الأربعاء، 29 يونيو 2022

الإيمان بالموت وما بعده من سؤال القبر وعذابه ونعيمه وما يتعلق بالموت من مسائل كتبه محمد سعد عبدالدايم

 

الإيمان بالموت وما بعده من سؤال القبر وعذابه ونعيمه وما يتعلق بالموت من مسائل كتبه محمد سعد عبدالدايم

 

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ

(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ))

((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا))

(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ))

أَمَّا بَعْدُ :

فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ

وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ وَكُلُّ ضَلالَةٍ فِي النَّارِ

وإِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ

يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ .. فَإِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى .

 

في هذا الكتاب نتعرض لعقيدة هامة من عقائد الإسلام ، وهي جزء أصيل من الإيمان بالله واليوم الآخر ..

فإن اليوم الآخر لكل إنسان يبدأ من لحظات موته .. وهذه هي القيامة الصغرى التي تكون لكل إنسان .. فتجري عليه أحكام الآخرة .. من نزول الملائكة ونزع الروح وسؤال الملائكة وما يجري عليه من الجزاء في قبره .. وما يلاقيه في حياته الثانية في البرزخ ..

هذا .. بإذن الله تعالى نتكلم هنا عن العقيدة الصحيحة التي يجب أن تكون عند المسلم تجاه هذا الأمر الجلل .. وما جاء من نصوص الكتاب والسنة في بيان هذه العقيدة

ونتكلم بإذن الله عن كل ما يمر به المسلم وغير المسلم بداية من لحظات الموت وظهور علاماته وما يمر به بعد ذلك من مراحل ..

فنتكلم عن حالات الاحتضار ونزع الروح وما يعقب ذلك من سؤال الملكين وما يكون في القبر وما يجري فيه من أحداث للبر والفاجر .. وما يمر به الإنسان من مراحل وحتى استقرار الروح في مقامها التي أراده الله تعالى في الحياة البرزخية

ونتكلم عن إثبات عذاب القبر والأدلة على ذلك من كتاب وسنة وإجماع

وما هي أسباب عذاب القبر وطرق النجاة منها العامة والخاصة ، وما هي علامات حسن الخاتمة والأسباب الموصلة إليها

كما نذكر مسألة تمني الموت وما يتعلق بها من حالات وأحكام ، ونفرد فصلاً للكلام عن موت الفجأة ، ونختم بالكلام عن الأداب الواجبة نحو الموتى وحكم النياحة وما يتعلق بذلك من مسائل .. وبإذن الله نتبع هذا الكتاب بجزء آخر نذكر فيها أحكام الجنائز

والله تعالى نسال القبول والعفو العافية .. وصلِ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .. والحمد لله رب العالمين

كتبه : محمد سعد عبدالدايم

غرة شعبان 1436 للهجرة المشرفة

19 مايو 2015 م

الإيمان بالموت

 

الموت حقيقة مشاهدة ، ولا يجهله أحد ، وليس فيه شك ولا تردد ، ولكن المقصود بالإيمان بالموت هو اعتقاد مخصوص لدى أهل الإسلام ، يخالفون فيه أهل الشرك الذين قال الله تعالى عنهم :

((وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ))

فأهل الشرك ومن تبعهم من الملحدين يعتقدون أن الحياة والموت عادات تحدث ، يموت أناس ويحيا أناس ، وليس ذلك من إله يقدر ويحيي ويميت ، وأنهم ينتهون بموتهم لا يبعثون مرة أخرى ولا يجازون بأعمالهم ، وقولهم هذا صادر عن غير علم ((إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ)) فأنكروا المعاد وكذبوا الرسل الصادقين من غير دليل دلهم على ذلك ولا برهان ، إن هي إلا ظنون واستبعادات خالية عن الحقيقة .

أما أهل الإسلام فلهم عقائد خاصة في الموت ، أثبتها الهق تعالى في كتابه الكريم وقررها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته ، فهو عقيدة هامة من عقائد المسلمين ، وركنًا هامًا من أركان الإيمان العظيمة الثابتة .

كما أنه يترتب على الاعتقاد بالموت وما فيه وما بعده آثار وأعمال هامة في حياة المؤمنين ، فالموت أول مراحل الآخرة ، وهو بداية مجازاة العباد ومحاسبتهم على أعمالهم ، وبعده تكون بداية هذه المجازاة ، ويكون النعيم أو العذاب .

لذا يتوقف عملهم كله في الدنيا على العيش من أجل هذه اللحظات ، فالسعيد من وفقه الله تعالى لطاعته والشقي عكس ذلك

وهذه العقيدة الهامة لها درجات وأركان نذكرها فيما يلي :

 

أولاً : وجوب الإيمان بالموت :

الإيمان بالموت من أمور ومسائل الإيمان التي يجب الإيمان بها ، واعتناق الاعتقاد الصحيح بها ولا يتحقق إيمان العبد إلا عندما يؤمن بالموت ، وبالصورة الصحيحة .

 

عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( لا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِأَرْبَعٍ : يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنِّي مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ بَعَثَنِي بِالْحَقِّ وَيُؤْمِنُ بِالْمَوْتِ ، وَبِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَيُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ ))

 

قَالَ الْقَارِي نَقْلاً عَنْ الْمُظْهِرِ :

الْمُرَادُ بِهَذَا الْحَدِيثِ نَفْيُ أَصْلِ الإِيمَانِ لا نَفْيُ الْكَمَالِ . فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الأَرْبَعَةِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا .

الأَوَّلُ : الإِقْرَارُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى كَافَّةِ الإِنْسِ وَالْجِنِّ .

وَالثَّانِي : أَنْ يُؤْمِنَ بِالْمَوْتِ أَيْ يَعْتَقِدَ فَنَاءَ الدُّنْيَا وَهُوَ اِحْتِرَازٌ عَنْ مَذْهَبِ الدَّهْرِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَبَقَائِهِ أَبَدًا . قَالَ الْقَارِي وَفِي مَعْنَاهُ التَّنَاسُخِيُّ , وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ اِعْتِقَادُ أَنَّ الْمَوْتَ يَحْصُلُ بِأَمْرِ اللَّهِ لا بِفَسَادِ الْمِزَاجِ كَمَا يَقُولُهُ الطَّبِيعِيُّ .

وَالثَّالِثُ : أَنْ يُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ .

وَالرَّابِعُ : أَنْ يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ يَعْنِي بِأَنَّ جَمِيعَ مَا يَجْرِي فِي الْعَالَمِ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ .

 

قوله : نفي أصل الإيمان :

أي ينتفي عنه الإيمان بالكلية ، فيكون كافرًا إن لم يؤمن بالموت على مراد الشريعة

 

 

وعن ابن عباس قَالَ :

(( جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسًا لَهُ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلام فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنِي مَا الإِسْلامُ ؟

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الإِسْلامُ أَنْ تُسْلِمَ وَجْهَكَ لِلَّهِ ، وَتَشْهَدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، قَالَ : فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَنَا مُسْلِمٌ ؟ قَالَ : إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقَدْ أَسْلَمْتَ .

قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَحَدِّثْنِي مَا الإِيمَانُ ؟

قَالَ : الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ ، وَالْمَلائِكَةِ ، وَالْكِتَابِ ، وَالنَّبِيِّينَ ، وَتُؤْمِنَ بِالْمَوْتِ ، وَبِالْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَتُؤْمِنَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، وَالْحِسَابِ ، وَالْمِيزَانِ ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ .

قَالَ : فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَقَدْ آمَنْتُ ؟

قَالَ : إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقَدْ آمَنْتَ .

قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنِي مَا الإِحْسَانُ ؟

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الإِحْسَانُ أَنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَرَهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ .

قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَحَدِّثْنِي مَتَى السَّاعَةُ ؟

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : سُبْحَانَ اللَّهِ فِي خَمْسٍ مِنْ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهُنَّ إِلا هُوَ "إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" وَلَكِنْ إِنْ شِئْتَ حَدَّثْتُكَ بِمَعَالِمَ لَهَا دُونَ ذَلِكَ

قَالَ : أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَحَدِّثْنِي .

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِذَا رَأَيْتَ الأَمَةَ وَلَدَتْ رَبَّتَهَا أَوْ رَبَّهَا وَرَأَيْتَ أَصْحَابَ الشَّاءِ تَطَاوَلُوا بِالْبُنْيَانِ وَرَأَيْتَ الْحُفَاةَ الْجِيَاعَ الْعَالَةَ كَانُوا رُءُوسَ النَّاسِ فَذَلِكَ مِنْ مَعَالِمِ السَّاعَةِ وَأَشْرَاطِهَا

قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ أَصْحَابُ الشَّاءِ وَالْحُفَاةُ الْجِيَاعُ الْعَالَةُ ؟ قَالَ : الْعَرَبُ ))

ففي هذا الحديث بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإيمان بالموت ركن من أركان الإيمان ، يجب اعتقاده والإيمان به .

 

ثانيًا : الموت بأمر الله وقدره :

وهو أن نؤمن أن الموت من عند الله وبأمره وبقدره ، فالإنسان لا يموت إلا بأمر من الله تعالى ، بل الكائنات كلها

قال تعالى (( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ))

وقال تعالى (( نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ))

أي قضينا به عليكم وكتبناه عليكم وجعلنا لكل واحد أجلاً معيناً لا يتعداه ولا يتأخر منه بحال من الأحوال ، فلا يستطيع أحد منكم أن يمنعنا من إماتته وفي الوقت المحدد له (وما نحن بمسبوقين) أي بعاجزين

 

وقال تعالى عن موت سليمان عليه السلام :

((فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ))

فيخبر تعالى أن موت سليمان عليه السلام بقضاءه وقدره ، وكذلك جميع المخلوقات

 



 

 

ثالثًا : أن  الله سبحانه هو الذي يحيي ويميت :

قال تعالى :

(( قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ))

وقال تعالى :

(( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ))

وقال تعالى :

(( إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ))

وقال تعالى :

(( أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ، هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ))

وقال تعالى :

(( لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ))

فالله تبارك وتعالى هو الواحد الأحد الذي لا إله إلا هو لا رب سواه ، وهو كذلك الذي يحيي ويميت لا يشاركه أحد في ذلك ، فهو الذي يهب الحياة لمن يشاء ، ويخلقه ابتداءًا من العدم ، وهو الذي يميت هذا المخلوق .

فكما نؤمن بأن الله تعالى هو خالق الأحياء ومخرجهم من العدم ، فنؤمن كذلك أنه تعالى هو الذي يميتهم ويتوفاهم .

فالله سبحانه هو الذي يتوفى الأنفس :

قال تعالى :

(( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ))

فالله عز وجل يتوفى الأنفس حين نومها ويقبضها ، فيرسل من شاء لها استكمال الحياة ويقبض عنده سبحانه من شاء لها الموت ، وصح في الحديث (أن النوم أخر الموت)

وقال تعالى :

((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ))

وقال تعالى :

(( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ))

وقال تعالى :

(( وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَي الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ ))

فالله سبحانه وإن كان وَكَّلَ ملائكة بقبض أرواح بني آدم ، إلا أن الله سبحانه هو صاحب الأمر والقضاء وهو الفاعل حقيقة

فعن أَبِي قَتَادَةَ قَالَ :

(( سِرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ : لَوْ عَرَّسْتَ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : أَخَافُ أَنْ تَنَامُوا عَنْ الصَّلَاةِ ، قَالَ بِلَالٌ : أَنَا أُوقِظُكُمْ ، فَاضْطَجَعُوا وَأَسْنَدَ بِلَالٌ ظَهْرَهُ إِلَى رَاحِلَتِهِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَنَامَ ، فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَقَالَ : يَا بِلَالُ أَيْنَ مَا قُلْتَ ؟ قَالَ : مَا أُلْقِيَتْ عَلَيَّ نَوْمَةٌ مِثْلُهَا قَطُّ ، قَالَ :

إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ حِينَ شَاءَ وَرَدَّهَا عَلَيْكُمْ حِينَ شَاءَ ، يَا بِلَالُ قُمْ فَأَذِّنْ بِالنَّاسِ بِالصَّلَاةِ فَتَوَضَّأَ فَلَمَّا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ وَابْيَاضَّتْ قَامَ فَصَلَّى ))

 

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَمَرَ رَجُلًا إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ قَالَ :

(( اللَّهُمَّ خَلَقْتَ نَفْسِي وَأَنْتَ تَوَفَّاهَا لَكَ مَمَاتُهَا وَمَحْيَاهَا إِنْ أَحْيَيْتَهَا فَاحْفَظْهَا وَإِنْ أَمَتَّهَا فَاغْفِرْ لَهَا اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ .

فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ أَسَمِعْتَ هَذَا مِنْ عُمَرَ ؟

فَقَالَ : مِنْ خَيْرٍ مِنْ عُمَرَ ، مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ))

 

ويؤيد ذلك أيضًا ما جاء :

عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :

(( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنْ اللَّيْلِ وَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ خَدِّهِ ثُمَّ يَقُولُ : اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا

وَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ))

 

فهذا يدل على أن النوم موت ، وأن الله تعالى هو الذي يقبض الأنفس وهو الذي يرسلها إذا شاء فكان صلى الله عليه وسلم يحمد الله على أن أحياه بعد استيقاظه

 

 

وعن جابر رضي الله عنه :

(( سأل رجلٌ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : أينامُ أهلُ الجنةَ ؟ قال: النومُ أخو الموتِ ، ولا يموتُ أهلُ الجنةِ ))

فالله هو الذي يتوفى الأنفس ويقبضها ويرسلها ، والأحاديث في هذا الأمر كثيرة .

 



 

رابعًا : تفرد الله بالإحياء والإماتة لا شريك له :

قال تعالى : (( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ))

قال السعدي : يخبر تعالى أنه وحده المنفرد بخلقكم ورزقكم وإماتتكم وإحيائكم، وأنه ليس أحد من الشركاء التي يدعوهم المشركون من يشارك اللّه في شيء من هذه الأشياء.

فكيف يشركون بمن انفرد بهذه الأمور من ليس له تصرف فيها بوجه من الوجوه؟!

فسبحانه وتعالى وتقدس وتنزه وعلا عن شركهم، فلا يضره ذلك وإنما وبالهم عليهم .

فالإيمان بتفرد الله تعالى في ذلك ، وأنه لا شريك له في ذلك ، من لوازم ومقتضيات التوحيد وأصول الإيمان .

 



خامسًا: الموت حق على كل نفس :

قال تعالى :

(( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))

وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم :

(( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ))

وقال تعالى :

(( وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ))

وقال تعالى :

(( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ))

وقال تعالى :

(( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ))

وقال تعالى :

(( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ))

وغير ذلك من الآيات

 

وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ :

((أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ))

فكل الخلق كتب الله عليه الموت والفناء ، ولا يبقى إلا الله العلي الكبير ، فهو الحي الذي لا يموت ، وكل شيء سواه سبحانه ، كتب الله عليه الفناء والهلاك .. فالكل فقير مربوب للرب القدير الحي الذي لا يموت ، وهذه من أعظم صور تفرد الله تبارك وتعالى ووحدانيته عز وجل

 



سادسًا : لكل إنسان  أجله الذي يموت فيه :

قال تعالى :

(( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ))

أي لكل مدة كتاب ، كتبت فيه المدة المحددة ، فهذا أمر عام في كل شيء ، أن جعل الله له مدة وأجل لا يتعداها .

وقال تعالى :

((وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ))

أي: وقد أخرج اللّه بني آدم إلى الأرض، وأسكنهم فيها، وجعل لهم أجلاً مسمى لا تتقدم أمة من الأمم على وقتها المسمى، ولا تتأخر، لا الأمم المجتمعة ولا أفرادها.

وقال تعالى

(( وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ، لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ))

أي : اعلموا أنه لكل أمة من الأمم أجل أي وقت محدد لهلاكها وموتها فيه ، فلا يتأخرون عنه ساعة ولا يتقدمون عليه بأخرى .

