:
- وجدت الحل، سأخلصك وإلى الأبد من متاعب والدتي وضيوفها.
- هاه، تكلم بسرعة، ما الحل إن شاء الله؟!
- الملحق الخارجي، إنه بيت متكامل، غرفتين ودورة مياه، الغرفة الأولى لنومها، والثانية لاستقبال ضيوفها، وسنخرجها كل يوم من الصباح إلى منتصف الليل.
- فكرة لا بأس بها، على الأقل سنحافظ على نظافة البيت من عبث الأطفال، وأكون طليقة حرة بين جنبات بيتي، فأغلب ضيوف والدتك ليسوا محارم لي.
- لننفذ الفكرة، سأعد الملحق من الغد، ليعود البيت مرتبًا ونظيفًا كما عهدناه.
من صباح الغد، هبَّ الابن في إعداد الملحق لاستقبال والدته وضيوفها، فها هو يضع لها غرفة نوم متكاملة، ويضع الغرفة الأخرى لاستقبال الضيوف، وما هي إلا أيام وأصبح كل شيء جاهزًا لإخراج هذه الأم من وسط البيت إلى خارجه.
كل يوم يحملونها بمساعدة خادمتها الخاصة، ومنذ شروق الشمس إلى ما يقارب منتصف الليل، وهي راضية بما فُرض عليها، فيوم تكون مدركة لما يتم، ويوم تخونها الذاكرة، وزوجة الابن سعيدة كل السعادة بهذا الإجراء، فقد عاد للبيت هدوؤه ونظامه ونظافته، وارتاحت من نظرات بعض الضيوف الثقلاء التي تترصد جنبات البيت عند الدخول وفي الخروج، والابن أيضًا ارتاح من طنين زوجته وتذمرها، وأمه صامتة ولم تقل شيئًا، فأقنع نفسه بأنها راضية ومقتنعة بما تم بصددها.
صار هذا الإجراء وبمرور الأيام عاديًا للجميع ما عدا طفل السابعة الذي لم يهضم ما تم بحق جدته، ولم يستوعب عقله الصغير أعذار والديه، فإخراج جدته إلى الملحق طوال اليوم وعدم إعادتها إلا بعد أن تستسلم للنوم كان شيئًا غير مريح بالنسبة له، وكان تساؤله في البداية صامتًا، ولكن بعد حين تترجمت نظراته إلى عبارات وأسئلة جرت على لسانه:
- أمي، عندما أكبر ويكون لي بيت كبير وجميل سأضع لك غرفة جميلة.
- حقا.
- نعم.
- أين؟!
- في الملحق الخارجي.
- ما هذا يا بني!! تضع لي غرفة نوم جميلة في الملحق الخارجي!!
- نعم في الملحق.
- لماذا في الملحق وليست في البيت؟!
- ألم تضعي جدتي في الملحق؟
- الظروف أجبرتني أن أضعها هناك.
- وأن سأضعك في الملحق لنفس الظروف.
- ضيوف جدتك ليسوا محارم لي.
- وهكذا سيكون أيضًا.
- ماذا تقصد؟
- سيكون ضيوفك ليسوا محارم لزوجتي.
- عقدت الدهشة لسانها، وزاغت نظراتها، فكيف غاب ذلك عن ذهنها؟ كيف نست دورة الزمان؟ كيف استبعدت أن تتجرع من نفس الكأس الذي أسقته لأم زوجها؟! تردد بصرها بين جنبات بيتها الجميل، وجالت بنظراتها الحائرة تبحث عن زوجها، لم يكن موجودًا، أخذت تدور حول نفسها باضطراب واضح، مشدوهة بما سمعت، تنتظر حضور زوجها بفارغ الصبر، غيرت رأيها، وتبدلت نظرتها تجاه أم زوجها، لابد من إصلاح الوضع بما يرضي الله سبحانه وتعالى، ويرضي ضميرها.
حضر الزوج، واستقبلته بلهفة شديدة، وبادرته بقولها:
- أعد والدتك إلى داخل المنزل.
- ماذا حدث؟ وما الذي غير رأيك؟
- أعدها، وسأستقبل ضيوفها، وسأتحمل كل شيء، فالدنيا قصيرة ولا تستحق كل هذا الحرص.
- أخبريني فقط ماذا حدث؟
- ليس مهما ما حدث، ولكن المهم إصلاح الوضع، فمكان والدتك الحقيقي بيننا، وضيوفها مسئوليتنا.
- لك ما تريدين، افعلي ما بدا لك.
خلال يوم واحد، أعادت الزوجة المنزل كما كان، وهيأت لأم زوجها أجمل حجراته، وتعاونت مع خادمها على إعادتها إلى مكانها السابق، والأم المسكينة تجول بنظراتها مندهشة مما يحدث، لا تعرف من أين أتت، ولا أين استقرت.
بعد ستة أيام من إعادة الأم إلى مكانها داخل البيت، تستيقظ زوجة الابن وتذهب لتتفقد أحوال خالتها، وإذا بها متعبة قد تسارعت أنفاسها، وارتفعت حرارتها، فتنادي زوجها وتخبره بالأمر، فيسارع لطلب إسعاف، ويتم نقلها لأقرب مستشفى، لم تتحسن حالتها بكل ازدادت سوءًا ساعة بعد ساعة، ولم يؤذن المغرب لذلك اليوم إلا وقد أسلمت الروح، وانتقلت على رحمة المولى عز وجل.
تدهورت صحتها في تلك المنطقة البعيدة، فقرر الأبناء إحضارها إلى المدينة التي يسكنونها، حيث أعمالهم وبيوتهم، تدخل المستشفى وتتحسن قليلًا، وتُشَمِّر ابنتها الوحيدة عن ساعديها، وتفرغ نفسها تمامًا لرعاية والدتها، تساعدها على تناول طعامها وشرابها، ولا تنسى موعد دوائها، وتقرأ عندها بعض الكتب النافعة، تدخل السرور على نفسها ببعض الأخبار المحيطة، وتفتح معها أحيانا صفحات الماضي، وتذكرها بالمواقف الطريفة التي مرت بهما.
يحضر الأبناء يوميا للزيارة، وقد انحصر دورهم في التلفظ ببعض عبارات المجاملة المجردة:
- كيف حالكم؟!
- هل تحتاجون شيئًا؟!
- نحن في الخدمة.
وهكذا كل يوم، ومن ثم ينطلق كل منهم إلى عالمه الخاص، إلى عمله وبيته، وزوجته، وأولاده.
يمر اليوم تلو الآخر، وزوج الابنة ينتظر عودتها إلى بيتها وأولادها العشرة، فقد أعياه التعب من تحمل مسئولتهم؛ وهو يشعر بالمرارة لتنصل إخوة زوجته من مسئوليتهم، وتهربهم من العناية بوالدتهم سواء في المستشفى أو البيت.
تحسنت حالة الأم، وجاء دور الأبناء لاحتضانها في بيوتهم في أواخر أيامها، وتهيئة الجو المريح لها، ولكنهم لاذوا بالصمت، وكانوا في قرارة أنفسهم سعداء لطيبة شقيقتهم، وتفانيها في خدمة والدتهم، ففي برها تغطية لعقوقهم، وفي تحملها للمسئولية فتحت المجال أمامهم واسعًا للتهرب بصمت، فهم أمام المجتمع أولاد بارون يبذلون الغالي والنفيس، ولكن الواقع المرير الذي تعيشه الأم، يقرُّ بحياتها المأساوية، وينطق بالحقيقة الصامتة، ويعلن بصمت وجل خسارة أبنائها، وحرمانهم من أجر البر.
فقد قال رسول الله r: «رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه، فقيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة» [أخرجه مسلم].
يتغافل زوج الابنة إخوة زوجته، ويحضر إلى المستشفى، يناقش زوجته في الوضع، ويذكرها بمسئوليتها تجاه بيته وأولاده، ويذكرها بمسئولية إخوتها تجاه والدتهم، فترفض طلبه في مفاتحة إخوتها في الأمر، ولكنه يصر على طلبه، ويهددها إن لم تذعن لطلبه، تجهش بالبكاء بضعف ظاهر، وتدرك الأم الوضع الذي وقعت فيه ابنتها، وتجهش الأخرى بالبكاء، لقد اعتادت على قرب ابنتها في هذه الفترة الحرجة، وتعرف جيدًا أنه ليس في أولادها من هو بار بها مثل ابنتها.
تمر الأيام، ويحضر زوج الابنة إلى المستشفى في الوقت الذي يتوقع فيه اجتماع إخوة زوجته عند والدتهم، يلمح ببعض الجمل والكلمات، ويصرح ببعض ما آل إليه حال بيته وأطفاله في ظل غياب زوجته، ويبين ضرورة عودتها إلى بيتها، وأن الوالدة إنما هي مسئولتهم فقط، وشيئًا فشيئًا بدأ الكلام بوضوح، وبدأت السحب تنقشع عن واقع هذه المأساة، وقد فهم الأبناء هذه اللحظة المغزى من كلامه، واستوعبت عقولهم المطلوب، ولكن الهوى والشيطان كانا لهم بالمرصاد لكل إجراء صحيح.
تعالت الأصوات معارضة لكل كلمة تفوه بها، وكانت الحجة بأن الأم قد اعتادت على قربها، ولا تريد سواها لخدمتها، متناسين أن الأم لم تجد سواها لخدمتها بصدق وإخلاص، عندها هب الزوج منتفضًا من مكانه، وقد اتهمهم بالتهرب من مسئولية قد فرضها الله عليهم، وإلقائها كاملة على أختهم التي لا حول لها ولا قوة.
تعالت الأصوات، وتبادلوا الاتهامات، والأم وابنتها تجهشان بالبكاء، وصار للغرفة جلبة شديدة، فهذا يتهم، وهذا يدافع، وهذا يرد، والنتيجة أنه ليس من حل أمامهم إلا استمرار شقيقتهم في مراعاة الوالدة مهما تكن النتائج، فقد رفضوا مبدأ أخذها إلى بيوتهم، ولم تعجبهم فكرة استئجار سكن خاص بها مع وضع من يخدمها، كما رفضوا فكرة التناوب على خدمتها بحجة ارتباطهم بأعمالهم ووظائفهم.
أدرك الزوج أن الأبواب قد أوصدت كلها في وجهه، وأنه ما من حل مناسب معهم، وأنهم يرفضون أيضا مبدأ التعاون في خدمة والدتهم، فسأل زوجته عن قرارها أمامهم، وجعل الحل كاملًا بيدها، نظرت إلى إخوتها وعيونهم تنطق بالعقوق، فنطق لسانها بالبر وقالت: إن لم يتهيأ لوالدتي من يخدمها بصدق وإخلاص فلن أفرط في ذلك، ولن أدعها نهباً للحسرة والألم في هذه الفترة.
يخرج الزوج غاضبًا، ويبتسم الإخوة وهم يستشعرون نشوة الانتصار، وكانت نتيجة انتصارهم المصطنع بعد أيام، ورقة طلاق شقيقتهم وصلتها في المستشفى، استلمتها على مرأى ومسمع من والدتها، والتي زادت آلامها آلامًا جديدة.
توفى زوجها، فورثت مبلغًا من المال، حرصت عليه أشد الحرص، لبناء منزل خاص بها، تستغني من خلاله عن أبنائها وبناتها، وتم لها ذلك بفضل من الله تعالى، وسكنت بيتها وحيدة فريدة، ولكنها كانت سعيدة لأنها ليست بحاجة إلى أحد.
كان لديها اهتمام كبير بكتاب الله، وكانت تتردد على دار التحفيظ وحلقات الذكر القريبة منها، بصحبة جاراتها المحيطات بها، وكانت فرحتها تفوق الوصف كلما اجتازت سورة بإتقان، وفي المنزل كانت تراجع حفظها من خلال آلة التسجيل.
مرت السنون سريعة، وبدأ الإعياء يدب في جسدها النحيل، وبدأت تتردد على المستشفيات، وكانت تأخذ كثيرًا من الأدوية، وتتعرض بين الحين والآخر لأزمات صحية صعبة، وكان أبناؤها وبناتها يزورونها دائمًا من داخل مدينتها وخارجها.