وقال تعالى :

(( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ))

وقال تعالى :

(( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ))

 

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قَالَ :

(( إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ وَيُقَالُ لَهُ :

اكْتُبْ عَمَلَهُ ، وَرِزْقَهُ ، وَأَجَلَهُ ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ

فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ لَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ كِتَابُهُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ

وَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ إِلَّا ذِرَاعٌ ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ))

فكل إنسان مقدر له عمره ، ويكتب الله له ذلك حين ينفخ فيه الروح في بطن أمه ، ولا يتقدم عن هذا الأجل ولا يتأخر طرفة عين .

 

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ :

(( قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "اللَّهُمَّ أَمْتِعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ ، وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ" ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

قَدْ سَأَلْتِ اللَّهَ لآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ ، وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ ، لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ ، أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ

وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ أَوْ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ كَانَ خَيْرًا وَأَفْضَلَ ))

فأخبرها صلى الله عليه وسلم أن الآجال مقدرة لا يتأخر منها شيء ولا يتقدم ؟.

 

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :

(( خَطَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا مُرَبَّعًا ، وَخَطَّ خَطًّا فِي الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ وَخَطَّ خُطَطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ وَقَالَ :

هَذَا الإِنْسَانُ وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ ، أَوْ قَدْ أَحَاطَ بِهِ ، وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ ، وَهَذِهِ الْخُطَطُ الصِّغَارُ الأَعْرَاضُ ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا ، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا ))

قَوْله ( خَطَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا مُرَبَّعًا ) الْخَطّ الرَّسْم وَالشَّكْل , وَالْمُرَبَّع الْمُسْتَوِي الزَّوَايَا

قَوْله ( وَخَطَّ خَطًّا فِي الْوَسَط خَارِجًا مِنْهُ وَخَطَّ خُطَطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوَسَط مِنْ جَانِبه الَّذِي فِي الْوَسَط ) فَالإِشَارَة بِقَوْلِهِ " هَذَا الإِنْسَان " إِلَى النُّقْطَة الدَّاخِلَة , وَبِقَوْلِهِ " وَهَذَا أَجَله مُحِيط بِهِ " إِلَى الْمُرَبَّع , وَبِقَوْلِهِ " وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِج أَمَله " إِلَى الْخَطّ الْمُسْتَطِيل الْمُنْفَرِد , وَبِقَوْلِهِ " وَهَذِهِ إِلَى الْخُطُوط " وَهِيَ مَذْكُورَة عَلَى سَبِيل الْمِثَال لا أَنَّ الْمُرَاد اِنْحِصَارهَا فِي عَدَد مُعَيَّن

قَوْله ( الأَعْرَاض ) جَمْع عَرَض بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ مَا يُنْتَفَع بِهِ فِي الدُّنْيَا فِي الْخَيْر وَفِي الشَّرّ

قَوْله ( نَهَشَهُ ) أَيْ أَصَابَهُ .

وقال الْكَرْمَانِيُّ بِأَنَّ لِلْخَطِّ الدَّاخِل اِعْتِبَارَيْنِ : فَالْمِقْدَار الدَّاخِل مِنْهُ هُوَ الإِنْسَان وَالْخَارِج أَمَله , وَالْمُرَاد بِالأَعْرَاضِ الآفَات الْعَارِضَة لَهُ فَإِنْ سَلِمَ مِنْ هَذَا لَمْ يَسْلَم مِنْ هَذَا وَإِنْ سَلِمَ مِنْ الْجَمِيع وَلَمْ تُصِبْهُ آفَة مِنْ مَرَض أَوْ فَقْد مَال أَوْ غَيْر ذَلِكَ بَغَتَهُ الأَجَل .

وَالْحَاصِل أَنَّ مَنْ لَمْ يَمُتْ بِالسَّيْفِ مَاتَ بِالأَجَلِ . وَفِي الْحَدِيث إِشَارَة إِلَى الْحَضّ عَلَى قِصَر الأَمَل وَالاسْتِعْدَاد لِبَغْتَةِ الأَجَل . وَعَبَّرَ بِالنَّهْشِ وَهُوَ لَدْغ ذَات السُّمّ مُبَالَغَة فِي الإِصَابَة وَالإِهْلاك

 

وعَنْ أَنَسٍ قَالَ :

(( خَطَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطُوطًا فَقَالَ : هَذَا الأَمَلُ وَهَذَا أَجَلُهُ ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَهُ الْخَطُّ الأَقْرَبُ ))

 

وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ :

(( كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ إِحْدَى بَنَاتِهِ تَدْعُوهُ وَتُخْبِرُهُ أَنَّ صَبِيًّا لَهَا أَوْ ابْنًا لَهَا فِي الْمَوْتِ فَقَالَ لِلرَّسُولِ : ارْجِعْ إِلَيْهَا فَأَخْبِرْهَا أَنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ .. الحديث ))

( وَكُلّ شَيْء عِنْده بِأَجَلٍ مُسَمَّى ) فَإِنَّ كُلّ مَنْ يَأْتِ قَدْ اِنْقَضَى أَجَله الْمُسَمَّى فَمُحَال تَقَدُّمه أَوْ تَأَخُّره عَنْهُ , فَإِذَا عَلِمْتُمْ هَذَا كُلّه فَاصْبِرُوا وَاحْتَسِبُوا مَا نَزَلَ بِكُمْ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ

 

 

 

.



 

 

 

 

 

سابعًا : لا مفر ولا حماية لأحد من الموت :

قال تعالى

(( أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ))

وقال تعالى

(( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ))

وقال تعالى :

(( الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ))

فالموت حتم في موعده المقدر . ولا علاقة له بالحرب والسلم . ولا علاقة له بحصانة المكان الذي يحتمي به الفرد أو قلة حصانته . ولا يؤخره أن يؤخر عنهم تكليف القتال إذًا ؛ ولا هذا التكليف والتعرض للناس في الجهاد يعجله عن موعده . .

هذا أمر وذاك أمر؛ ولا علاقة بينهما .

إنما العلاقة هناك بين الموت والأجل . بين الموعد الذي قدره الله وحلول ذلك الموعد . . وليست هنالك علاقة أخرى . . ولا معنى إذن لتمني تأجيل القتال . ولا معنى إذن لخشية الناس في قتال أو في غير قتال !

كما أن كل إنسان مهما بلغت قوته أو جبروته أو حمايته فإنه مقهور مربوب لله تعالى لا يستطيع الامتناع أو أن يحمي نفسه من نفاذ قدر الله تعالى فيه ..

فما هم فيه من عزة ومنعة كما يتخيلون هو يمثابة الهباء المنثور .. ولا قيمة له أمام أمر الله تعالى وقوته وجبروته .

فهو سبحانه ((القاهر فوق عباده)) .. لا يمتنع منه أحد



ثامنًا : الموت مخلوق من مخلوقات الله تعالى  :

قال تعالى :

(( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ))

قال ابن كثير :

((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ)) واستدل بهذه الآية من قال: إن الموت أمر وجودي لأنه مخلوق.

ومعنى الآية : أنه أوجد الخلائق من العدم، ليبلوهم ويختبرهم أيهم أحسن عملاً

كما قال (( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ)) فسمى الحال الأول -وهو العدم- موتًا، وسمى هذه النشأة حياة. ولهذا قال ((ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ)) .

 

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ ، فَيُنَادِي مُنَادٍ : يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ : هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ ، ثُمَّ يُنَادِي : يَا أَهْلَ النَّارِ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ ، فَيَقُولُ : هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ فَيُذْبَحُ ثُمَّ يَقُولُ : يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ ، ثُمَّ قَرَأَ : "وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ" ، وَهَؤُلَاءِ فِي غَفْلَةٍ أَهْلُ الدُّنْيَا ، "وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ" ))

وهذا الحديث أيضًا يدل على أن الموت مخلوق وأن الله تعالى يجعل له هيئة يتعرف بها الناس عليه يوم القيامة ، ويدل أيضًا على أن الله تعالى يقضي على الموت بالنهاية ، وبعدها يكون الخلود لأهل الجنة وأهل النار .



تاسعًا : اختصاص الله تبارك وتعالى بعلم الآجال ومكان الموت :

قال تعالى :

(( إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ))

قال ابن كثير :

ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض ، أفي بحر ، أم بر ، أو سهل أو جبل .

قال السعدي :

قد تقرر أن اللّه تعالى أحاط علمه بالغيب والشهادة، والظواهر والبواطن، وقد يطلع اللّه عباده على كثير من الأمور الغيبية، وهذه الأمور الخمسة، من الأمور التي طوى علمها عن جميع المخلوقات، فلا يعلمها نبي مرسل، ولا ملك مقرب ، فضلا عن غيرهما

فقال (( إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ )) أي: يعلم متى مرساها

كما قال تعالى (( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً )) الآية.

(( وَيُنزلُ الْغَيْثَ )) أي: هو المنفرد بإنزاله، وعلم وقت نزوله.

(( وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ )) فهو الذي أنشأ ما فيها، وعلم ما هو، هل هو ذكر أم أنثى، ولهذا يسأل الملك الموكل بالأرحام ربه: هل هو ذكر أم أنثى؟ فيقضي اللّه ما يشاء.

(( وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا )) من كسب دينها ودنياها .

(( وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ )) بل اللّه تعالى ، هو المختص بعلم ذلك جميعه.

ولما خصص هذه الأشياء، عمم علمه بجميع الأشياء فقال (( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ )) محيط بالظواهر والبواطن، والخفايا والخبايا، والسرائر، ومن حكمته التامة، أن أخفى علم هذه الخمسة عن العباد، لأن في ذلك من المصالح ما لا يخفى على من تدبر ذلك .

 

وفي الحديث : عن عَبْدِ اللَّهِ بن عمر : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ : إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ، وَيُنْزِلُ الْغَيْثَ ، وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ ، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا ، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" ))

 

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( إِذَا كَانَ أَجَلُ أَحَدِكُمْ بِأَرْضٍ ، أَوْثَبَتْهُ إِلَيْهَا الْحَاجَةُ ، فَإِذَا بَلَغَ أَقْصَى أَثَرِهِ ، قَبَضَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ، فَتَقُولُ الأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : رَبِّ هَذَا مَا اسْتَوْدَعْتَنِي ))

 

وعن أبي عزة الهذلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

(( إذا أراد الله قبض عبد بأرض ، جعل له فيها حاجة ))

 

وعن أسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

(( ما جعل الله ميتَة عبد بأرض ، إلا جعل له فيها حاجة ))



 

الملك الموكل بقبض الأرواح

 

نؤمن بأن الله تعالى وكل ملكًا لقبض الأرواح ، وجعل له أعوانًا من الملائكة يعملون معه  كما ذكر الله تعالى في عدة مواضع من القرآن أن هناك ملائكة تقوم بنزع الروح من الجسد ، وكما صح في حديث البراء أنهم يخلصون الروح من الجسد حتى إذا بلغت الحلقوم انتزعها ملك الموت .

واسم هذا الملك (( ملك الموت )) كما ذكر الله تعالى ، وهذا هو الصحيح في اسمه ولم يصح غير هذا .

قال تعالى :

((قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ))

وقال تعالى :

((وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ))

قال الإمام الطبري :

عن قَتادة:(قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) قال: ملك الموت يتوفاكم، ومعه أعوان من الملائكة.

عن مجاهد قوله :

(يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ المَوْتِ) قال: حويت له الأرض فجُعلت له مثل الطست يتناول منها حيث يشاء ، وعن مجاهد، بنحوه.

 

 

قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله :

قوله تعالى : (( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ ))

ظاهره هذه الآية الكريمة أن الذي يقبض أرواح الناس ملك واحد معين ، وهذا هو المشهور ، وقد جاء في بعض الآثار أن اسمه عزرائيل (لا تصح التسمية بذلك ولا تثبت) .

وقد بين تعالى في آيات أخر أن الناس تتوفاهم ملائكة لا ملك واحد كقوله تعالى :

((إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ))

وقوله تعالى ((فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ))

وقوله تعالى ((وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون فِي غَمَرَاتِ الموت والملائكة باسطوا أَيْدِيهِمْ))

وقوله تعالى ((حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ))  إلى غير ذلك من الآيات .

وإيضاح هذا عند أهل العلم أن الموكل يقبض الأرواح ملك واحد ، هو المذكور هنا ، ولكن له أعوان يعملون بأمره ينتزعون الروح إلى الحلقوم ، فيأخذها ملك الموت ، أو يعينونه إعانة غير ذلك .

وقد جاء في حديث البراء بن عازب الطويل المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فيه :

« أن ملك الموت إذا أخذ روح الميت أخذها من يده بسرعة ملائكة فصعدوا بها إلى السماء وقد بين فيه صلى الله عليه وسلم ما تعامل به روح المؤمن وروح الكافر بعد أخذ الملائكة له من ملك الموت حين يأخذها من البدن » وحديث البراء المذكور صححه غير واحد ، وأوضح ابن القيم في كتاب الروح بطلان تضعيف ابن حزم له .

 

والحاصل :

أن حديث البراء المذكور ، دل على أن مع ملك الموت ملائكة آخرين يأخذون من يده الروح ، حين يأخذه من بدن الميت .

وأما قوله تعالى ((الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَاَ))  فلا إشكال فيه ، لأن الملائكة لا يقدرون أن يتوفوا أحداً إلا بمشيئته جل وعلا ((وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً))

فتحصل :

أن إسناد التوفي إلى ملك الموت في قوله هنا ((قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ)) لأنه هو المأمور بقبض الأرواح .

وأن إسناده لملائكة في قوله تعالى ((فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ)) ونحوها من الآيات ، لأن لملك الموت أعواناً يعملون بأمره .

وأن إسناده إلى الله في قوله تعالى ((الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا)) لأن كل شيء كائناً ما كان لا يكون إلا بقضاء الله وقدره . والعلم عند الله تعالى .

وورد في الحديث :

عن أبي هُرَيْرَةَ َقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام فَقَالَ لَهُ : أَجِبْ رَبَّكَ ، قَالَ : فَلَطَمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ فَفَقَأَهَا ، قَالَ : فَرَجَعَ الْمَلَكُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ : إِنَّكَ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَكَ لا يُرِيدُ الْمَوْتَ وَقَدْ فَقَأَ عَيْنِي ، فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ وَقَالَ : ارْجِعْ إِلَى عَبْدِي فَقُلْ الْحَيَاةَ تُرِيدُ ، فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْحَيَاةَ فَضَعْ يَدَكَ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَمَا تَوَارَتْ يَدُكَ مِنْ شَعْرَةٍ فَإِنَّكَ تَعِيشُ بِهَا سَنَةً ، قَالَ : ثُمَّ مَهْ ؟ قَالَ : ثُمَّ تَمُوتُ ، قَالَ : فَالآنَ مِنْ قَرِيبٍ ، رَبِّ أَمِتْنِي مِنْ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي عِنْدَهُ لأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ ))

 



 

تعريف الموت

هُوَ صِفَةٌ وُجُودِيَّةٌ خُلِقَتْ ضِدًّا لِلْحَيَاةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى (( خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ )) كما سبق بيانه .

وعند الموت يتم انتزاع الروح من الجسد ، وبه تتم مفارقة الروح للجسد ، وبعده تصير الروح إلى خالقها عز وجل ، فيجعلها الله تعالى حيث شاء من النعيم أو العذاب .. ويرجع الجسد إلى الأرض من حيث خلقه الله تعالى .

كما قال عز وجل ((مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ))

 

والموت ليس معناه العدم أو الفناء :

بل هو مرحلة جديدة يدخل فيها الإنسان وهي المرحلة البرزخية .