في ذلك اليوم، ازدادت حالتها سوءًا، فزارها ابنها البكر، ونقلها للمستشفى على الفور، وبقيت هناك مدة طويلة، كانت تهذي، وتتخيل أشياء لا وجود لها، فأدرك عند ذلك بأن والدته قد كبرت، وأن ذاكرتها قد ضعفت، ولم يشفع لها ذلك لديه، فلم يفكر بأن يأخذها إلى بيته ويعتني بها، بل تهادى إلى عقله فكرة شيطانية، فقد رأى الفرصة سانحة له للاستفادة من والدته على حين غرة من إخوته، وصار يخطط منذ هذه اللحظة لتنفيذ ما وصل إليه تفكيره.
في عصر اليوم التالي خرج من منزله، وأخذ جولة على المكاتب العقارية، ووضع مواصفات بيت الوالدة لديهم، بيت كبير وجميل، وكل دور يصل للإيجار على حدة، باستثناء الملحق الذي يعد وحدة متكاملة للسكن، فلن يؤجره لأنه بحاجة إليه ليلقى بوالدته فيه بعد خروجها، فهي في نظره لا تدري عن شيء الآن، ولن يضرها ما سيفعل بها.
خرجت من المستشفى، وانتقلت إلى ملحق بيتها، وقد ضج منزلها الكبير بصيحات أطفال المستأجرين، لم تدرك الوضع، ولم تعترض بالطبع، ونظراتها الحزينة تستجدي عطف خادمتها القاسية، وابنها يعد الآلاف التي حصل عليها، وهو مغتبط بذلك، ومسرور للغنيمة التي حصل عليها وحده، فأين هو وما فعل من أسامة بن زيد بن حارثة الذي بلغ به كرمه وبره بأمه ما رواه عنه محمد بن سيرين حيث قال: بلغت النخلة في عهد عثمان بن عفان ألف درهم. قال: فعمد أسامة إلى نخلة فعرقها فأخرج جمارها فأطعمه أمه، فقالوا له: ما يحملك على هذا وأنت ترى النخلة قد بلغت ألف درهم؟ قال: إن أمي سألتنيه ولا تسألني شيئًا أقدر عليه إلا أعطيتها.
في منقطة بعيدة جدًّا، تصل أخبار الأم إلى مسامع ابنها الثاني، ويعلم بما فعل أخوه، فيستشيط غضبًا لفعلته، لم تكن غضبته من أجل البيت أو المال، بل كان الغضب كل الغضب لكرامة الأم التي أريقت على التراب، ولعزتها التي أهينت بعد هذا العمر.
حزم أمتعته، ركب سيارة كبيرة ومريحة، فقد قرر بأن يعيد لوالدته اعتبارها، ويأخذها إلى بيته معززة مكرمة، لم يدر بخلده أن يناقش أخاه في فعلته، وقد توقع أن شقيقه بدوره لن يناقشه فما قرره بصدد والدته، فحملها بكل رفق بمساعدة خادمتها، ووضعها في سيارته، وانطلق بها في رحلة طويلة، إلى المدينة التي يعمل بها.
حال وصوله، بدأ في إجراءات جديدة في منزله، وأعد لوالدته مكانًا مريحًا، ومناسبًا لظروفها الصحية، أخذ أطفاله الفرح، وغمرت السعادة قلب زوجته، وهي ترى بر زوجها بأمه استبدل الخادمة الأولى، وأحضر بدلًا منها أخرى، واستقدم ممرضة خاصة بها، وصار يشرف بنفسه على علاجها ليل نهار، ويتابع طعامها وشرابها، وقد أخذ عهدًا على نفسه بأن والدته لن تتعرض لما تعرضت له مسبقًا من إهانة وذل ما دام على قيد الحياة.
يقول الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه عيسى عليه السلام: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم: 30-32].
فهذا نبي الله يتحدث عما أوصاه الله به من أعمال صالحة منها بر الأم التي خصها أيضًا رسولنا الكريم محمد r بكثير من الأحاديث حيث أوصى الأبناء ببرها وبين فضلها.
في هذه القصة تتضح الصورة جلية أمام بعض أفراد مجتمعنا المسلم، الذين يتخذون من أوامر الله عز وجل ووصايا رسوله الكريم r دستورًا يسيرون وفق بنوده في حياتهم، وقد حرصوا كل الحرص على البر اتباعًا لأوامر الله سبحانه وتعالى، وسيرًا على وصايا رسولنا الكريم.
عندما اقتربت إجازة الصيف وازدادت حرارة الجو، أخذت كثير من الأسر تعد العدة للرحيل، للسياحة في أرض الله الواسعة، للذهاب إلى أماكن جديدة، وكان الحماس على أشده بين الأطفال، كل منهم يريد أن يذهب ويرى، ومن ثم يروي مشاهداته الجميلة لرفاقه، وللنساء نصيب وافر من هذا الحماس، فكسر حدة الروتين مطلب مهم للبعض، ونفض غبار متاعب عام دراسي ضروري لكثير منهم.
كان الجميع يعد العدة للسفر، وكان بعضهم يضع صغاره مع الخادمات عند الأهل، لكي تتسنى لهم الحركة بحرية، وليتنقلوا بسهولة كما يحلو لهم، فلابد -من وجهة نظرهم- أن تكون جوانب مثل هذه الرحلات متكاملة، لكي يكتمل عقد المتعة والمرح.
أفواج من المسافرين يغادرون قراهم ومدنهم، إلى الجنوب، إلى الشرقية، إلى منطقة الحجاز، إلى الأهل في مدنهم وبلادهم الأصلية، وهناك من تكون في انطلاقته كسر للحدود، فيغادر برفقة الأهل أو الأصدقاء، إلى دول العالم أجمع بحسنها وقبيحها.
في صباح ذلك اليوم، استيقظت الجدة مبكرة، وشعرت بحركة غير عادية، فأصوات الأطفال تتعالى بمرح واضح، وابنها وزوجته في جدال، فتحت باب حجرتها وخرجت إلى بهو المنزل، هدأ الوضع قليلًا ولاذ ابنها بالصمت، اقتربت من الجميع، وألقت عليهم بالتحية، رحب بها ابنها كعادته بحرارة، ولكن الزوجة هذا اليوم كانت على غير عادتها، كان يبدو عليها الامتعاض، أشاح الابن بوجهه عن زوجته، واستقبل والدته ببشاشة.