قال تعالى

((حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ))

قال ابن كثير :

وفي قوله ((وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ)) تهديد لهؤلاء المحتضرين من الظلمة بعذاب البرزخ، كما قال ((مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ ))  وقال ((وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ))

وقوله ((إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)) أي يستمر به العذاب إلى يوم البعث، كما جاء في الحديث (فلا يزال معذبا فيها) أي : في الأرض.انتهى

 

وقال السعدي :

((وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)) أي: من أمامهم وبين أيديهم برزخ، وهو الحاجز بين الشيئين، فهو هنا: الحاجز بين الدنيا والآخرة، وفي هذا البرزخ، يتنعم المطيعون، ويعذب العاصون، من موتهم إلى يوم يبعثون، أي: فليعدوا له عدته، وليأخذوا له أهبته.انتهى

 

فالموت ليس نهاية الإنسان .. بل هو انتقال إلى مرحلة أخرى فيها حياة من نوع آخر يجازى فيها على عمله .. ويقع فيها النعيم أو العذاب على الروح والجسد ، وكيفية هذه الأمور وكيفية سريانها وكيفة العلاقة بين الروح والجسد وغير ذلك من الأمور لا يعلم كيفيتها إلا الله تعالى ، إنما نؤمن بما جاء في الكتاب والسنة ، فعالم الآخرة عمومًا لا يدرك بالإحساس البشري الدنيوي .. وإذا انتقل الإنسان من مرحلة إلى أخرى علم ما فيها وجرت عليه الأحكام .

 

 

 

 

 



 

 

عدد موتات الإنسان

قال تعالى :

((كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ))

قال ابن كثير :

يقول تعالى محتجًا على وجوده وقدرته، وأنه الخالق المتصرف في عباده (( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ)) أي: كيف تجحدون وجوده أو تعبدون معه غيره

((وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ)) أي قد كنتم عدمًا فأخرجكم إلى الوجود

كما قال تعالى ((أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ))

وقال ((هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا))  والآيات في هذا كثيرة.

عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه :

((قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ))  قال: هي التي في البقرة ((وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ))

وعن ابن عباس :

((كُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ)) : أمواتا في أصلاب آبائكم ، لم تكونوا شيئًا حتى خلقكم، ثم يميتكم موتة الحق، ثم يحييكم حين يبعثكم. قال: وهي مثل قوله ((رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ))

وعن ابن عباس في قوله : ((رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ)) قال :

كنتم ترابًا قبل أن يخلقكم ، فهذه ميتة، ثم أحياكم فخلقكم فهذه حياة، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أخرى، ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة أخرى. فهذه ميتتان وحياتان، فهو كقوله ((كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ))

وهذا هو الصحيح في تفسير الآية .

وقال الشيخ السعدي مؤيدًا نفس التفسير :

ثم قال تعالى (( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ))

هذا استفهام بمعنى التعجب والتوبيخ والإنكار، أي: كيف يحصل منكم الكفر بالله; الذي خلقكم من العدم; وأنعم عليكم بأصناف النعم; ثم يميتكم عند استكمال آجالكم; ويجازيكم في القبور; ثم يحييكم بعد البعث والنشور; ثم إليه ترجعون; فيجازيكم الجزاء الأوفى، فإذا كنتم في تصرفه; وتدبيره; وبره; وتحت أوامره الدينية; ومن بعد ذلك تحت دينه الجزائي; أفيليق بكم أن تكفروا به; وهل هذا إلا جهل عظيم وسفه وحماقة ؟ بل الذي يليق بكم أن تؤمنوا به وتتقوه وتشكروه وتخافوا عذابه; وترجوا ثوابه.

 

 

 

 

 



 

 

هل هناك من يموت أو يعيش أكثر من مرتين ؟

كما مر أن كل إنسان يموت مرتين ويحيا مرتين .. وهذا في جميع أبناء آدم عليه السلام ..

ولكن هناك استثناء لهذه القاعدة حيث أن هناك أقوام أضاف الله لهم موتة ثالثة وحياة ثالثة .. وهؤلاء جاء ذكرهم في القرآن والسنة

 

الموضع الأول من سورة البقرة :

(( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ، ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ))

وهؤلاء هم الذين ذكرهم الله تعالى في سورة الأعراف :

((وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ))

بعد الحدث الجلل الذي حصل في غيبة موسى وذلك هو عبادة بني إسرائيل العجل واتخاذهم له إلهاً فإن الله تعالى وقت لموسى وقتاً يأتيه فيه مع خيار بني إسرائيل يطلب لهم التوبة من الله سبحانه وتعالى . قال تعالى ((واختار موسى قومه سبعين رجلاً)) ولما انتهى بهم إلى جبل الطور وغشيت الجبل غمامة وأخذ موسى يناجي ربه تعالى وهم يسمعون قالوا لموسى لن نؤمن لك بأن الذي كان يكلمك الرب تعالى حتى نرى الله جهرة أي عياناً ، فأخذتهم الصاعقة والرجفة كما ذكر الله تعالى ، فماتوا جميعًا عقوبة لهم على هذا التطاول والتعنت والجراءة على الله تبارك وتعالى .

فلما ماتوا رغب موسى عليه السلام إلى الله تعالى ودعاه ، فمنَّ الله تعالى عليهم فأحياهم بعد أن أماتهم هذه الموتة

فهؤلاء القوم من الذين استثناهم الله فأماتهم ثلاثًا وأحياهم ثلاثًا .

الموضع الثاني من سورة البقرة :

قال تعالى :

(( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ، فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ))

قام أحد اليهود بقتل أحد أقاربه ليرث منه ، وتنازع الناس واختلفوا فيمن قتله ، فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة وهي المذكور قصتها في السورة ، وأمرهم أن يضربوه ببعض أجزاء هذه البقرة بعد ذبحها ، فأحيا الله لهم الميت ، وأخبر عن قاتله .. فهذا ممن كانت له حياة وموتًا ثالثًا .

 

الموضع الثالث من سورة البقرة :

قال تعالى :

(( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ، وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ))

يخاطب الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول ألم ينته إلى علمك قصة الذين خرجوا من ديارهم فراراً من الموت وهم ألوف وهم أهل مدينة من مدن بني إسرائيل أصابها الله تعالى بمرض الطاعون ففروا هاربين بين الموت فأماتهم الله عن آخرهم ثم أحياهم بدعوة نبيهم حِزقيل عليه السلام ، فهل أنجاهم فرارهم من الموت

فكذلك من يفر من القتال هل ينجيه فراره من الموت؟

والجواب : لا

وإذاً فلم الفرار من الجهاد إذا تعينّ ؟

وفي تأديب تلك الجماعة بإماتتها ثم بإحيائها فضل من الله عليها عظيم ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون .

وإذاً فقاتلوا أيها المسلمون في سبيل الله ولا تتأخروا متى دعيتم إلى الجهاد بالنفس والمال ، واعلموا أن الله سميع لأقوالكم عليم بنياتكم وأعمالكم فاحذروه .

فهذه عدة ألوف كتب الله لها الموت والحياة للمرة الثالثة

 

الموضع الرابع من سورة البقرة :

قال تعالى (( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ))

وهذا أيضا دليل آخر على توحد الله بالخلق والتدبير والإماتة والإحياء فقال :

(أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها) أي قد باد أهلها وفني سكانها وسقطت حيطانها على عروشها، فلم يبق بها أنيس بل بقيت موحشة من أهلها مقفرة، فوقف عليها ذلك الرجل متعجباً

و(قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها) استبعادا لذلك وجهلاً بقدرة الله تعالى

فلما أراد الله به خيرا أراه آية في نفسه وفي حماره ، وكان معه طعام وشراب

(فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم) استقصارا لتلك المدة التي مات فيها لكونه قد زالت معرفته وحواسه وكان عهد حاله قبل موته

فقيل له (بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه) أي: لم يتغير بل بقي على حاله على تطاول السنين واختلاف الأوقات عليه، ففيه أكبر دليل على قدرته حيث أبقاه وحفظه عن التغير والفساد، مع أن الطعام والشراب من أسرع الأشياء فسادًا

(وانظر إلى حمارك) وكان قد مات وتمزق لحمه وجلده وانتثرت عظامه، وتفرقت أوصاله

(ولنجعلك آية للناس) على قدرة الله وبعثه الأموات من قبورهم، لتكون أنموذجًا محسوسًا مشاهدًا بالأبصار، فيعلموا بذلك صحة ما أخبرت به الرسل

(وانظر إلى العظام كيف ننشزها) أي ندخل بعضها في بعض، ونركب بعضها ببعض (ثم نكسوها لحما) فنظر إليها عيانًا كما وصفها الله تعالى

(فلما تبين له) ذلك وعلم قدرة الله تعالى (قال أعلم أن الله على كل شيء قدير)

 

والظاهر من سياق الآية أن هذا رجل منكر للبعث أراد الله به خيرًا ، وأن يجعله آية ودليلا للناس لثلاثة أوجه :

أحدها : قوله (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) ولو كان نبياً أو عبداً صالحاً لم يقل ذلك

والثاني : أن الله أراه آية في طعامه وشرابه وحماره ونفسه ليراه بعينه فيقر بما أنكره

ولم يذكر في الآية أن القرية المذكورة عمرت وعادت إلى حالتها، ولا في السياق ما يدل على ذلك، ولا في ذلك كثير فائدة

ما الفائدة الدالة على إحياء الله للموتى في قرية خربت ثم رجع إليها أهلها أو غيرهم فعمروها ؟!

وإنما الدليل الحقيقي في إحيائه وإحياء حماره وإبقاء طعامه وشرابه بحاله

والثالث : في قوله (فلما تبين له) أي تبين له أمر كان يجهله ويخفى عليه

فعلم بذلك صحة ما ذكرناه ، والله أعلم.

 

فهذا الرجل جعل الله له موتًا وحياة ثالثة .

 

 

 

الموضع الخامس من سورة آل عمران :

قال تعالى عن نبيه عيسى عليه السلام : (( وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ))

فكان من معجزات نبي الله عيسى صلى الله عليه وسلم إحياء الموتى ، فمن أحياه الله على يديه يكون قد تمت له موتة ثالثة وحياة ثالثة .

 

الموضع السادس : حديث الشفاعة :

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( أَما أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فَإِنَّهُمْ لا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلا يَحْيَوْنَ ، وَلَكِنْ نَاسٌ أَصَابَتْهُمْ النَّارُ بِذُنُوبِهِمْ أَوْ قَالَ بِخَطَايَاهُمْ :

فَأَمَاتَهُمْ إِمَاتَةً ، حَتَّى إِذَا كَانُوا فَحْمًا ، أُذِنَ بِالشَّفَاعَةِ ، فَجِيءَ بِهِمْ ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ

فَبُثُّوا عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ ، ثُمَّ قِيلَ : يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ أَفِيضُوا عَلَيْهِمْ ، فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحَبَّةِ تَكُونُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ : كَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ بِالْبَادِيَةِ ))  .

فهولاء أيضًا ممن كان لهم الموت والحياة ثلاث مرات .

قال النووي :

وَأَمَّا قَوْله  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلَكِنْ نَاس أَصَابَتْهُمْ النَّار)إِلَى آخِره .

فَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْمُذْنِبِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يُمِيتهُمْ اللَّه تَعَالَى إِمَاتَة بَعْد أَنْ يُعَذَّبُوا الْمُدَّة الَّتِي أَرَادَهَا اللَّه تَعَالَى .

وَهَذِهِ الإِمَاتَة إِمَاتَة حَقِيقِيَّة يَذْهَب مَعَهَا الإِحْسَاس وَيَكُون عَذَابهمْ عَلَى قَدْر ذُنُوبهمْ ، ثُمَّ يُمِيتهُمْ ، ثُمَّ يَكُونُونَ مَحْبُوسِينَ فِي النَّار مِنْ غَيْر إِحْسَاس الْمُدَّة الَّتِي قَدَّرَهَا اللَّه تَعَالَى ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّار مَوْتَى قَدْ صَارُوا فَحْمًا

فَيُحْمَلُونَ ضَبَائِر كَمَا تُحْمَل الأَمْتِعَة وَيُلْقَوْنَ عَلَى أَنْهَار الْجَنَّة فَيُصَبّ عَلَيْهِمْ مَاء الْحَيَاة وَيَنْبُتُونَ نَبَات الْحَبَّة فِي حَمِيل السَّيْل فِي سُرْعَة نَبَاتهَا وَضَعْفهَا ، فَتَخْرُج لِضَعْفِهَا صَفْرَاء مُلْتَوِيَة ثُمَّ تَشْتَدّ قُوَّتهمْ بَعْد ذَلِكَ وَيَصِيرُونَ إِلَى مَنَازِلهمْ وَتَكْمُل أَحْوَالهمْ،فَهَذَا هُوَ الظَّاهِر مِنْ لَفْظ الْحَدِيث وَمَعْنَاهُ .ا.هـ

الموضع السابع : حديث ابن المهاجرة :

عن أنس رضي الله عنه قال :

كنا في الصفة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتته امرأة مهاجرة ومعها ابن لها قد بلغ ، فأضاف المرأة إلى النساء ، وأضاف ابنها إلينا

فلم يلبث أن أصابه وباء المدينة ، فمرض أياماً ثم قبض ، فغمضه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بجهازه

فلما أردنا أن نغسله قال : يا أنس ائت أمه فأعلمها

فأعلمتها  ، قال : فجاءت حتى جلست عند قدميه فأخذت بهما ثم قالت :

اللهم إني أسلمت لك طوعًا ، وخالفت الأوثان زهدًا ، وهاجرت لك رغبة ، اللهم لا تشمت بي عبدة الأوثان ، ولا تحملني من هذه المصيبة مالا طاقة لي بحملها

قال : فوالله ما انقضى كلامها حتى حرك قدميه وألقى الثوب عن وجهه وعاش حتى قبض الله رسوله صلى الله عليه وسلم ، وحتى هلكت أمه .



الحث على تذكر الموت

يستحب وينبغي للإنسان أن يكثر من ذكر الموت وتذكره ، وذلك حتى يكون دائمًا مستعدًا له بالابتعاد عن الذنوب ، وتجديد التوبة ، ورد المظالم ، والإقبال على الطاعات بصدق وإخلاص وخشوع .. فليس أعون على الاستقامة من تذكر الموت والخوف من العاقبة .. وأضر شيء على الإنسان من التسويف وطول الأمل فهما يؤديان إلى الغفلة والإهمال .

والعاقل من جعل الموت نصب عينه ، وتصور حضور أجله ، فيستعد إلى ما يصير إليه ويعمل على أن يخرج من الدنيا وقد سَلِمَ له دينه وإيمانه ، وتزود من الأعمال الصالحة فهي التي تكون معه في قبره

فإن بداية الذهاب إلى الدار الآخرة هي لحظات الموت (( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ))

قال المليباري :

وهذه الفكرة واجبة على كافة الخلق وهي على الملوك وأهل الدنيا أوجب لأنهم كثيراً ما أزعجوا قلوب الخلق وأدخلوا في قلوبهم الرعب فإن الحقِّ تعالى ذكره ملاكاً يعرف بملك الموت لا مهرب لأحد من مطالبته ونشبته وكل موكلي الملوك يأخذون جعلهم ذهباً وطعاماً، وهذا الوكيل لا يأخذ سوى الروح جعلاً وسائر موكلي السلاطين تنفع عندهم الشفاعة وهذا الموكل لا تنفع عنده شفاعة شافع وجميع الموكلين يمهلون من يوكلون به اليوم والساعة وهذا الموكل لا يهمل نفساً واحداً.

تجهز إلى الأجداث ويحك والرمس

 

جهازاً من التقوى لأطول ما حبس

 

 

فإنك لا تدري إذا كنت مصبحاً

بأحسن ما ترجو لعلك لا تمسي

 

سأتعب نفسي كي أصادف راحة

فإن هوان النفس أكرم للنفس

 

وأزهد في الدنيا فإن مقيمها

كظاعنها ما أشبه اليوم بالأمس

 

 

فعلى الإنسان تذكر الموت دائمًا ، وأن يجعل ذكره بين يديه ، فيمتنع عن المعاصي ويصلح من نفسه بالطاعات .. ولا تكن عبد الله من الذين قال الله فيهم :

(( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ))

فهؤلاء عاشوا في اللهو والغفلة فلما عاينوا الموت ندموا ، وطلبوا الرجوع للدنيا ثانية ليحصلوا الأعمال الصالحة .. ولكن ندموا حين لا ينفع الندم .

 

وتذكر الموت سنة سنها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته :

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ :

(( زَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ وَقَالَ : اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي ، وَاسْتَأْذَنْتُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي ، فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْمَوْتَ ))

 

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ ، يَعْنِي الْمَوْتَ ))

 

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( اسْتَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ ، فَإِنَّهُ مَا ذَكَرُهُ أَحَدٌ فِي ضِيقٍ إلا وَسَّعَهُ اللَّهُ ، وَلا ذَكَرُهُ فِي سَعَةٍ إلا ضَيَّقَهَا عَلَيْهِ ))

قَالَ الطيبي : شَبَّهَ اللَّذَّاتِ الْفَانِيَةَ وَالشَّهَوَاتِ الْعَاجِلَةَ ثُمَّ زَوَالَهَا بِبِنَاءٍ مُرْتَفِعٍ يَنْهَدِمُ بِصَدَمَاتٍ هَائِلَةٍ , ثُمَّ أَمَرَ الْمُنْهَمِكَ فِيهَا بِذِكْرِ الْهَادِمِ لِئَلا يَسْتَمِرَّ عَلَى الرُّكُونِ إِلَيْهَا , يَشْتَغِلَ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْفِرَارِ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ .ا.هـ

 

عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ :

(( كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةٍ فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ فَبَكَى حَتَّى بَلَّ الثَّرَى ثُمَّ قَالَ : يَا إِخْوَانِي لِمِثْلِ هَذَا فَأَعِدُّوا ))

 

وعن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ :

(( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا اللَّهَ اذْكُرُوا اللَّهَ جَاءَتْ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ .

قَالَ أُبَيٌّ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلاةَ عَلَيْكَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلاتِي ؟

فَقَالَ : مَا شِئْتَ . قَالَ قُلْتُ : الرُّبُعَ ؟ قَالَ : مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ ، قُلْتُ : النِّصْفَ ؟ قَالَ : مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ ، قَالَ قُلْتُ : فَالثُّلُثَيْنِ ؟ قَالَ : مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ ، قُلْتُ : أَجْعَلُ لَكَ صَلاتِي كُلَّهَا ؟ قَالَ : إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ ))

 

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( اسْتَحْيُوا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ ، قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، قَالَ : لَيْسَ ذَاكَ وَلَكِنَّ الاسْتِحْيَاءَ مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ : أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى ، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى ، وَلْتَذْكُرْ الْمَوْتَ وَالْبِلَى ، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ ))

قَوْلُهُ : ( اِسْتَحْيُوا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ ) أَيْ حَيَاءً ثَابِتًا لازِمًا صَادِقًا قَالَهُ الْمُنَاوِيُّ ، وَقِيلَ أَيْ اِتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ

( قُلْنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّا لَنَسْتَحْيِي ) لَمْ يَقُولُوا حَقَّ الْحَيَاءِ اِعْتِرَافًا بِالْعَجْزِ عَنْهُ ( وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ) أَيْ عَلَى تَوْفِيقِنَا بِهِ

( قَالَ لَيْسَ ذَاكَ ) أَيْ لَيْسَ حَقَّ الْحَيَاءِ مَا تَحْسَبُونَهُ بَلْ أَنْ يَحْفَظَ جَمِيعَ جَوَارِحِهِ عَمَّا لا يَرْضَى

( وَلَكِنَّ الاسْتِحْيَاءَ مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ ) أَيْ عَنْ اِسْتِعْمَالِهِ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ بِأَنْ لا تَسْجُدَ لِغَيْرِهِ وَلا تُصَلِّيَ لِلرِّيَاءِ وَلا تَخْضَعَ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَلا تَرْفَعَهُ تَكَبُّرًا ( وَمَا وَعَى ) أَيْ جَمَعَهُ الرَّأْسُ مِنْ اللِّسَانِ وَالْعَيْنِ وَالأُذُنِ عَمَّا لا يَحِلُّ اِسْتِعْمَالُهُ

( وَتَحْفَظَ الْبَطْنَ ) أَيْ عَنْ أَكْلِ الْحَرَامِ ( وَمَا حَوَى ) أَيْ مَا اِتَّصَلَ اِجْتِمَاعُهُ بِهِ مِنْ الْفَرْجِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْيَدَيْنِ وَالْقَلْبِ , فَإِنَّ هَذِهِ الأَعْضَاءَ مُتَّصِلَةٌ بِالْجَوْفِ , وَحِفْظُهَا بِأَنْ لا تَسْتَعْمِلَهَا فِي الْمَعَاصِي بَلْ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى

( وَتَتَذَكَّرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى ) بِكَسْرِ الْبَاءِ مِنْ بَلِيَ الشَّيْءُ إِذَا صَارَ خَلَقًا مُتَفَتِّتًا يَعْنِي تَتَذَكَّرَ صَيْرُورَتَك فِي الْقَبْرِ عِظَامًا بِالْبَيِّنَةِ

( وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا ) فَإِنَّهُمَا لا يَجْتَمِعَانِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ حَتَّى لِلأَقْوِيَاءِ قَالَهُ الْقَارِي . وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ : لأَنَّهُمَا ضَرَّتَانِ فَمَتَى أَرْضَيْت إِحْدَاهُمَا أَغْضَبْت الأُخْرَى ( فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ) أَيْ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ .

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ :

(( أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي فَقَالَ : كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ )) وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ : إِذَا أَمْسَيْتَ فَلا تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرْ الْمَسَاءَ وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ .

وعنه ( كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ كَأَنَّكَ عَابِرُ سَبِيلٍ وَعُدَّ نَفْسَكَ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ )

وعنه : (( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ، واعدد نفسك في الموتى وأهل القبور ))

قَالَ الطِّيبِيُّ : لَيْسَتْ أَوْ لِلشَّكِّ بَلْ لِلتَّخْيِيرِ وَالإِبَاحَة , وَالأَحْسَن أَنْ تَكُون بِمَعْنَى بَلْ , فَشَبَّهَ النَّاسِك السَّالِك بِالْغَرِيبِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ مَسْكَن يَأْوِيه وَلا مَسْكَن يَسْكُنهُ , ثُمَّ تَرَقَّى وَأَضْرَبَ عَنْهُ إِلَى عَابِر السَّبِيل لأَنَّ الْغَرِيب قَدْ يَسْكُن فِي بَلَد الْغُرْبَة بِخِلافِ عَابِر السَّبِيل الْقَاصِد لِبَلَدٍ شَاسِع وَبَيْنهمَا أَوْدِيَة مُرْدِيَة وَمَفَاوِز مُهْلِكَة وَقُطَّاع طَرِيق فَإِنَّ مَنْ شَأْنه أَنْ لا يُقِيم لَحْظَة وَلا يَسْكُن لَمْحَة

وَمِنْ ثَمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ " إِذَا أَمْسَيْت فَلا تَنْتَظِر الصَّبَاح إِلَخْ " وَبِقَوْلِهِ " وَعُدَّ نَفْسك فِي أَهْل الْقُبُور " وَالْمَعْنَى اِسْتَمِرَّ سَائِرًا وَلا تَفْتُر , فَإِنَّك إِنْ قَصَّرْت اِنْقَطَعْت وَهَلَكْت فِي تِلْكَ الأَوْدِيَة , وَهَذَا مَعْنَى الْمُشَبَّه بِهِ

وَأَمَّا الْمُشَبَّه فَهُوَ قَوْله " وَخُذْ مِنْ صِحَّتك لِمَرَضِك " أَيْ أَنَّ الْعُمُر لا يَخْلُو عَنْ صِحَّة وَمَرَض , فَإِذَا كُنْت صَحِيحًا فَسِرْ سَيْر الْقَصْد وَزِدْ عَلَيْهِ بِقَدْرِ قُوَّتك مَا دَامَتْ فِيك قُوَّة بِحَيْثُ تَكُون مَا بِك مِنْ تِلْكَ الزِّيَادَة قَائِمًا مَقَام مَا لَعَلَّهُ يُفَوِّت حَالَة الْمَرَض وَالضَّعْف .

وَقَالَ اِبْن بَطَّال : لَمَّا كَانَ الْغَرِيب قَلِيل الانْبِسَاط إِلَى النَّاس بَلْ هُوَ مُسْتَوْحِش مِنْهُمْ إِذْ لا يَكَاد يَمُرّ بِمَنْ يَعْرِفهُ مُسْتَأْنِس بِهِ فَهُوَ ذَلِيل فِي نَفْسه خَائِف , وَكَذَلِكَ عَابِر السَّبِيل لا يَنْفُذ فِي سَفَره إِلا بِقُوَّتِهِ عَلَيْهِ وَتَخْفِيفه مِنْ الأَثْقَال غَيْر مُتَثَبِّت بِمَا يَمْنَعهُ مِنْ قَطْع سَفَره مَعَهُ زَاده وَرَاحِلَته يُبَلِّغَانِهِ إِلَى بُغْيَته مِنْ قَصْده شَبَّهَهُ بِهِمَا , وَفِي ذَلِكَ إِشَارَة إِلَى إِيثَار الزُّهْد فِي الدُّنْيَا وَأَخْذ الْبُلْغَة مِنْهَا وَالْكَفَاف , فَكَمَا لا يَحْتَاج الْمُسَافِر إِلَى أَكْثَر مِمَّا يُبَلِّغهُ إِلَى غَايَة سَفَره فَكَذَلِكَ لا يَحْتَاج الْمُؤْمِن فِي الدُّنْيَا إِلَى أَكْثَر مِمَّا يُبَلِّغهُ الْمَحَلّ .

وَقَالَ غَيْره : هَذَا الْحَدِيث أَصْل فِي الْحَثّ عَلَى الْفَرَاغ عَنْ الدُّنْيَا وَالزُّهْد فِيهَا وَالاحْتِقَار لَهَا وَالْقَنَاعَة فِيهَا بِالْبُلْغَةِ .

وَقَالَ النَّوَوِيّ : مَعْنَى الْحَدِيث لا تَرْكَنْ إِلَى الدُّنْيَا وَلا تَتَّخِذهَا وَطَنًا وَلا تُحَدِّث نَفْسك بِالْبَقَاءِ فِيهَا وَلا تَتَعَلَّق مِنْهَا بِمَا لا يَتَعَلَّق بِهِ الْغَرِيب فِي غَيْر وَطَنه .

وَقَالَ غَيْره : عَابِر السَّبِيل هُوَ الْمَارّ عَلَى الطَّرِيق طَالِبًا وَطَنه , فَالْمَرْء فِي الدُّنْيَا كَعَبْدٍ أَرْسَلَهُ سَيِّده فِي حَاجَة إِلَى غَيْر بَلَده , فَشَأْنه أَنْ يُبَادِر بِفِعْلِ مَا أُرْسِلَ فِيهِ ثُمَّ يَعُود إِلَى وَطَنه وَلا يَتَعَلَّق بِشَيْءٍ غَيْر مَا هُوَ فِيهِ

قَوْله ( وَخُذْ مِنْ صِحَّتك ) أَيْ زَمَن صِحَّتك ( لِمَرَضِك ) فِي رِوَايَة لَيْث " لِسَقَمِك " وَالْمَعْنَى اِشْتَغِلْ فِي الصِّحَّة بِالطَّاعَةِ بِحَيْثُ لَوْ حَصَلَ تَقْصِير فِي الْمَرَض لا يُجْبَر بِذَلِكَ .

قَوْله ( وَمِنْ حَيَاتك لِمَوْتِك ) فِي رِوَايَة لَيْث " قَبْل مَوْتك " وَزَادَ " فَإِنَّك لا تَدْرِي يَا عَبْد اللَّه مَا اِسْمك غَدًا " أَيْ هَلْ يُقَال لَهُ شَقِيّ أَوْ سَعِيد , وَلَمْ يُرِدْ اِسْمه الْخَاصّ بِهِ فَإِنَّهُ لا يَتَغَيَّر . وَقِيلَ الْمُرَاد هَلْ هُوَ حَيّ أَوْ مَيِّت .

قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : كَلام اِبْن عُمَر مُنْتَزَع مِنْ الْحَدِيث الْمَرْفُوع , وَهُوَ مُتَضَمِّن لِنِهَايَةِ قِصَر الأَمَل وَأَنَّ الْعَاقِل يَنْبَغِي لَهُ إِذَا أَمْسَى لا يَنْتَظِر الصَّبَاح وَإِذَا أَصْبَحَ لا يَنْتَظِر الْمَسَاء , بَلْ يَظُنّ أَنَّ أَجَله مُدْرِكه قَبْل ذَلِكَ .

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ :

(( مَرَّ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نُعَالِجُ خُصًّا لَنَا فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ فَقُلْتُ : خُصٌّ لَنَا وَهَى نَحْنُ نُصْلِحُهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أُرَى الأَمْرَ إِلا أَعْجَلَ مِنْ ذَلِكَ ))

قَوْله ( نُعَالِج ) نُصْلِح ( خُصًّا ) أَيْ بَيْتًا مِنْ قَصَب

(وَهيَ) مِنْ وَهَى الْحَائِط يَهِي إِذَا ضَعُفَ وَهَمَّ بِالسُّقُوطِ

( مَا أَرَى الأَمْر ) أَيْ أَمْر الْمَوْت عَلَى وَجْه الاحْتِمَال فَلا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ الاشْتِغَال بِمَا يُتْعِبهُ عَلَى كُلّ حَال أَوْ الْمُرَاد أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَرَى أَسْرَعَ مِنْ ذَلِكَ بِحَيْثُ لا يَشْتَغِل بِشَيْءٍ لا يُنْتَفَع بِهِ أَصْلاً وَلَيْسَ الْمُرَاد إِخْبَاره جَزْمًا بِأَنْ يَكُون مَوْتك قَرِيبًا .

عَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ :

(( جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي وَأَوْجِزْ ؟

قَالَ : إِذَا قُمْتَ فِي صَلاتِكَ فَصَلِّ صَلاةَ مُوَدِّعٍ ، وَلا تَكَلَّمْ بِكَلامٍ تَعْتَذِرُ مِنْهُ ، وَأَجْمِعْ الْيَأْسَ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ ))

عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ :

(( كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا ، قَالَ : فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ ؟ قَالَ : أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا ، وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَادًا أُولَئِكَ الأَكْيَاسُ ذهبوا بشرف الدنيا و كرامة الآخرة ))

الكيس : يعني الفطنة والذكاء فيكون أذكى الناس عقلاً ، وأحسنهم فطنة ، من تذكر الموت واستعد وعمل له ولما بعده بالعمل الصالح .

عن أبي الدرداء حين حضرته الوفاة قال : أحدثكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :

(( اعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، واعدد نفسك في الموتى وإياك و دعوة المظلوم فإنها تستجاب ، ومن استطاع أن يشهد الصلاتين العشاء والصبح ولو حبوا فليفعل ))

 

عن أبي سلمة قال :

(( قال معاذ : قلت : يا رسول الله أوصني قال اعبد الله كأنك تراه ، واعدد نفسك في الموتى واذكر الله عند كل حجر و عند كل شجر و إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة السر بالسر والعلانية بالعلانية ))

 

وعن معاذ رضي الله عنه قال :

(( يا رسول الله أوصني ، قال : اعبد الله كأنك تراه واعدد نفسك في الموتى وإن شئت أنبأتك بما هو أملك بك من هذا كله قال هذا وأشار بيده إلى لسانه ))

 

وجاء موقوفًا عن زيد بن أرقم قال :

"اعبد الله كأنك تراه ، فإن كنت لا تراه فإنه يراك ، واحسب نفسك في الموتي ، واتق دعوة المظلوم فإنها مستجابة"

 

وقال أبو الدرداء :

« ابن آدم اعمل كأنك تراه ، واعدد نفسك في الموتى ، واتق دعوة المظلوم »

 

عن حميد بن هلال قال :

أوخي بين سلمان وأبي الدرداء ، فسكن أبو الدرداء بالشام ، وسكن سلمان الكوفة ، فكتب أبو الدرداء إلى سلمان : سلام عليك ، أما بعد : فإن الله قد رزقني بعدك مالا وولدا ، وأنزلت الأرض المقدسة . قال : فكتب سلمان إليه : سلام عليك ، أما بعد ، فإنك كتبت إلي أن الله رزقك بعدي مالا وولدا ، وإن الخير ليس بكثرة المال والولد ، ولكن الخير أن يعظم حلمك ، وأن ينفعك علمك ، وكتبت إلي بأنك نزلت الأرض المقدسة ، وإن الأرض لا تعمل لأحد ، فاعمل كأنك ترى ، واعدد نفسك في الموتى

 

وعن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه :

(( أخوف ما أخاف عليكم اثنان:طول الأمل واتباع الهوى ألا إن طول الأمل ينسي الآخرة واتباع الهوى يصدك عن الحق ))

فطول الأمل يورث أربعة أشياء :

الأول : ترك الطاعة والكسل فيها يقول سوف أفعل والأيام بين يدي .