جلس مع والدته، وبدأت خيوط جدالهم تتفكك على مسامع الأم، أخبرها بأنهم مقدمون على رحلة في هذا الصيف، وسألها عن اقتراحاتها لتحديد وجهتهم، فما كان منها إلا أن أشارت إلى زوجته، وطلبت منها تحديد المكان، وقالت لابنها:
- أثقلت عليك يا بني طيلة هذه السنوات بسفري معكم، وأنا كما تعلم الآن متعبة وضعيفة الصحة، ولا يناسبني السفر إلى أي مكان.
- لا عليك يا أمي، فأنا في خدمتك، ولن أخطو خطوة واحدة دونك.
تصعد الزوجة إلى حجرتها في عصبية زائدة، فتفهم الأم سلوكها، وتعرف بأنها تشعر بأنها عبء عليهم في أسفارهم، وترغب بالخلاص منها ولو هذه المرة.
تحاول الأم جاهدة مع ابنها ليعدل عن رأيه، ويتركها هذه المرة عهدة أي قريب لهم، فسفرتهم وإن طالت لن تتعدى الشهر على كل حال، فيرفض هذه الفكرة، ويربط رحلتهم بموافقتها لهم، أو يبقى الجميع في البيت.
تستسلم الزوجة لما فُرض عليها، وتبدأ الاستعدادات للذهاب إلى منطقة الجنوب، والأم في المقدمة، والابن يراعيها أكثر مما يراعي صغاره، يسير بها عندما تريده، ويتوقف عندما تشعر بالتعب، ويتفقد حاجتها كل ساعة، ويلبي طلباتها، وينتبه لمواضع راحتها، وما هي إلا ساعات ويحط الجميع رحالهم في مكان مناسب في تلك المنطقة.
مرت الأيام بسرعة في المنطقة الجنوبية، وكانت الرحلة جميلة وموفقة، وكان الابن يسير بأمه على عربة خاصة، يدفعها بيديه أينما تريد، وعندما تصعب الحركة لوعورة الأماكن كان يحملها بين يديه، وفي المساء يهيئ لها جوًّا مريحًا للنوم، ومنذ الصباح تكون شغله الشاغل إلى المساء من كل يوم، وبعد مرور شهر كامل تعود الأسرة إلى البيت، وقد شعر الجميع من خلال هذه الرحلة الجميلة بسعادة غامرة.
في فصل الصيف من كل عام، كانت تتكرر هذه الرحلة الجميلة، ولكن باختلاف الأماكن فقط، وبقيت الأم هي أساس هذه الرحلات، والابن يكرس وقته وجهده من أجل راحتها، وبعد سنوات تعبت الأم، وأصبح السفر يجهدها، ولا يتناسب مع صحتها مطلقًا، فاعتذرت من ابنها بلباقة، وطلبت منه أن يأخذ زوجته وأبناءه في رحلتهم السنوية، فوافقها الرأي ولكن باختلاف بسيط، فابنه البكر قد كبر، وصار أهلًا للمسئولية، فقرر أن تستمر أسرته في رحلتها المعتادة، ولكن برعاية ابنه، أما هو فقد آثر البقاء إلى جانب والدته، ومراعاتها، وتفقد شئونها.
وبالفعل استعد الجميع للسفر، وبقي في بيته لخدمة أمه، والحديث معها، والترويج عنها، لتزجية ساعات النهار الطويلة، وكانت الأم من سعادتها ببر ابنها لها، لا تملك إلا أن ترفع يديها في كل لحظة، والدعاء له بالتوفيق والسعادة في الدنيا والآخرة.
لم يدر بخلده في يوم من الأيام أن يرى نفسه حبيسًا بين فراشه وكرسيه المتحرك، وألفاظ ابنه القاسية تسدُّ مسامعه ليل نهار فقد كان في كل لحظة من لحظات حياته القاسية، يتذكر والده الذي مات في يوم من الأيام من جرّاء قسوته عليه، وعاش قبلها سنوات طويلة يعاني من عقوقه، يكاد لسانه لا يفتر عن الدعاء بالرحمة لوالده، والدعاء بالهداية لابنه، وبين ذا وذاك كان يتفكر في حكمة رب العالمين، ويمعن التفكير أكثر فيما فعله في السابق بوالده، وفيما يفعله به ابنه الآن.
في بداية شبابه، كانت الغشاوة كثيفة أمام عينيه، ونسي واجباته أمام الله تعالى، ومن ثم تجاه والده، نسي أن رضا الله سبحانه وتعالى يستلزم رضا والده عنه.
عن عبد اله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله r: «رضا الله في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد». حديث صحيح.
حرص في تلك الفترة السوداء من حياه على رفقة سيئة، وعاقر الخمر، وكان يبحث عن المال بشتى الطرق والأساليب، وعندما يعجز عن الحصول عليه كان يطلبه من والده، ووالده يرفض إعطاءه المال ليس بخلًا، وإنما للحدِّ من فعل المحرمات، لأنه كان يعرف أن ابنه يستخدم هذا المال للحرام فقط، وفي لحظة جنونية، تطاول الكلام بينه وبين والده، وتعالت الأصوات، أوعز إليه الشيطان بضرب والده، نعم ضرب والده.
ومن هول المفاجأة لم يصدّ الوالد اعتداء ابنه عليه، ففرح ظنًّا منه بضعف والده، فمدَّ يده بكل قسوة إلى محفظته، وأخذ المال الذي يحتاجه لشراء الخمر.
كان متزوجًا ولديه ابن وابنة، وكانت زوجته تتجرع المرَّ من تصرفاته، فقد كانت تعيش في بيت والده، وفي ذلك اليوم الذي اعتدى فيه على والده بالضرب، خرج مسرعًا ليتمتع بهذه الغنيمة التي حصل عليها عنوةً، وكان نصيب والده أزمة صحية مفاجئة نُقل على إثرها للمستشفى، ذهب تلك الليلة إلى رفاق السوء، وقد أماتت الخمرة ما تبقى لديه من مشاعر إنسانية، شرب حتى ثقل رأسه، فلم يعد يميز ولا يعي ما حوله، استأذن من رفاقه، وسار متثاقلًا نحو سيارته، وسار بها دون تركيز.