والثاني : ترك التوبة وتسويفها يقول سوف أتوب وفي الأيام سعة وأنا شاب وسني قليل والتوبة بين يدي وأنا قادر عليها متى أردتها .

والثالث : الحرص على جمع الأموال والاشتغال بالدنيا عن الآخرة يقول أخاف الفقر في الكبر وربما أضعف عن الاكتساب ولا بد لي من شيء فاضل أدخره لمرض أو هرم أو فقر هذا ونحوه يحرك إلى الرغبة في الدنيا والحرص عليها والاهتمام للرزق

الرابع : القسوة في القلب والنسيان للآخرة لأنك إذا أملت العيش الطويل لا تذكر الموت والقبر .

فيقسو القلب فبسبب طول الأمل تقل الطاعة وتتأخر التوبة وتكثر المعصية ويشتد الحرص ويقسو القلب وتعظم الغفلة فتذهب والعياذ باللّه إن لم يرحم اللّه فأي حال أسوأ من هذه وأي آفة أعظم من هذه، وإنما رقة القلب وصفوته بذكر الموت ومفاجأته والقبر والثواب والعقاب وأحوال الآخرة .

 

 



فصل

 

في وصف

لحظات الموت

 

وسؤال الملكين

 

 

شدة الموت

 

قال الله تعالى

(( كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ، وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ، وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ، وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ، إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ))

(كَلا إِذَا بَلَغَتِ) يعني النفس

(التَّرَاقِيَ) فحشرج بها عند الموت، و"التراقي" جمع الترقوة، وهي العظام بين ثغرة النحر والعاتق، ويكنى ببلوغ النفس التراقي عن الإشراف على الموت.

(وَقِيلَ) أي قال من حضره الموت هل "من راق" هل من طبيب يرقيه ويداويه فيشفيه برقيته أو دوائه.

وقال قتادة: التمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من قضاء الله شيئا.

وقال سليمان التيمي، ومقاتل بن سليمان : هذا من قول الملائكة، يقول بعضهم لبعض: من يرقى بروحه؟ فتصعد بها ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب.

(وَظَن) أيقن الذين بلغت روحه التراقي (أَنَّهُ الْفِرَاقُ) من الدنيا.

(( وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ )) قال قتادة : الشدة بالشدة .

قال عطاء : شدة الموت بشدة الآخرة .

قال سعيد بن جبير : تتابعت عليه الشدائد .

قال السدي: لا يخرج من كرب إلا جاءه أشد منه.

قال ابن عباس: أمر الدنيا بأمر الآخرة، فكان في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة.

وقال مجاهد: اجتمع فيه الحياة والموت.

وقال الضحاك: الناس يجهزون جسده والملائكة يجهزون روحه.

وقال الحسن: هما ساقاه إذا التفَّتَا في الكفن. وقال الشعبي: هما ساقاه عند الموت (إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ) أي مرجع العباد يومئذ إلى الله يساقون إليه.

 

قال الله تعالى

(( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ))

أي جاء الموت بشدته وغمراته التي تذهب العقول وتذهل الفطن ، وعاين الإنسان أمور الآخرة ، ونزلت إليه الملائكة لنزع روحه من جسده ، فعندئذ إذا تكون معاينة الأهوال ..

(( ذلك ما كنت منه تحيد )) هذا الموت الذي كنت منه تحيد أي تهرب وتفزع

قال سيد قطب رحمه الله :

(( وجاءت سكرة الموت بالحق . ذلك ما كنت منه تحيد ))

والموت أشد ما يحاول المخلوق البشري أن يروغ منه ، أو يبعد شبحه عن خاطره . ولكن أنى له ذلك : والموت طالب لا يمل الطلب ، ولا يبطئ الخطى ، ولا يخلف الميعاد ... وذكر سكرة الموت كفيل برجفة تدب في الأوصال !

وبينما المشهد معروض يسمع الإنسان : (( ذلك ما كنت منه تحيد ))

وإنه ليرجف لصداها وهو بعد في عالم الحياة !

فكيف به حين تقال له وهو يعاني السكرات !

وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول : « سبحان الله . إن للموت لسكرات » .

يقولها وهو قد اختار الرفيق الأعلى واشتاق إلى لقاء الله . فكيف بمن عداه؟

ويلفت النظر في التعبير ذكر كلمة الحق : (( وجاءت سكرة الموت بالحق ))

وهي توحي بأن النفس البشرية ترى الحق كاملاً وهي في سكرات الموت . تراه بلا حجاب ، وتدرك منه ما كانت تجهل وما كانت تجحد

ولكن بعد فوات الأوان حين لا تنفع رؤية ، ولا يجدي إدراك ، ولا تقبل توبة ، ولا يحسب إيمان . وذلك الحق هو الذي كذبوا به فانتهوا إلى الأمر المريج ! . . وحين يدركونه ويصدقون به لا يجدي شيئاً ولا يفيد .

 

عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ تَقُولُ :

(( إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ أَوْ عُلْبَةٌ فِيهَا مَاءٌ ، فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَيَقُولُ :

لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ

ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ ))

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ : الْعُلْبَةُ مِنْ الْخَشَبِ ، وَالرَّكْوَةُ مِنْ الأَدَمِ

 

وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ :

(( رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَمُوتُ وَعِنْدَهُ قَدَحٌ فِيهِ مَاءٌ فَيُدْخِلُ يَدَهُ فِي الْقَدَحِ ثُمَّ يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِالْمَاءِ ثُمَّ يَقُولُ : اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى سَكَرَاتِ الْمَوْتِ ))

( سَكَرَاتِ الْمَوْتِ ) أَيْ شَدَائِدِهِ جَمْعُ سَكْرَةٍ بِسُكُونِ الْكَافِ وَهِيَ شِدَّةُ الْمَوْتِ .

وَقَالَ الْقَاضِي فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى ((وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ)) إِنَّ سَكْرَتَهُ شِدَّتُهُ الذَّاهِبَةُ بِالْعَقْلِ اِنْتَهَى .

 

 

عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ :

(( مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّهُ لَبَيْنَ حَاقِنَتِي وَذَاقِنَتِي ، فَلا أَكْرَهُ شِدَّةَ الْمَوْتِ لأَحَدٍ أَبَدًا بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ))

 

عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ :

(( مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشَدَّ عَلَيْهِ الْوَجَعُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ))

 

عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا :

(( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَيَنْفُثُ ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ ، كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُ بِيَدِهِ رَجَاءَ بَرَكَتِهَا ))

وذلك حين اشتداد المرض على النبي صلى الله عليه وسلم في موته .

 

عَنْ أَنَسٍ قَالَ :

(( لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلام : وَا كَرْبَ أَبَاهُ فَقَالَ : لَهَا لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ ، فَلَمَّا مَاتَ قَالَتْ : يَا أَبَتَاهُ أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ ، يَا أَبَتَاهْ مَنْ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهْ ، يَا أَبَتَاهْ إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهْ ، فَلَمَّا دُفِنَ قَالَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلام : يَا أَنَسُ أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التُّرَابَ ))

الْمُرَاد بِالْكَرْبِ : مَا كَانَ يَجِدهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ شِدَّة الْمَوْت , وَكَانَ فِيمَا يُصِيب جَسَده مِنْ الآلام كَالْبَشَرِ لِيَتَضَاعَف لَهُ الأَجْر .

عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ :

(( كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ إِحْدَى بَنَاتِهِ تَدْعُوهُ وَتُخْبِرُهُ أَنَّ صَبِيًّا لَهَا أَوْ ابْنًا لَهَا فِي الْمَوْتِ ، فَقَالَ لِلرَّسُولِ : ارْجِعْ إِلَيْهَا فَأَخْبِرْهَا أَنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ ، فَعَادَ الرَّسُولُ فَقَالَ : إِنَّهَا قَدْ أَقْسَمَتْ لَتَأْتِيَنَّهَا ، قَالَ : فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَامَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَانْطَلَقْتُ مَعَهُمْ فَرُفِعَ إِلَيْهِ الصَّبِيُّ ، وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا فِي شَنَّةٍ ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ : مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ ))

قَوْله : ( وَنَفْسه تَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا فِي شَنَّة ) الشَّنَّة الْقِرْبَة الْبَالِيَة وَمَعْنَاهُ لَهَا صَوْت وَحَشْرَجَة كَصَوْتِ الْمَاء إِذَا أُلْقِيَ فِي الْقِرْبَة الْبَالِيَة ، وهذا هو الشاهد من الحديث الدال على شدة الموت .

 

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( لَمْ يَلْقَ ابْنُ آدَمَ شَيْئًا قَطُّ مُذْ خَلَقَهُ اللَّهُ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ ، ثُمَّ إِنَّ الْمَوْتَ لأَهْوَنُ مِمَّا بَعْدَهُ))

 

عن سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(( لَوْ تَعْلَمِينَ عَلِمَ الْمَوْتِ يَا ابْنَةَ زَمْعَةَ عَلِمْتِ أَنَّهُ أَشَدَّ مِمَّا تُقَدِّرِينَ ))

 

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : آخِرُ شِدَّةٍ يَلْقَاهَا الْمُؤْمِنُ الْمَوْتُ .

وقَالَ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز :

مَا أُحِبُّ أَنْ يُهَوَّن عَلَيَّ سَكَرَاتُ الْمَوْتِ إِنَّهُ لآخِرُ مَا يُكَفَّر بِهِ عَنْ الْمُؤْمِنِ .

 

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ :

(( مَرَّتْ جَنَازَةٌ فَقَامَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُمْنَا مَعَهُ ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا يَهُودِيَّةٌ ، فَقَالَ : إِنَّ الْمَوْتَ فَزَعٌ فَإِذَا رَأَيْتُمْ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا ))

ومن المعلوم أن حكم القيام للجنائز قد تم نسخه .

 

قال عطاء السليمي  :

« كنت أشتهي الموت وأتمناه فأتاني آت في منامي فقال : يا عطاء أتتمنى الموت ؟ فقلت : إن ذاك قال : فتقلب في وجهي ثم قال : لو عرفت شدة الموت وكربه حتى يخالط قلبك معرفته لطار نومك أيام حياتك ولذهل عقلك حتى تمشي في الناس وَالهاً قال عطاء :

طوبى لمن نفعه عيشه فكان طول عمره زيادة في عمله ، ما أرى عطاء كذلك ، ثم بكى »

إن الشدائد أنواع منوعة وإن أعظم شدة يقع فيها الإنسان ما يكون من شدة الموت عند فراق المألوف واستقبال المخوف فإذا كان العبد ممن تعرف إلى الله في حال صحته وحياته عرفه سبحانه في حال شدته عند وفاته فهون الأمر عليه وأحسن له الخاتمة وانتقل من الدنيا على أحسن حال . وأما إن كان معرضًا عن الله لم يزده الرخاء إلا بطرًا وبعدًا عن الله تعالى فحري بأن يكله الله إلى نفسه ويتخلى عنه حال شدائده فتحيط به سيئاته ويموت على أسوأ حال وأخبث مآل

نسأل الله العلي القدير أن يتوفانا مؤمنين وهو راضٍ عنا ويحسن لنا الخاتمة

ذكر الآيات التي وردت في كتاب الله تعالى

وهي تصف حالة الاحتضار

 

حالة احتضار الظالمين

قال تعالى : (( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ، وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ .. وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ))

لما ذم الظالمين، ذكر ما أعد لهم من العقوبة في حال الاحتضار، ويوم القيامة فقال ((وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ))

أي: شدائده وأهواله الفظيعة، وكُرَبه الشنيعة لرأيت أمرًا هائلاً وحالة لا يقدر الواصف أن يصفها.

((وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ))

إلى أولئك الظالمين المحتضرين بالضرب والعذاب، يقولون لهم عند منازعة أرواحهم وقلقها، وتعصيها للخروج من الأبدان

((أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ))

أي : العذاب الشديد، الذي يهينكم ويذلكم والجزاء من جنس العمل، فإن هذا العذاب

((بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ)) من كذبكم عليه، وردكم للحق، الذي جاءت به الرسل.

((وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ)) أي: تَرَفَّعون عن الانقياد لها، والاستسلام لأحكامها.وفي هذا دليل على عذاب البرزخ ونعيمه، فإن هذا الخطاب، والعذاب الموجه إليهم، إنما هو عند الاحتضار وقبيل الموت وبعده.

وفيه دليل، على أن الروح جسم، يدخل ويخرج، ويخاطب، ويساكن الجسد، ويفارقه، فهذه حالهم في البرزخ.

وأما يوم القيامة، فإنهم إذا وردوها، وردوها مفلسين فرادى بلا أهل ولا مال، ولا أولاد ولا جنود، ولا أنصار، كما خلقهم الله أول مرة، عارين من كل شيء.

 



 

وقال تعالى :

(( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ))

أي لا أحد أظلم (مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) بنسبة الشريك له، أو النقص له، أو التقول عليه ما لم يقل ، وهذا الصنف نراه اليوم كثيرًا ممن ينسب نفسه للعلم والدعوة وهم يكذبون على الله تعالى لإرضاء أسيادهم ومرؤسيهم بقول الزور وبالعمل به وبتضليل الناس وتعبيدهم لغير الله ، ويزعمون أن ذلك من الدين ، كالذين شرعوا تجريم من يدعو إلى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، والذين أنكروا آيات الحجاب لترويج الإباحية ، والذين ادعوا النبوة والرسالة لأسيادهم لنيبل رضاههم وحث الناس على السمع والطاعة لهم في باطلهم ، والذين أفتوا بحل دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم ورموهم زورًا وبهتانًا بالكفر والضلال .. وهذا الصنف من أئمة الضلالة الذين يتقولون على الله ويفترون على دينه بفتاواهم الضالة هم ممن يكذبون على الله

( أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ) الواضحة المبينة للحق المبين، الهادية إلى الصراط المستقيم، فهؤلاء وإن تمتعوا بالدنيا، ونالهم نصيبهم مما كان مكتوبا لهم في اللوح المحفوظ، فليس ذلك بمغن عنهم شيئا، يتمتعون قليلا ثم يعذبون طويلاً

( حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ ) أي: الملائكة الموكلون بقبض أرواحهم واستيفاء آجالهم.

( قَالُوا ) لهم في تلك الحالة توبيخاً وعتاباً ( أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) من الأصنام والأوثان والرؤوساء والسادة والملوك ، فقد جاء وقت الحاجة إن كان فيها منفعة لكم أو دفع مضرة.

( قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا ) أي: اضمحلوا وبطلوا، وليسوا مغنين عنا من عذاب اللّه من شيء.

لذلك فإن الله تعالى يذكر بعد هذه الآية الكريمة أحوال هذه الأصناف هم وأسيادهم يوم القيامة فالعذاب متصل من حين قبض الأرواح وحتى دخول النار :

قال تعالى (( قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ ، وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ، إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ، لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ))

 



 

وقال تعالى :

((الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ))

هذا مشهد مهيب .. يصف لحظات الاحتضار .. حين تأتي الملائكة لتقبض أرواح الذين ظلموا أنفسهم ، وضلوا ، وصدوا عن سبيل الله تعالى ، وكلمة الظلم تشمل جميع الجرائم التي ارتكبوها في حق الله تبارك وتعالى بمخالفة شرعه ، وفي حق أنفسهم ، وفي حق العباد ..

أهل الظلم حين يرون الملائكة أمام أعينهم وما أتت به هذه الملائكة من غضب وعذاب ، يلقون السلم ، ويستسلمون تمامًا ، ولكنهم وهم في هذه الحالة لا ينتهون عن الظلم ويستمرون في الكذب والخداع فيقولون ((مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ))

فتجيبهم الملائكة ((بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)) فالله قد أحاط بكم وبأعمالكم علمًا لا يخفي عليه منكم شيء ، وفي هذه اللحظة تبدأ المجازاة بهذه الأعمال .. فلقد انتهت المهلة .. وانقطعت التوبة .. والآن

((فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا)) والفاء هنا للتعقيب فبمجرد قبض الروح وفي نفس اللحظة ودون إمهال ولو لطرفة عين ادخلوا نار جهنم من الآن تعانون منها ومن عذابها وأنتم في قبوركم ، وتبعثون يوم القيامة وأنتم من أهلها فيستمر عليكم العذاب في البرزخ ويوم القيامة .. لا يتوقف ولا ينتهي ((فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)) الذين تكبروا على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى شريعته وعلى عباده المؤمنين ، فلم يقبلوا الحق ولم ينقادوا له .. بل حاربوا وجادلوا واستهزئوا .. فلبئس مثوى المتكبرين .



وقال تعالى : (( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ))

يخبر تعالى عن حال من حضره الموت، من المفرطين الظالمين، أنه يندم في تلك الحال، إذا رأى مآله، وشاهد قبح أعماله فيطلب الرجعة إلى الدنيا، لا للتمتع بلذاتها واقتطاف شهواتها وإنما ذلك يقول (( لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ)) من العمل وفرطت في جنب الله.

(( كَلا)) أي: لا رجعة له ولا إمهال، قد قضى الله أنهم إليها لا يرجعون

(( إِنَّهَا )) أي: مقالته التي تمنى فيها الرجوع إلى الدنيا (( كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا )) أي: مجرد قول باللسان، لا يفيد صاحبه إلا الحسرة والندم، وهو أيضا غير صادق في ذلك، فإنه لو رد لعاد لما نهي عنه.

(( وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ )) أي: من أمامهم وبين أيديهم برزخ، وهو الحاجز بين الشيئين، فهو هنا: الحاجز بين الدنيا والآخرة، وفي هذا البرزخ، يتنعم المطيعون، ويعذب العاصون، من موتهم إلى يوم يبعثون، أي: فليعدوا له عدته، وليأخذوا له أهبته.



قال تعالى : (( وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ))

عن ابن عباس قال: من كان له مال يبلغه حج بيت ربه، أو تجب عليه فيه زكاةٌ، فلم يفعل، سأل الرجعة عند الموت. فقال رجل: يا ابن عباس، اتق الله، فإنما يسأل الرجعة الكفار. فقال سأتلوا عليك بذلك قرآناً ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)) قال: فما يوجب الزكاة؟ قال: إذا بلغ المال مائتين فصاعدا. قال: فما يوجب الحج؟ قال: الزاد والبعير.



 

حالة احتضار المؤمنين

قال تعالى (( وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ ، الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ))

هذه الآيات تصف حال احتضار المؤمنين الصالحين ، ولكن قبل أن يصف الله حالة احتضارهم ، يصف الحال التي كانوا عليها في الدنيا ، وأنها هي التي أدت بهم لتلك الحالة الكريمة عند الموت .. فقال تعالى :

(( وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ ))

فهذه حالهم في الدنيا : اعترفوا وأقروا بأن ما أنزله الله نعمة عظيمة، وخير عظيم امتن الله به على العباد، فقبلوا تلك النعمة، وتلقوها بالقبول والانقياد، وشكروا الله عليها، فعلموها وعملوا لها (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) في عبادة الله تعالى، وأحسنوا إلى عباد الله فلهم (فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً) رزق واسع، وعيشه هنية، وطمأنينة قلب، وأمن وسرور.

(وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ) من هذه الدار وما فيها من أنواع اللذات والمشتهيات، فإن هذه نعيمها قليل محشو بالآفات منقطع، بخلاف نعيم الآخرة ولهذا قال (وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ)

أي: مهما تمنته أنفسهم وتعلقت به إرادتهم حصل لهم على أكمل الوجوه وأتمها، فلا يمكن أن يطلبوا نوعا من أنواع النعيم الذي فيه لذة القلوب وسرور الأرواح، إلا وهو حاضر لديهم، ولهذا يعطي الله أهل الجنة كل ما تمنوه عليه، حتى إنه يذكرهم أشياء من النعيم لم تخطر على قلوبهم.

( كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ) لسخط الله وعذابه بأداء ما أوجبه عليهم من الفروض والواجبات المتعلقة بالقلب والبدن واللسان من حقه وحق عباده، وترك ما نهاهم الله عنه ....

ثم بعد ذلك وصف الله حال هذه الفئة الطيبة الممنة حين الاحتضار :

((الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ))

(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) مستمرين على تقواهم

(طَيِّبِينَ) أي : طاهرين مطهرين من كل نقص ودنس يتطرق إليهم ويخل في إيمانهم، فطابت قلوبهم بمعرفة الله ومحبته وألسنتهم بذكره والثناء عليه، وجوارحهم بطاعته والإقبال عليه .

(يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ) أي : التحية الكاملة حاصلة لكم والسلامة من كل آفة.

وقد سلمتم من كل ما تكرهون (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من الإيمان بالله والانقياد لأمره، فإن العمل هو السبب والمادة والأصل في دخول الجنة والنجاة من النار، وذلك العمل حصل لهم برحمة الله ومنته عليهم لا بحولهم وقوتهم.

 



 

وقال تعالى

(( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أن لا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ))

يخبر تعالى عن أوليائه ، وفي ضمن ذلك تنشيطهم والحث على الاقتداء بهم

فقال ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) أي اعترفوا ونطقوا ورضوا بربوبية الله تعالى واستسلموا لأمره ثم استقاموا على الصراط المستقيم، علمًا وعملا فلهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

( تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ) الكرام، أي: يتكرر نزولهم عليهم، مبشرين لهم عند الاحتضار.

( أَلا تَخَافُوا ) على ما يستقبل من أمركم ( وَلا تَحْزَنُوا ) على ما مضى ، فنفوا عنهم المكروه الماضي والمستقبل

( وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) فإنها قد وجبت لكم وثبتت ، وكان وعد الله مفعولاً

ويقولون لهم أيضاً مثبتين لهم ومبشرين ( نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) يحثونهم في الدنيا على الخير، ويزينونه لهم، ويرهبونهم عن الشر، ويقبحونه في قلوبهم، ويدعون الله لهم، ويثبتونهم عند المصائب والمخاوف، وخصوصًا عند الموت وشدته، والقبر وظلمته، وفي القيامة وأهوالها، وعلى الصراط، وفي الجنة يهنئونهم بكرامة ربهم، ويدخلون عليهم من كل باب (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) ويقولون لهم أيضاً ( وَلَكُمْ فِيهَا ) أي : في الجنة

( مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ ) قد أعد وهيئ .

( وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ) أي: تطلبون من كل ما تتعلق به إرادتكم وتطلبونه من أنواع اللذات والمشتهيات، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

( نزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ) أي: هذا الثواب الجزيل، والنعيم المقيم، نزلٌ وضيافة ( مِنْ غَفُورٍ ) غفر لكم السيئات ( رَحِيمٍ ) حيث وفقكم لفعل الحسنات، ثم قبلها منكم. فبمغفرته أزال عنكم المحذور ، وبرحمته ، أنالكم المطلوب .



 

وقال تعالى مخبرًا عن أصناف الناس حين ساعة الاحتضار

(( فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ، وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ ، فَلَوْلاَ إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ، تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ، فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ، فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ، فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ ، وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ))

ذكر الله تعالى أحوال الطوائف الثلاث: المقربين، وأصحاب اليمين، والمكذبين الضالين، في أول السورة في دار القرار.

ثم ذكر أحوالهم في آخرها عند الاحتضار والموت، فقال :

(1) المقربون

( فَأَمَّا إِنْ كَانَ ) الميت ( مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) وهم الذين أدوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات وفضول المباحات.

( فـ ) لهم ( رَوْحٌ ) أي: راحة وطمأنينة، وسرور وبهجة، ونعيم القلب والروح

( وَرَيْحَانٌ ) وهو اسم جامع لكل لذة بدنية، من أنواع المآكل والمشارب وغيرهما، وقيل: الريحان هو الطيب المعروف، فيكون تعبيرا بنوع الشيء عن جنسه العام

( وَجَنَّةُ نَعِيمٍ ) جامعة للأمرين كليهما، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فيبشر المقربون عند الاحتضار بهذه البشارة، التي تكاد تطير منها الأرواح من الفرح والسرور.

(2) أصحاب اليمين :

وقوله ( وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ) وهم الذين أدوا الواجبات وتركوا المحرمات، وإن حصل منهم التقصير في بعض الحقوق التي لا تخل بتوحيدهم وإيمانهم ،  فـ يقال لأحدهم ( سَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ) أي : سلام حاصل لك من إخوانك أصحاب اليمين أي: يسلمون عليه ويحيونه عند وصوله إليهم ولقائهم له، أو يقال له: سلام لك من الآفات والبليات والعذاب، لأنك من أصحاب اليمين، الذين سلموا من الذنوب الموبقات.

(3) المكذبون الضالون

( وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ) أي: الذين كذبوا بالحق وضلوا عن الهدى.

( فَنزلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ) أي: ضيافتهم يوم قدومهم على ربهم تصلية الجحيم التي تحيط بهم، وتصل إلى أفئدتهم، وإذا استغاثوا من شدة العطش والظمأ ( يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا )

( إِنَّ هَذَا ) الذي ذكره الله تعالى ، من جزاء العباد بأعمالهم ، خيرها وشرها ، وتفاصيل ذلك ( لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ) أي: الذي لا شك فيه ولا مرية، بل هو الحق الثابت الذي لا بد من وقوعه، وقد أشهد الله عباده الأدلة القواطع على ذلك، حتى صار عند أولي الألباب كأنهم ذائقون له مشاهدون له فحمدوا الله تعالى على ما خصهم به من هذه النعمة العظيمة، والمنحة الجسيمة.

ولهذا قال تعالى ( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) فسبحان ربنا العظيم، وتعالى وتنزه عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا ، والحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرًا طيباً مباركا فيه.

محبة لقاء الله عند الموت

 

عَنْ أَبِي مُوسَى : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ ))

 

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( قَالَ اللَّهُ إِذَا أَحَبَّ عَبْدِي لِقَائِي أَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ وَإِذَا كَرِهَ لِقَائِي كَرِهْتُ لِقَاءَهُ ))

 

وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ ، أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ ، كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ .

فَقُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ؟ فَكُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ ؟

فَقَالَ : لَيْسَ كَذَلِكِ ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا بُشِّرَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ فَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ ))

 

عَنْ أَنَسٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ

فَقَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ : إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ ؟

قَالَ : لَيْسَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ .

وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَكَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ ))

فِي رِوَايَة سَعْد بْن هِشَام :

(( بَشِّرْ بِرَحْمَةِ اللَّه وَرِضْوَانه وَجَنَّتِهِ ))

وَفِي حَدِيث حُمَيْدٍ عَنْ أَنَس :

(( وَلَكِنَّ الْمُؤْمِن إِذَا حُضِرَ جَاءَهُ الْبَشِيرُ مِنْ اللَّه وَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُون قَدْ لَقِيَ اللَّه فَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ ))

وَفِي رِوَايَة عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي لَيْلَى :

(( وَلَكِنَّهُ إِذَا حَضَرَ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ فَإِذَا بُشِّرَ بِذَلِكَ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَاَللَّهُ لِلِقَائِهِ أَحَبُّ ))

 

قَوْله ( فَلَيْسَ شَيْء أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ مَا يَسْتَقْبِلُهُ بَعْد الْمَوْت

قال الإِمَامُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْن سَلام : لَيْسَ وَجْهُهُ عِنْدِي كَرَاهَةَ الْمَوْتِ وَشِدَّتَهُ لأَنَّ هَذَا لا يَكَاد يَخْلُو عَنْهُ أَحَدٌ وَلَكِنَّ الْمَذْمُومَ مِنْ ذَلِكَ إِيثَارُ الدُّنْيَا وَالرُّكُون إِلَيْهَا وَكَرَاهِيَةُ أَنْ يَصِير إِلَى اللَّه وَالدَّار الآخِرَة .

قَالَ : وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى عَابَ قَوْمًا بِحُبِّ الْحَيَاة فَقَالَ ( إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا )

وَقَالَ النَّوَوِيّ : مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ الْمَحَبَّة وَالْكَرَاهَة الَّتِي تُعْتَبَر شَرْعًا هِيَ الَّتِي تَقَع عِنْد النَّزْعِ فِي الْحَالَة الَّتِي لا تُقْبَلُ فِيهَا التَّوْبَةُ حَيْثُ يُكْشَفُ الْحَالُ لِلْمُحْتَضِرِ وَيَظْهَرُ لَهُ مَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ .

قَوْله ( بَشِّرْ بِعَذَابِ اللَّه وَعُقُوبَتِهِ ) فِي رِوَايَة سَعْد بْن هِشَام : (( بَشِّرْ بِعَذَابِ اللَّه وَسَخَطِهِ )) وَفِي رِوَايَة حُمَيْدٍ عَنْ أَنَس : (( وَإِنَّ الْكَافِرَ أَوْ الْفَاجِرَ إِذَا جَاءَهُ مَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ مِنْ السُّوءِ ، أَوْ مَا يَلْقَى مِنْ الشَّرِّ إِلَخْ )) .ا.هـ

حديث جليل عظيم

في لحظات انتزاع الروح وسؤال القبر

 

عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ :

(( خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ

فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْقَبْرِ ( مستقبل القبلة ) وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ وَهُوَ يُلْحَدُ لَهُ ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ فِي الأَرْضِ

(فجعل ينظر إلى السماء، وينظر إلى الأرض، وجعل يرفع بصره ويخفضه ثلاثاً)

فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ : أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ثَلاثَ مِرَارٍ (فَقَالَ : اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا ) ثُمَّ قَالَ :

إِنَّ العبد الْمُؤْمِنَ :

إِذَا كَانَ فِي إِقْبَالٍ مِنْ الآخِرَةِ وَانْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا تَنَزَّلَتْ إِلَيْهِ الْمَلائِكَةُ مِنْ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ عَلَى وُجُوهِهِمْ الشَّمْسَ (كأن وجوههم كالشمس)

مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ فَجَلَسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ .

ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَيْهِ السَّلام حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ :

أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ (المطمئنة) اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ

فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ ، فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا ، فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ .

فذلك قوله تعالى : "توفته رسلنا وهم لا يفرطون"

وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ ، حَتَّى إِذَا خَرَجَ رُوحُهُ صَلَّى عَلَيْهِ كُلُّ مَلَكٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَكُلُّ مَلَكٍ فِي السَّمَاءِ ، وَفُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَابٍ إِلا وَهُمْ يَدْعُونَ اللَّهَ أَنْ يُعْرَجَ بِرُوحِهِ مِنْ قِبَلِهِمْ .

( فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلا يَمُرُّونَ يَعْنِي بِهَا عَلَى مَلإٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ إِلا قَالُوا مَا هَذَا الرُّوحُ الطَّيِّبُ ؟

فَيَقُولُونَ : فُلانُ بْنُ فُلانٍ بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ ) .

 

فَإِذَا عُرِجَ بِرُوحِهِ قَالُوا : رَبِّ عَبْدُكَ فُلانٌ .

فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الأَرْضِ ، فَإِنِّي عَهِدْتُ إِلَيْهِمْ أَنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ ، وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى .

(( وما أدراك ما عليون ، كتاب مرقوم يشهده المقربون ))

فيكتب كتابه في عليين" ، فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ .

قالَ : فَإِنَّهُ يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِ أَصْحَابِهِ إِذَا وَلَّوْا عَنْهُ مدبرين .

فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ  (شديدا الانتهار فينتهرانه) فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولانِ لَهُ : مَنْ رَبُّكَ ؟

فَيَقُولُ : رَبِّيَ اللَّهُ .