وفي تلك اللحظة كان والده يلفظ أنفاسه الأخيرة في المستشفى، وتمايلت به سيارته واصطدمت بأحد أعمدة النور، نُقل بعدها إلى المستشفى، ولم يعي إلا بعد أيام، وقد خمدت أطرافه السفلية إلى الأبد، وصار مقعدًا يتنقل من هنا وهناك بحسرة وصعوبة، وملامحه المنكسرة توحي بمرارة الندم من الماضي الأليم.
ضاقت زوجته ذرعًا من حالته، وهجرته بعد شهور، اصطحبت معها ولديها في البداية، ولكنها عندما تزوجت أعادتهم للعيش معه في بيت والده، وكانت والدته تقوم برعاية الجميع، ومرت الأيام سريعة، لننتقل والدته إلى رحمة الله، وتتزوج ابنته، ويبقى ابنه أمام ناظريه، يسلب منه المال عنوة، ويذهب ليسهر مع رفاقه إلى الفجر، ومن ثم يعود مترنحًا مع بداية يوم جديد، كان ينصحه نصائح متذبذبة، ويرى فيه صورته السابقة، ويرى في عقوقه له عقوق السابق لوالده.
عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن الرسول r قال: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان: وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث، والرجلة» رواه النسائي والحاكم.
فضلُ الأب على أبنائه كبير جدًّا، وقد حث الله سبحانه وتعالى ورسوله الكريم على البر بالأب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله r: «لا يجزئ ولدٌ والدًا إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه» [أخرجه مسلم].
وبر الأب يثاب عليه المرء في الآخرة، ويجد له ثمرة يانعة في الدنيا، ففي مجتمعنا تنطق هذه القصة الجميلة ببر أحد أبنائنا، ويقطف نهايتها ثمرة بره بوالده يانعة.
ماتت والدته عندما كان في الثانية من عمره، وعاش مع والده الذي تزوج عدة مرات ولم يرزق بأولاد غيره، ولم يكن على وفاق مع أي امرأة يتزوجها، فكان الفراق نتيجة لزواجه في كل مرة، واستمر الحال هكذا لعدة سنوات، دخل بعدها المدرسة، وتفوق في دراسته، وكان ينتقل بين المرحلة والأخرى عامًا بعد عام، ووالده مسرور لتفوقه ولحسن أخلاقه.
نشأ شابًّا صالحًا، خطواته يحسبها قبل أن يخطوها، رضا الله تعالى نصب عينيه، ومن ثم رضا والده، أنهى دراسته الجامعية في سن مبكرة، وعمل في وظيفة حكومية لفترة من الزمن، ولكنه حنَّ إلى الدراسة وطلب العلم، وذهب إلى بريطانيا لدراسة الماجستير في تخصصه، بعد إلحاح شديد من والده، وكان خلال رحلته العلمية يتصل بوالده في اليوم ثلاث مرات، إلى جانب اتصاله بأقاربه يحثهم على زيادة والده وعدم الانقطاع عنه.
نال الشهادة بكل جدارة وعاد إلى الوطن، وكانت الجامعة قد رشحته لإكمال الدكتوراه، وفي هذه الفترة شعر بأن صحة والده ليست على ما يرام، فرفض العودة إلى بريطانيا لإكمال دراسته، ولكن والده أصر على ذهابه، وتحت إلحاحه ذهب مرة أخرى، بدأ في دراسته، وكان مستمرًّا في الاطمئنان على والده عن طريق الهاتف، والأقارب والجيران.
في ذلك اليوم وبعد مرور فترة طويلة على دراسته، جاءه نبأ مرض والده الشديد، وتعرضه لأزمة صحية فرجع، لم يبق على نيل شهادة الدكتوراه سوى شهور، ولكنه فكر بأنه قد تسنح له الفرصة مرة أخرى، ولكن والده قد لا تسنح له فرصة البر به غير هذه المرة، فحزم حقائبه، وسافر على الفور، عاد إلى أرض الوطن، يراعي والده، ويخدمه، ويدخل السرور إلى نفسه، وتلقى بعد فترة اتصالا من الجامعة، إشعار بضرورة إتمام دراسته وإلا فإن تعب السنوات الماضية سيذهب أدراج الرياح.
لم يخبر والده بالأمر، وفضل خدمة والده وبره به على الشهادة العالية، وبالفعل تلقى بعد أيام قرار تلك الجامعة بإنهاء أوراقه لديها، إذ إن نظامها لا يعطي فرصة للانقطاع الطويل.
شعر بالحزن لمجهوداته السابقة، ولكن فرحته ببر والده أنسته تلك المرارة، قدم أوراقه إلى الجامعة للعمل بها وقُبل على الفور، ووزع وقته بين وظيفته وبين خدمة والده، وبعد مرور سنوات انتقل والده إلى رحمة الله، وهو راض عن ابنه ويدعو له، فسمع عميد كليته عن قصته مع والده، وأنه كان على وشك الحصول على شهادة الدكتوراه، ولكن بره بوالده أعاقه عن تحقيق هدفه، فما كان منه إلا أن رشحه في بعثة إلى أمريكا، وذهب لإكمال دراسته ونال الشهادة، وعاد بعدها للعمل في نفس الجامعة التي ابتعثته.
ترملت بعد زواجها بفترة وجيزة، كانت في ريعان شبابها، وبوادر الحمل قد بدت عليها، فولدت صبيًّا تأملت فيه العوض عن والده، وانكبت على تربيته رافضة كل عرض للزواج.
كبر الابن ونال الشهادة الجامعية، ثم عمل بوظيفة مرموقة، ففرحت الأم لذلك، وأرادت أن تتوج فرحتها بزواجه، وبحثت له عن عروس، وبعد فترة تزوج بفتاه جميلة، عاش معها عيشة هانئة، وقد نفذت الأم رغبتها بالبيت المستقل لكل منهما، إنها لا تريد أي مشاكل، ولا ترغب في الخلاف مع زوجة ابنها.
ومنذ زواج ابنها وزوجته تنظر إليها بحقد شديد، كانت تتسامح معها، وتتودد إليها، ولكن بلا نتيجة، استغلت الفرصة عندما رُزق ابنها بمولوده الأول، اشترت الهدايا الجميلة للزوجة وللمولود، ولكن بلا فائدة، فزوجة ابنها مصممة على ضرب حاجز العداوة بينهما، فرضيت الأم بما قسمه الله، وصارت تتحاشى زوجة ابنها قدر الإمكان.
بعد سنوات، يمر الابن بضائقة مالية، ويطرق الأبواب وما من مجيب، فيعود بقلقة ومخاوفه إلى بيته، وإذا بزوجته تقابله بحلِّ الأزمة على أكتاف أمه وعلى حساب راحتها وحياتها، فكرة قاسية، بل ضربة قاضية للأم، ولكن في ظل تفكيرهم بحل مشكلتهم تناسوا مشاعرها وأحاسيسها، بيت الوالدة هو الحل، يُباع وتحضر للسكن معهم، انطلق بفكرته السوداوية إلى أمه.
استقبلته بكل حفاوة وحب، ولكنها استقبلت فكرته بكثير من الحذر والخوف، فإلى أين تذهب؟! وخاصة أن زوجته لا تطيقها، وحلقات الود مفقودة بينهما تمامًا.
بكى ابنها بين يديها، وبث في فكرها المنهك قضايا لا تستوعبها، الشكاوى، القضايا، المحاكم، السجن، ولم يجد خلاصًا من كل هذا إلا في ثمن بيتها، تومئ برأسها على مضض، وتوافق على هذا الحل وهي كارهة له، وقد وعدها بإعادة كافة حقوقها المادية عندما تتحسن الأوضاع.
باع بيتها وهي تبكي بحرقة، وتتوجس بينها وبين نفسها من مستقبل مخيف مع زوجة ابنها، وما إن وضعت قدمها في بيت ابنها إلا وتهب زوجته في إذاقتها صنوف العذاب، والألم النفسي، فهي تنظر إليها بازدراء، وتتحدث معها بتعالٍ، وتمنعها من مداعبة الأطفال، أو اللهو معهم قليلًا، فتبقى في حجرتها ساعات طويلة حبيسة الجدران، وكانت لا تحصل على الهاتف إلى بشق الأنفس، وفي لحظات غفلة من زوجة ابنها.
بعد مرور الأيام، صرّحت الزوجة بعدم مقدرتها على تحمل وجود أمه بينهم، وادّعت بأنها تتدخل في شئونها، وفي تربية أطفالها، فاحتار الزوج ماذا يفعل بوالدته، وكانت زوجته تتعمد رفع صوتها دائمًا لتسمع الأم ما تكره، ولتشعرها بأنها إنسانة غير مرغوب فيها بينهم.
كانت الأم تلوذ بالصمت، وتتحسر على بيع بيتها، وآلامها النفسية تزداد يومًا بعد يوم، فانعكس هذا الوضع على صحتها، وفقدت شهيتها للطعام والشراب، وهرب النوم من عينيها لفترات طويلة، وبعد فترة استيقظ أهل البيت على أنينها، فالألم يكاد يمزقها، مثلما مزّق الحزن قلبها، أخذها ابنها إلى المستشفى، قرروا لها الإقامة لديهم لبعض الوقت، عاد الابن إلى بيته دون والدته، فرحت الزوجة بذلك، فلا بأس بتمتعها بالحرية ولو لبعض الوقت.
كان الابن يزور والدته في خفية وقد بدأت صحتها تتحسن، وعندما يعود للمنزل تبادره الزوجة بعدم إمكانية عودة والدته للعيش بينهم، أخذته الحيرة برهة من الزمن، ولكنها في النهاية اختار البيت والزوجة والأطفال، وفرّط في والدته.
في ذلك اليوم انتظرت والدته زيارته ولكنه لم يحضر وفي اليوم التالي كذلك، وتوالت الأيام، ولم يحضر ابنها، وكان أكثر ما يحزّ في نفسها وقت الزيارة عندما تغلق عليها الستائر السميكة، وتسمع مداعبات الأبناء والبنات من حولها لأمهاتهم، وهي محرومة من ذلك، تنظر إلى الستائر طوال وقت الزيارة لعلها تتحرك، لعلها تهتز إيذانًا بوصوله، لعل قلب رحيم يتذكرها، ولكن القسوة التي ملأت القلوب كانت لأحلامها بالمرصاد، حطمت آخر أمل لديها باللقاء.
تساوى لديها الليل بالنهار، جرت دموعها حرّى على وجنتيها، وغلظة ممرضات القسم تكمل على ما بقلبها من همٍّ وغم، وهن يسألنها بسخرية عن ابنها، وأقاربها، فتجيب دموعها، وينحبس صوتها.
تنتكس حالتها الصحية، وتتدهور مرة أخرى، وتأتي إليها الأخصائية الاجتماعية، وتسألها عن ظروفها، وتطلب عنوان ابنها، ولكنها لا تجيبها إلى مطالبها، ولا ترد عليها إلا بعبارة.
دعيهم، فالله معي، ولا حاجة بي إليهم، تمر الأيام طويلة حزينة، وفي لحظة ضعف شديدة، ترفع يديها للمنتقم الجبار، وتدعو عليهم، وتلفظ أنفاسها الأخيرة على السرير الأبيض وحيدة.
قال الشاعر:
لأمك حق لو علمت كثير
كثيرك يا هذا لديه يسير
فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي
لها من جواها أنَّةٌ وزفير
وكم غسلت عنك الأذى بيمينها
وما حجرها إلا لديك سرير
وكم مرة جاعت وأعطتك قوتها
حنانًا وإشفاقًا وأنت صغير
فدونك فارغب في عميم دعائها
فأنت لما تدعو إليه فقير
عندما تقاعد ضاق ذرعًا بالعاصمة، الحنين إلى مسقط رأسه كان ملازمًا له، حاول إقناع زوجته وأم أولاده بالعودة إلى هناك ولكنها أبت، هي متعلقة بالعاصمة؛ لأنها محل إقامة أبنائها وبناتها، دائمًا يفكر برفاق الطفولة، يتمنى لو يعود إليهم لقضاء هذه الفترة معهم، أغلب أصدقائه القدامى أحيلوا إلى التقاعد، عادوا إلى قريتهم وبنوا لهم بيوتا جديدة، وبدءوا في مرحلة جديدة من حياتهم.
حاول مرة أخرى إقناع زوجته، ولكنها صمت أذنيها عن طلبه، جعل أحد أبنائه وسيطًا بينه وبينها ولكنها أبت، فكر مليًّا بالأمر، واستقر أخيرًا على رأي وجده صائبًا، سيعود إلى مسقط رأسه، وسيشتري بيتًا جديدًا، وسيستعيد الذكريات الجميلة مع أصدقائه القدامى، سيتمتع بفترة التقاعد هناك بدلًا من انغلاقه على نفسه هنا، أخبر أولاده بقراره، احترموا رأيه بالإجماع، ولم يجد معارضة من أحد، ودع رفيقة العمر، وعاد إلى موطنه دونها.
اشترى البيت الذي كان يحلم به، بيت جديد وتحيط به حديقة جميلة، التقى ورفاق الطفولة والصبا، كان سعيدًا بتلك الذكريات التي يروونها دائما، والمواقف الجميلة التي مرت عليهم عندما كانوا صغارًا، استمرت الحياة جميلة وممتعة، وكان يشعر بالبهجة وسط أهله وأبناء قريته، طيبة أهل القرية حافظت على أصالتها، ولم تتغير بتسرب أدوات الحضارة إليها.
عندما يستيقظ صباحًا كانت معاناته اليومية الوحيدة شئون المنزل، فلم يكن بالإمكان في تلك المنطقة أن يحصل على من يساعده في ذلك، البيت بحاجة إلى تنظيف، والملابس لابد من غسلها وكيِّها، وطهي الطعام همٌّ يومي متعب، تذكر زوجته وبناته وتمنى لو كان بعضهن بقربه لرفع هذه المعاناة عنه، تفكرت إحدى زوجات أبنائه بحاله، ووحدته، ولم تكن قد خطرت على باله من قبل، فما كان منها إلا أن طلبت من زوجها زيارة أبيه في القرية، رحب بهم، وفرح بمجيئهم، وشعر بالسعادة عندما رأى أحفاده يلعبون في حديقة منزله، ويتراكضون بين الأشجار.
خلال يومي الخميس والجمعة، قامت زوجة ابنه بتنظيف المنزل كاملًا، وغسل الملابس وكيِّها، وإعداد بعض الطعام ليومين أو ثلاثة، وسألته صراحة إذا كان لا يمانع في حضورها لخدمته بين الحين والآخر، فرح كثيرًا بعرضها، وفرح الابن لطيبة زوجته وكرمها مع والده، وصار الأب كل يوم أربعاء ينتظر حضورهم بفارغ الصبر، ومع المساء يكون وصولهم، وفي صبيحة يوم الخميس تبدأ زوجة الابن مهمتها المعتادة، وتشعر بالسعادة لإسعادها شخصًا هو بحاجه إليها، وتمر الأيام، وزوجة الابن لا تكل ولا تمل من هذه المهمة التي تقوم بها، وهذا الواجب الذي ألزمت نفسها به.
في ذلك اليوم، خرج الابن من عمله مسرعًا، فسأله زميل له عن سر استعجاله الخروج كل يوم أربعاء، فأخبره بحكاية زوجته مع والده، وبرها به، فتعجب لطيبتها وصبرها، وقال للابن:
- لماذا لا يتزوج والدك ويريحكم من هذا العناء؟!
- والدي متقاعد، ولم يفكر بذلك، ومن ثم لا أعتقد بأنه هناك من تقبل به بعد هذا العمر.
- اسمع، لدي أخت، قد فاتها قطار الزواج قبل سنوات طويلة، وهي تعيش مضطهدة بين زوجات إخوتي.
- هل تعني زواج أختك والدي؟!
- ما المانع؟!
- لا أعلم، ولكن أستبعد أن يوافق أحدهما على الآخر.
- ليستفهم كل واحد منا الموضوع من طرفه، ويرى النتيجة، ولنا لقاء يوم السبت إن شاء الله.
ذهب الابن، واصطحب زوجته وأولاده لزيارة والده، لم يخبر زوجته بقصته مع صديقه، هناك تباحث مع والده الأمر فوجد قبولًا لفكرة الزواج مرة أخرى.
يوم السبت التقى صديقه وكل منهما في شوق لمعرفة النتيجة مع الآخر، وكانت موافقة أخت زميله مفاجأة مفرحة له، فأخبر زوجته بالأمر، وبعد فترة تم الموضوع، فرحت زوجة الابن ليس لخلاصها من خدمة والد زوجها، بل لخلاصه هو من تلك الوحدة، ولعودة الاستقرار إلى حياته.
قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46].
أبنائي الأعزاء... بناتي العزيزات.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... أما بعد:
منذ سنوات طويلة، وعندما توفي والدكم رحمه الله، كنتم صغارًا، ولم يخلف لنا والدكم شيئًا نقتات به، فهو كما تعلمون كان يعمل لقوت يومه فقط، وكان الوقت قد حان لدخولكم المدارس، وقد طرقت كل باب شريف لطلب الرزق لي ولكم، عملت بالخياطة، وبعض المستلزمات المنزلية للجيران، والأقارب، والمعارف بمقابل مادي، مرت الأيام وأنتم تصعدون درجات العلم يوما بعد يوم، وأنا أعمل لألبي طلباتكم، وأقوم على خدمتكم ورعايتكم.
حفرت الصخر بأظافري، والفرح كان يغمرني لنجاحكم، والكل كان يمتدحكم، ويثني على تربيتكم، وحصلتم على أكبر الرواتب، انتظرت الحصاد، فقد زرعت في شبابي، وانتظرت النتيجة!!
أحبتي... بينما أنتم في بيوتكم... مع أبنائكم وزوجاتكم... أنا أبقى أيامًا طويلة وحيدة، أنتظر بفارغ الصبر مكالمة هاتفية.. أعلل نفسي بزيارة خاطفة.. هل تعتقدون أن اتصالاتكم فيما بينكم للاجتماع في بيتي يوم الخميس أو الجمعة هو ما أريد... لا يا أحبتي.. لقد كبرت.. وأحاديث زوجاتكم في هذا الاجتماع عن الأزياء وطرق الطهي لم تعد تروق لي... وصيحات أبنائكم وعبثهم لم أعد أطيقها.. أنا أريدكم أنتم.. أريد مكالمات خاصة بي.. أريد زيارتكم دون الزوجات والأطفال.. أريد أن أتمتع بقدح من الشاي وأنتم حولي.. أريد أن أتناول لقمة طيبة بمشاركتكم.. البيت يحتاج... ولساني ينعقد أمام زوجاتكم.. أين أنتم يا أبنائي.. أين أنتن يا بناتي الحبيبات.. اشتقت لكم.. وقلبي يحنُّ لخصوصية بيني وبينكم جميعًا.
والدتكم.
أبنائي وبناتي الأعزاء
سلام الله عليكم جميعا.. أما بعد:
أعلم أنكم من فضل المولى عز وجل تحاولون إسعادي ولكني أصدقكم القول أن طريقتكم لا تعجبني.. وغير مريحة لي أبدًا.. فأنا كبرت.. وأنشد الراحة والهدوء... وأنتم تحضرون جماعة مع الزوجات والأطفال.. فتكون جلستكم جلسة صخب وإزعاج.. وتنشغلون فيها بأحاديث لا تناسبني.. تتحدثون عن السيارات.. وأجهزة الحاسوب.. والتقنية الحديثة.. وأنا لا أفقه من ذلك شيئًا.. ووسط الأسبوع تعصف بي الأحزان.. وأصارع همومي وحيدًا.. أين أنتم أيام الأسبوع؟ لماذا لا تتصلون للاطمئنان علي؟ كل وقت.. أريد عبد الله اليوم.. وأريد من خالد أن يفاجئني بزيارة جميلة في الغد.. وأنت يا سارة لعلك تمنحيني زيارة جميلة يوم الاثنين.. وهكذا.. ولن أمانع في اجتماعكم ما دمت قد ارتويت من بركم خلال أيام الأسبوع.. ولا تنسوا أبنائي الأعزاء.. فحاجتي إليكم اليوم تصل مداها.. ليس إلى جيوبكم وأموالكم.. ولكن إلى بركم.. وجميل تعاملكم..
والدكم
* عن موسى بن عقبة قال: سمعت الزهري يقول: كان علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لا يأكل مع أمه، وكان أبر الناس بها، فقيل له في ذلك؟! فقال: أخاف أن آكل معها فتسبق عينها إلى شيء من الطعام وأن لا أعلم به فآكله؛ فأكون عققتها.
* قال سفيان بن عيينة: قدم رجل من سفر، فصادف أمه قائمة تصلي، فكره أن يقعد وأمه قائمة، فعلمت ما أراد، فطوَّلت ليؤجر.
* كان الزبير بن هشام بارًّا بأبيه، إن كان ليرقي إلى السطح في الحر فيؤتى بالماء البارد، فإذا ذاقه فوجد برده لم يشربه وأرسله إلى أبيه.
* رأى ابن عمر رضي الله عنهما رجلًا قد حمل أمه على رقبته وهو يطوف بها حول الكعبة، فقال: يا ابن عمر! أتراني جازيتها؟ قال: ولا بطلقة واحدة من طلقاتها، ولكن قد أحسنت، والله يثيبك على القليل كثيرًا.
* سئل فضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: كيف يكون البر بالوالدين؟
فأجاب فضيلته: إن البر بالوالدين يعني الإحسان إليهما بالمال والجاه والنفع البدني، وهو واجب.
*وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين: لماذا فضَّل الله الأم على الأب، وقد خص الرسول r الأم ثلاث مرات والأب مرة واحدة؟
فأجاب فضيلته: ثبت في الصحيح عن أبي هريرة أن رجلًا قال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أمك» قال: ثم من؟ قال: «أمك» قال: ثم من؟ قال: «أمك» قال: ثم من؟ قال «أبوك»، وفي رواية «أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك، ثم أدناك أدناك»، وفي هذا عظم حق الأم على الوالد حيث جعل لها ثلاثة حقوق، سبب ذلك أنها صبرت على المشقة والتعب، ولاقت من الصعوبات في الحمل والوضع والفصال والرضاع والحضانة والتربية الخاصة ما لم يفعله الأب، وجعل الأب حقًّا واحدًا مقابل نفقته وتربيته وتعليمه وما يتصل بذلك، والله أعلم.
* وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله:
أنا موظف في السلك العسكري، وأستلم راتبًا لا بأس به، وأقدم جزءًا منه إلى أمي تقديرًا لها على تحمل نفقتي في السابق، ولا أعطي الوالد منه شيئًا، لأني لم أتلق منه أية مصروفات حتى وأنا صغير، فهل عليَّ إثم في ذلك؟!
فأجاب سماحته: بر الوالدين من أهم الواجبات وإن كانا لم ينفقا عليك في الصغر، لقول الله سبحانه وتعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] وقوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14].
ويجب عليك أن تبر أباك وتحسن إليه في الفعل والقول، وإذا كان ذا حاجة فعليك أن تواسيه من مرتبك على وجه لا يضرك ولا يضر عائلتك، لقول النبي r: «لا ضرر لا ضرار».
وله أن يطالبك بما يحتاج إليه من المال إذا كان عندك فضل، لقول النبي r: «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم».
فنوصيك به خيرًا وبأمك، وأن تجتهد في برهما والإحسان إليهما، والحرص على رضاهما.
لم نسرد القصص للتسلية، ولم نصغ عباراتها للترويح، ولكن الهدف الأساسي لذلك إنما كان لتحريك شغاف القلوب، وإزالة ما علق بالوجدان، للتذكير بواجب مقدس، أمرنا به رب العزة والجلال، وأوصانا به رسولنا الكريم، ألا وهو الحرص على البر للوالدين، والبعد عن العقوق، فلعل في هذه القصص عبرة وموعظة، وصلى الله على نبينا الكريم محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الفهرس
المقدمـة
القصة الأولى
القصة الثانية: التضحية الكبرى
القصة الثالثةبر بعد العقوق
القصة الرابعةملحمة بر في زمن العقوق
القصة الخامسةإن ربك لبالمرصاد
القصة السادسةثمـرات يانعــة للـبر
القصة السابعةجزاء المعروف
القصة الثامنةمن عمل صالحًا فلنفسه
رسالة من أم
رسالة من أب
صور مشرفة للبر
فتاوى حول البر والعقوق
خاتمة المطاف
الفهرس 39
=