فَيَقُولانِ لَهُ : مَا دِينُكَ ؟

فَيَقُولُ : دِينِيَ الإِسْلامُ .

فَيَقُولانِ لَهُ : مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ ؟

فَيَقُولُ : هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

فَيَقُولانِ لَهُ : وَمَا عِلْمُكَ ؟

فَيَقُولُ : قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ .

( فَيَنْتَهِرُهُ فَيَقُولُ : مَنْ رَبُّكَ ؟ مَا دِينُكَ ؟ مَنْ نَبِيُّكَ ؟ وَهِيَ آخِرُ فِتْنَةٍ تُعْرَضُ عَلَى الْمُؤْمِنِ فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : "يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ"

فَيَقُولُ : رَبِّيَ اللَّهُ ، وَدِينِيَ الإِسْلامُ وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

فَيَقُولُ لَهُ : صَدَقْتَ .

فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ :

أَنْ صَدَقَ عَبْدِي ، فَأَفْرِشُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ ، وَأَلْبِسُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ ، فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ .

وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ ، فَيَقُولُ : أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ ( أَبْشِرْ بِكَرَامَةٍ مِنْ اللَّهِ وَنَعِيمٍ مُقِيمٍ ) ( أبشر برضوان من الله ، وجنات فيها نعيم مقيم )

فَيَقُولُ لَهُ : وَأَنْتَ فَبَشَّرَكَ اللَّهُ بِخَيْرٍ ، مَنْ أَنْتَ ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ .

فَيَقُولُ : أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ (فوالله ما علمتك) كُنْتَ وَاللَّهِ سَرِيعًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ بَطِيئًا عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا .

ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ الْجَنَّةِ وَبَابٌ مِنْ النَّارِ ، فَيُقَالُ : هَذَا كَانَ مَنْزِلَكَ لَوْ عَصَيْتَ اللَّهَ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ هَذَا ، فَإِذَا رَأَى مَا فِي الْجَنَّةِ قَالَ : رَبِّ عَجِّلْ قِيَامَ السَّاعَةِ (رَبِّ أَقِمْ السَّاعَةَ )كَيْمَا أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي .

فَيُقَالُ لَهُ : اسْكُنْ .

 

قَالَ صلى الله عليه وسلم : وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ ( العبد الفاجر ) :

إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنْ الآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مِنْ السَّمَاءِ مَلائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ غِلاظٌ شِدَادٌ مَعَهُمْ الْمُسُوحُ (من النار) فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ( فَانْتَزَعُوا رُوحَهُ كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ الْكَثِيرُ الشِّعْبِ مِنْ الصُّوفِ الْمُبْتَلِّ وَتُنْزَعُ نَفْسُهُ مَعَ الْعُرُوقِ )

ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ :

أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَغَضَبٍ .

قَالَ فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ الكثير الشعب مِنْ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ ( فَيَنْتَزِعُهَا تَتَقَطَّعُ مَعَهَا الْعُرُوقُ وَالْعَصَبُ )

فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ ( فَيَلْعَنُهُ كُلُّ مَلَكٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَكُلُّ مَلَكٍ فِي السَّمَاءِ )

فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلإٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ إِلا قَالُوا : مَا هَذَا الرُّوحُ الْخَبِيثُ ؟ فَيَقُولُونَ : فُلانُ بْنُ فُلانٍ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ ، فَلا يُفْتَحُ لَهُ .

ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ))

( وَتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَابٍ إِلا وَهُمْ يَدْعُونَ اللَّهَ أَنْ لا تَعْرُجَ رُوحُهُ مِنْ قِبَلِهِمْ ، فَإِذَا عُرِجَ بِرُوحِهِ ، قَالُوا : رَبِّ فُلانُ بْنُ فُلانٍ عَبْدُكَ ؟ )

فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :

اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ ، فِي الأَرْضِ السُّفْلَى ، ( أَرْجِعُوهُ فَإِنِّي عَهِدْتُ إِلَيْهِمْ أَنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى )

فَتُطْرَحُ رُوحُهُ من السماء طَرْحًا حتى تقع في جسده ثُمَّ قَرَأَ :

(( وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ))

(فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ) ، قالَ : فَإِنَّهُ يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِ أَصْحَابِهِ إِذَا وَلَّوْا عَنْهُ .

وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ شديدا الانتهار، فينتهرانه فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولانِ لَهُ : مَنْ رَبُّكَ ؟

فَيَقُولُ : هَاهْ هَاهْ لاَ أَدْرِي .

فَيَقُولانِ لَهُ : مَا دِينُكَ ؟

فَيَقُولُ : هَاهْ هَاهْ لا أَدْرِي .

فَيَقُولانِ لَهُ : مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ ؟

فلا يهتدي لاسمه .

فيقال : محمد .

فَيَقُولُ : هَاهْ هَاهْ لا أَدْرِي ، سمعت الناس يقولون ذلك .

فَيَقُولان : لا دَرَيْتَ وَلا تَلَوْتَ .

فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ ، فَافْرِشُوا لَهُ مِنْ النَّارِ وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ ، فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلاعُهُ

وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ ، قَبِيحُ الثِّيَابِ ، مُنْتِنُ الرِّيحِ ، فَيَقُولُ : أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ ( أَبْشِرْ بِهَوَانٍ مِنْ اللَّهِ وَعَذَابٍ مُقِيمٍ ) .

فَيَقُولُ : وَأَنْتَ فَبَشَّرَكَ اللَّهُ بِالشَّرِّ مَنْ أَنْتَ ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ

فَيَقُولُ : أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ (فوالله ما علمتك إلا )كُنْتَ بَطِيئًا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ سَرِيعًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَجَزَاكَ اللَّهُ شَرًّا .

ثُمَّ يُقَيَّضُ لَهُ أَعْمَى أَصَمُّ أَبْكَمُ فِي يَدِهِ مِرْزَبَةٌ لَوْ ضُرِبَ بِهَا جَبَلٌ كَانَ تُرَابًا فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً حَتَّى يَصِيرَ تُرَابًا ، ثُمَّ يُعِيدُهُ اللَّهُ كَمَا كَانَ ، فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً أُخْرَى فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلا الثَّقَلَيْنِ ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ النَّارِ وَيُمَهَّدُ مِنْ فُرُشِ النَّارِ ، فَيَقُولُ : رَبِّ لا تُقِمْ السَّاعَةَ ))



شرح بعض كلمات الحديث

(يلحد) : اللحد هو حفرة مائلة داخل القبر يوضع فيها الميت .

(ينكت) أي يضرب ضربًا خفيفًا

(الحنوط) : عطر يُطَيَّبُ به الميت

(مِنْ فِي السِّقَاءِ) أي من فم السقاء ، والسقاء هو الوعاء الذي يوضع فيه الماء ، أي أن روحه تخرج في سهولة ويسر دون أي مشقة ، كما يخرج الماء من فتحة الوعاء بسهولة .

(أَنْ يُعْرَجَ بِرُوحِهِ مِنْ قِبَلِهِمْ ) : عَرَجَ في الدَرجة والسلَّم يَعْرُج عُروجاً، إذا ارْتَقى ، والمراد أن الملائكة تتمنى صعود روح العبد الصالح من ناحيتهم ، بعكس روح الكافر أو الفاجر فينفرون منها ، ويدعون الله تعالى أن لا تمر عليهم .

(اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ) : أي في موضع يسمى عليين ، كما قال عز وجل ((كَلا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ ، كِتَابٌ مَرْقُومٌ ، يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ))

والظاهر: أن عليين مأخوذ من العلو، وكلما علا الشيء وارتفع عظم واتسع؛ ولهذا قال معظما أمره ومفخما شأنه :

( وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّون ) ثم قال مؤكدا لما كتب لهم: ( كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) وهم الملائكة ، قاله قتادة.

وقال العوفي عن ابن عباس: يشهده من كل سماء مقربوها .ا.هـ

 

(المسوح) : كساء من الشعر والليف الخشن يكفن فيه .

(السفود) حديدة ذات شعب معقفة .

(الجيفة) جثة الميت إذا أنتنت

(حتى يلج الجمل في سم الخياط ) : الولوج : الدخول ، سم : أي فتحة ، الخياط : الأبرة

أي هذا الصنف يستحيل أن يدخل إلى السماء أو أن تفتح لهم أبوابها ، كما يستحيل أن يدخل الجمل في فتحة الأبرة التي يخاط بها .

 

وفي الحديث : أن الله تعالى يجعل الأعمال الصالحة التي يعملها العبد الصالح في الدنيا في صورة إنسان يبشره بالخير .

وكذلك بالنسبة للعبد الفاجر أو الكافر يجعل له أعماله السيئة في صورة إنسان قبيح يبشره بالشر ..

كما أن في الحديث :

أن بداية الموت للعبد الصالح تتوالى عليه الخيرات والبشريات ويلقى الحفاوة والترحيب ويبشر بالجنة والسعادة ورضوان الله تعالى عليه وصلاة الملائكة الكرامة إلى غير ذلك من أنواع الخير الذي لا ينقطع .... فالموت هنا هو بداية السعادة والنعيم .. نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم .

 

على عكس الكافر والفاجر الشقي التعيس عياذًا بالله العلي الكبير من أحوالهم :

فيكون بداية الموت بالنسبة له هي بداية الشرور والتعاسة والعذاب والهوان ويلاقي كل بلاء وفتنة وتتنزل عليه اللعنات ويبوء بسخط الله تعالى عليه والملائكة ، ولا تفتح له أبواب السماء ولا تزال تتوالى عليه البلايا والرزايا .. فالموت بداية تعاسته وعذابه وشقاءه .

تنبيه هام جدًا

قال تعالى : (( كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ ، كِتَابٌ مَرْقُومٌ ، يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ )) .. وفي الحديث السابق : (اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ)

فالآية والحديث يتكلمان عن كتاب .. أي كتاب العبد الذي كتبت فيه أعماله وسعيه في الدنيا ، وهذا الكتاب يتم وضعه في عليين .. حتى يكون يوم القيامة ، يتم توزيع هذه الكتب على أصحابها كما قال الله تعالى : (( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ،وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ))

فالذي يوضع في هذا الموضع الرفيع المقام (( عليون )) هو كتاب العبد

(كِتَابٌ مَرْقُومٌ ) أي مكتوب فيه أعمالهم مثبتة عليهم كالرقم في الثوب ، لا ينسى ولا يمحى حتى يجازوا به .

والكلام في الآية والحديث عن الكتاب .. وليست الأرواح ..

وفي الحديث تباين واضح : فأولاً يقول تعالى : اكتبوا كتاب عبدي في عليين

وبعد سؤال الملكين : فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ : أَنْ صَدَقَ عَبْدِي ، فَأَفْرِشُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ ، وَأَلْبِسُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ ، فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ .

فالكتاب في عليين في مقام رفيع يشهده المقربون من عباد الله ، والعبد تكون روحه في الجنة يسري عليه نعيمها ويجري عليه رزقها

والفرق واضح بين الكلام عن كل واحد منهما فالكلام أولاً : عن كتاب أعمال العبد ومكانه .. وثانيًا : عن روح العبد ومكانها .

فأرواح المؤمنين فتكون في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث تشاء .. وقد يطلق على أنه في العلو من حيث الجهة  ، لأن الجنة كذلك ..

 

فيكون كتاب الأعمال في عليين في ذلك المكان المخصوص

وتكون الأرواح في مكان آخر غير السابق .. في الجنة

 

ثم إن الكتب تحفظ في عليين لحين توزيعها عليهم يوم القيامة .

كما قال تعالى

(( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ، إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ، فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ، قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ  ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ))

كذلك الأمر في حق الكفار والفجار :

فقد قال الله تعالى : (( كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ، كِتَابٌ مَرْقُومٌ ))   .. وفي الحديث السابق : (( فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ ، فِي الأَرْضِ السُّفْلَى ))

فهنا الكلام على أن كتاب الفجار يكون في أسفل مكان وأضيقه ، الكتاب الذي كتبت فيه أعمالهم الخبيثة وسعيهم الضال في الدنيا

ويأتي التباين في الحديث بعد سؤال الملكين : ((فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ ، فَافْرِشُوا لَهُ مِنْ النَّارِ وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ ، فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا))

فالكتاب يكون في الأرض السفلى في الموضع المسمى بسجين .

والأرواح في النار تعذب في حياتها البرزخية كما قال تعالى عن قوم نوح (( مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا ))

ويوم القيامة توزع عليهم هذه الكتب ليجازون بما فيه فيستلمون بشمالهم كما قال تعالى (( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ، وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ، يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ، مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ، خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ))

فكتب أهل الجنة المكتوب فيها أعمالهم : تحفظ في عليين لحين توزع عليهم يوم القيامة

وكتب أهل النار المكتوب فيها أعمالهم : تحفظ في سجين لحين توزع عليهم يوم القيامة .

وأرواح المؤمنين يسري عليها النعمة من الله في الجنة ، وأرواح الكافرين يسري عليها العذاب من الله في النار

ويوم القيامة يرد الله تعالى الأرواح جميعًا إلى أجساد أصحابها ، ويجازون على أعمالهم المسجلة والمحفوظة في كتبهم .

فالخلاصة : هي إثبات أن عليين وسجين موضعان لكتاب العبد ، والجنة والنار موضعان لروح العبد .. والله تعالى أعلم .

نسأل الله تبارك وتعالى أن يتوفانا على الإيمان وأن يدخلنا برحمته في عباده الصالحين وأن يرزقنا عفوه ورضاه في الدنيا والآخرة .

قال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله : أرواح الكفار في النار وأرواح المؤمنين في الجنة .



أحاديث أخرى في وصف لحظات الموت

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( الْمَيِّتُ تَحْضُرُهُ الْمَلائِكَةُ فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَالِحًا قَالُوا :

اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ ، اخْرُجِي حَمِيدَةً وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ ، فَلا يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ

ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَيُفْتَحُ لَهَا ، فَيُقَالُ : مَنْ هَذَا ؟ فَيَقُولُونَ : فُلانٌ ، فَيُقَالُ : مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الطَّيِّبَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ ، ادْخُلِي حَمِيدَةً وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ ، فَلا يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى يُنْتَهَى بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ .

وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ السُّوءُ قَالَ : اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ اخْرُجِي ذَمِيمَةً ، وَأَبْشِرِي بِحَمِيمٍ وَغَسَّاقٍ وَآخَرَ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ، فَلا يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَلا يُفْتَحُ لَهَا

فَيُقَالُ : مَنْ هَذَا ؟ فَيُقَالُ : فُلانٌ ، فَيُقَالُ : لا مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الْخَبِيثَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ ارْجِعِي ذَمِيمَةً فَإِنَّهَا لا تُفْتَحُ لَكِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ فَيُرْسَلُ بِهَا مِنْ السَّمَاءِ ثُمَّ تَصِيرُ إِلَى الْقَبْرِ ))

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ :

(( إِذَا خَرَجَتْ رُوحُ الْمُؤْمِنِ تَلَقَّاهَا مَلَكَانِ يُصْعِدَانِهَا ، فَذَكَرَ مِنْ طِيبِ رِيحِهَا وَذَكَرَ الْمِسْكَ قَالَ : وَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ :

رُوحٌ طَيِّبَةٌ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الأَرْضِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكِ وَعَلَى جَسَدٍ كُنْتِ تَعْمُرِينَهُ ، فَيُنْطَلَقُ بِهِ إِلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يَقُولُ : انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى آخِرِ الأَجَلِ .

قَالَ : وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا خَرَجَتْ رُوحُهُ ، وَذَكَرَ مِنْ نَتْنِهَا وَذَكَرَ لَعْنًا وَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ : رُوحٌ خَبِيثَةٌ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الأَرْضِ ، فَيُقَالُ : انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى آخِرِ الأَجَلِ .

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَيْطَةً كَانَتْ عَلَيْهِ عَلَى أَنْفِهِ هَكَذَا))

( ثُمَّ يَقُول اِنْطَلِقُوا بِهِ إِلَى آخِر الأَجَل ) يُحْتَمَل أَنَّ الْمُرَاد إِلَى اِنْقِضَاء أَجَل الدُّنْيَا ، أو الذهاب بروح المؤمن إلى الجنة ، وبروح الكافر إلى النار .

( فَرَدَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَيْطَة كَانَتْ عَلَيْهِ عَلَى أَنْفه ) هُوَ ثَوْب رَقِيق , وَقِيلَ : هِيَ الْمُلاءَة , وَكَانَ سَبَب رَدّهَا عَلَى الْأَنْف بِسَبَبِ مَا ذَكَرَ مِنْ نَتْن رِيح رُوح الْكَافِر .

شخوص بصر الميت يتبع روحه :

عن أبي هُرَيْرَةَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

((أَلَمْ تَرَوْا الإِنْسَانَ إِذَا مَاتَ شَخَصَ بَصَرُهُ ، قَالُوا : بَلَى ، قَالَ : فَذَلِكَ حِينَ يَتْبَعُ بَصَرُهُ نَفْسَهُ))

قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( شَخَصَ بَصَره ) بِفَتْحِ الْخَاء أَيْ اِرْتَفَعَ وَلَمْ يَرْتَدّ .

قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَتْبَع بَصَره نَفْسه ) الْمُرَاد بِالنَّفْسِ هُنَا الرُّوح

قَالَ الْقَاضِي : وَفِيهِ أَنَّ الْمَوْت لَيْسَ بِإِفْنَاءٍ وَإِعْدَام , وَإِنَّمَا هُوَ اِنْتِقَال وَتَغَيُّر حَال وَإِعْدَام الْجَسَد دُون الرُّوح إِلا مَا اِسْتَثْنَى مِنْ عَجْب الذَّنَب

قَالَ : وَفِيهِ حُجَّة لِمَنْ يَقُول : الرُّوح وَالنَّفْس بِمَعْنًى .

 

وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ :

(( دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ ثُمَّ قَالَ : إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ فَقَالَ : لا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلا بِخَيْرٍ فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ ، ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَبِي سَلَمَةَ وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ ))

( وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ ) قَالَ الْقَاضِي : قَالَ صَاحِب الأَفْعَال : يُقَال شَقَّ بَصَر الْمَيِّت وَشَقَّ الْمَيِّت بَصَره وَمَعْنَاهُ شَخَصَ كَمَا فِي الرِّوَايَة الأُخْرَى

وَقَالَ اِبْن السِّكِّيت فِي الإِصْلاح , وَالْجَوْهَرِيّ حِكَايَة عَنْ اِبْن السِّكِّيت : يُقَال : شَقَّ بَصَر الْمَيِّت وَلا تَقُلْ : شَقَّ الْمَيِّت بَصَره , وَهُوَ الَّذِي حَضَرَهُ الْمَوْت , وَصَارَ يَنْظُر إِلَى الشَّيْء لا يَرْتَدّ إِلَيْهِ طَرَفه .

( فَأَغْمَضَهُ ) دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب إِغْمَاض الْمَيِّت , وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ . قَالُوا : وَالْحِكْمَة فِيهِ أَلا يَقْبُح بِمَنْظَرِهِ لَوْ تَرَكَ إِغْمَاضه .

قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ الرُّوح إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَر ) مَعْنَاهُ إِذَا خَرَجَ الرُّوح مِنْ الْجَسَد يَتْبَعهُ الْبَصَر نَاظِرًا أَيْنَ يَذْهَب وَفِي ( الرُّوح ) لُغَتَانِ وَالتَّأْنِيث وَهَذَا الْحَدِيث دَلِيل لِلتَّذْكِيرِ , وَفِيهِ دَلِيل لِمَذْهَبِ أَصْحَابنَا الْمُتَكَلِّمِينَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ أَنَّ الرُّوح أَجْسَام لَطِيفَة مُتَخَلِّلَة فِي الْبَدَن , وَتَذْهَب الْحَيَاة مِنْ الْجَسَد بِذَهَابِهَا وَلَيْسَ عَرْضًا كَمَا قَالَهُ آخَرُونَ , وَلا دَمًا كَمَا قَالَهُ آخَرُونَ , وَفِيهَا كَلام مُتَشَعِّب لِلْمُتَكَلِّمِينَ .

قلت : والصحيح في أمر الروح أنها من العلم الذي استأثر الله به ، كما قال تعالى ((قل الروح من أمر ربي .. الآية )) وقد سبق الكلام على هذه المسألة .

 

وعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( إِذَا حَضَرْتُمْ مَوْتَاكُمْ فَأَغْمِضُوا الْبَصَرَ فَإِنَّ الْبَصَرَ يَتْبَعُ الرُّوحَ وَقُولُوا خَيْرًا فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ تُؤَمِّنُ عَلَى مَا قَالَ أَهْلُ الْبَيْتِ ))

ما يقوله الميت حين تحمل جنازته :

 

عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( إِذَا وُضِعَتْ الْجِنَازَةُ وَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ : قَدِّمُونِي .

وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ : يَا وَيْلَهَا أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا ، يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلا الإِنْسَانَ وَلَوْ سَمِعَهُ صَعِقَ ))

 

عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مِهْرَانَ :

(( أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ : لا تَضْرِبُوا عَلَيَّ فُسْطَاطًا وَلا تَتْبَعُونِي بِمِجْمَرٍ وَأَسْرِعُوا بِي فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

"إِذَا وُضِعَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ عَلَى سَرِيرِهِ قَالَ : قَدِّمُونِي قَدِّمُونِي ، وَإِذَا وُضِعَ الرَّجُلُ السُّوءُ عَلَى سَرِيرِهِ قَالَ يَا وَيْلَي أَيْنَ تَذْهَبُونَ بِي )) وفي رواية : (( إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا وُضِعَ عَلَى سَرِيرِهِ قَالَ أَسْرِعُوا بِي وَإِذَا وُضِعَ الْكَافِرُ عَلَى سَرِيرِهِ قَالَ وَيْلاَهُ أَيْنَ تَذْهَبُونَ بِي ))

 

ما يتبع الإنسان بعد موته :

عن أَنَس بْنَ مَالِكٍ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلاثَةٌ فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ : يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ ))

قَوْله ( يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ ) هَذَا يَقَع فِي الأَغْلَب وَرُبَّ مَيِّتٍ لا يَتْبَعُهُ إِلا عَمَلُهُ فَقَطْ

وَالْمُرَادُ مَنْ يَتْبَعُ جِنَازَتَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَرُفْقَتِهِ وَدَوَابِّهِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْعَرَبِ وَإِذَا اِنْقَضَى أَمْرُ الْحُزْنِ عَلَيْهِ رَجَعُوا , سَوَاءٌ أَقَامُوا بَعْدَ الدَّفْنِ أَمْ لا .

وَمَعْنَى بَقَاءِ عَمَلِهِ أَنَّهُ يَدْخُلُ مَعَهُ الْقَبْرَ وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ الطَّوِيلِ فِي صِفَةِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْقَبْرِ عِنْد أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ فَفِيهِ " وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الثِّيَابِ حَسَنُ الرِّيحِ فَيَقُولُ : أَبْشِرْ بِاَلَّذِي يَسُرُّك فَيَقُول : مَنْ أَنْتَ ؟ فَيَقُول أَنَا عَمَلك الصَّالِح " وَقَالَ فِي حَقِّ الْكَافِرِ " وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ " الْحَدِيثَ وَفِيهِ " بِاَلَّذِي يَسُوءُك وَفِيهِ عَمَلُك الْخَبِيثُ "

 

 

مجموعة أخرى من الأحاديث في بيان

ما يحدث للعبد إذا وضع في قبره

 

عَنْ أَسْمَاءَ بنت أبي بكر رضي الله عنهما قَالَتْ :

أَتَيْتُ عَائِشَةَ وَهِيَ تُصَلِّي ، فَقُلْتُ : مَا شَأْنُ النَّاسِ ، فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ فَقَالَتْ : سُبْحَانَ اللَّهِ ، قُلْتُ : آيَةٌ ؟ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَيْ نَعَمْ ، فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلاَّنِي الْغَشْيُ فَجَعَلْتُ أَصُبُّ عَلَى رَأْسِي الْمَاءَ ، فَحَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ :

(( مَا مِنْ شَيْءٍ لَمْ أَكُنْ أُرِيتُهُ إِلا رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي حَتَّى الْجَنَّةُ وَالنَّارُ ، فَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي قُبُورِكُمْ مِثْلَ أَوْ قَرِيبَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ ، يُقَالُ : مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ أَوْ الْمُوقِنُ فَيَقُولُ : هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فَأَجَبْنَا وَاتَّبَعْنَا هُوَ مُحَمَّدٌ ثَلاثًا فَيُقَالُ : نَمْ صَالِحًا قَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُوقِنًا بِهِ ، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوْ الْمُرْتَابُ فَيَقُولُ : لا أَدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ ))

 

وقال عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تَقُولُ :

(( قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا فَذَكَرَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ الَّتِي يَفْتَتِنُ فِيهَا الْمَرْءُ فَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ ضَجَّ الْمُسْلِمُونَ ضَجَّةً ))

 

عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( الْعَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتُوُلِّيَ وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ

أَتَاهُ مَلَكَانِ فَأَقْعَدَاهُ فَيَقُولانِ لَهُ : مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟

فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ : أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ

فَيُقَالُ لَهُ : انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنْ النَّارِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنْ الْجَنَّةِ فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا ، ويُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ – وفي رواية زيادة- سَبْعُونَ ذِرَاعًا وَيُمْلأُ عَلَيْهِ خُضْرًا إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ

وَأَمَّا الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ فَيُقَالُ لَهُ : مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ ؟

فَيَقُولُ : لا أَدْرِي كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ

فَيُقَالُ : لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ وَيُضْرَبُ بِمَطَارِقَ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ-وفي زيادة- يَضِيقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلاعُهُ ))

 

 

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ :

(( إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ نَخْلاً لِبَنِي النَّجَّارِ ، فَسَمِعَ صَوْتًا ، فَفَزِعَ ، فَقَالَ : مَنْ أَصْحَابُ هَذِهِ الْقُبُورِ ؟

قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ نَاسٌ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ

فَقَالَ : تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ وَمِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ

قَالُوا : وَمِمَّ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟

قَالَ : إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ أَتَاهُ مَلَكٌ فَيَقُولُ لَهُ : مَا كُنْتَ تَعْبُدُ ؟ فَإِنْ اللَّهُ هَدَاهُ قَالَ : كُنْتُ أَعْبُدُ اللَّهَ ، فَيُقَالُ لَهُ : مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ ؟ فَيَقُولُ : هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ، فَمَا يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ غَيْرِهَا .

فَيُنْطَلَقُ بِهِ إِلَى بَيْتٍ كَانَ لَهُ فِي النَّارِ فَيُقَالُ لَهُ : هَذَا بَيْتُكَ كَانَ لَكَ فِي النَّارِ وَلَكِنَّ اللَّهَ عَصَمَكَ وَرَحِمَكَ فَأَبْدَلَكَ بِهِ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ ، فَيَقُولُ : دَعُونِي حَتَّى أَذْهَبَ فَأُبَشِّرَ أَهْلِي فَيُقَالُ لَهُ : اسْكُنْ .

وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ أَتَاهُ مَلَكٌ فَيَنْتَهِرُهُ فَيَقُولُ لَهُ :

مَا كُنْتَ تَعْبُدُ ؟ فَيَقُولُ : لا أَدْرِي فَيُقَالُ لَهُ : لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ .

فَيُقَالُ لَهُ : فَمَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ ؟ فَيَقُولُ : كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ .

فَيَضْرِبُهُ بِمِطْرَاقٍ مِنْ حَدِيدٍ بَيْنَ أُذُنَيْهِ ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا الْخَلْقُ غَيْرُ الثَّقَلَيْنِ ))

 

وعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( "يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ" ، قَالَ : نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ ، فَيُقَالُ لَهُ : مَنْ رَبُّكَ ؟ فَيَقُولُ : رَبِّيَ اللَّهُ وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ "يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ" ))

 

الأعمال الصالحة تنفع العبد في قبره ، وتدفع عنه عذاب القبر

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((إن الميت إذا وضع في قبره ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عَنْهُ مدبرين .

فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَانَتِ الصَّلاةُ عِنْدَ رَأْسِهِ ، وَالزَّكَاةُ عَنْ يَمِينِهِ ، وَالصَّوْمُ عَنْ شِمَالِهِ ، وَفِعْلُ الْخَيْرَاتِ وَالْمَعْرُوفُ وَالإِحْسَانُ إِلَى النَّاسِ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ .

فَيُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ ، فَتَقُولُ الصَّلاةُ : لَيْسَ قِبَلِي مَدْخَلٌ .

فَيُؤْتَى عَنْ يَمِينِهِ ، فَتَقُولُ الزَّكَاةُ : لَيْسَ مِنْ قِبَلِي مَدْخَلٌ .

ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ شِمَالِهِ ، فَيَقُولُ الصَّوْمُ : لَيْسَ مِنْ قِبَلِي مَدْخَلٌ .

ثُمَّ يُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ ، فَيَقُولُ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ وَالْمَعْرُوفُ وَالإِحْسَانُ إِلَى النَّاسِ : لَيْسَ مِنْ قِبَلِي مَدْخَلٌ .

فَيُقَالُ لَهُ : اجْلِسْ ، فَيَجْلِسُ وَقَدْ مَثُلَتْ لَهُ الشَّمْسُ وقد دنت لِلْغُرُوبِ ، فَيُقَالَ لَهُ : مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ فِيكُمْ ؟ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فَيَقُولُ : أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ، فَصَدَّقْنَا وَاتَّبَعْنَا .

فَيُقَالُ لَهُ : صَدَقْتَ  وَعَلَى هَذَا حَيِيتَ ، وَعَلَى هَذَا مِتَّ ، وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : "يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ"

فَيُقَالُ : افْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ ، فَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ ، فَيُقَالُ: هَذَا كَانَ مَنْزِلَكَ لَوْ عَصَيْتَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ

فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا ، وَيُقَالُ لَهُ : افْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ ، فَيُفْتَحُ لَهُ ، فَيُقَالُ: هَذَا مَنْزِلُكَ ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ ، فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا ، فَيُعَادُ الْجِلْدُ إِلَى مَا بَدَأَ مِنْهُ ، وتُجْعَلُ رُوحُهُ فِي نَسَمِ طَيْرٍ تَعْلَقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ .

وفي رواية :

فيقال له : أرأيتك هذا الذي كان قبلكم ما تقول فيه وماذا تشهد عليه ؟

فيقول : دعوني حتى أصلي .

فيقولون : إنك ستفعل أخبرنا عما نسألك عنه ، أرأيتك هذا الرجل الذي كان قبلكم ماذا تقول فيه وماذا تشهد عليه ؟

فيقول : محمد أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه جاء بالحق من عند الله

فيقال له : على ذلك حييت وعلى ذلك مت وعلى ذلك تبعث إن شاء الله .

ثم يفتح له باب من أبواب الجنة فيقال له : هذا مقعدك منها وما أعد الله لك فيها فيزداد غبطة وسروراً .

ثم يفتح له باب من أبواب النار فيقال له : هذا مقعدك وما أعد الله لك فيها لو عصيته فيزداد غبطة وسرورا .ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً وينور له فيه ويعاد الجسد كما بدأ منه فتجعل نسمته في النسيم الطيب وهي طير تعلق في شجر الجنة فذلك قوله :

"يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة" الآية .

وَأَمَّا الْكَافِرُ

فَيُؤْتَى فِي قَبْرِهِ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ ، فَلا يُوجَدْ شَيْءٌ ، فَيُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ فَلا يُوجَدُ شَيْءٌ ، فَيَجْلِسُ خَائِفًا مَرْعُوبًا ، فَيُقَالُ لَهُ : مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ فِيكُمْ ؟ وَمَا تَشْهَدُ بِهِ ؟

فيقول : أي رجل ، فَلا يَهْتَدِي لاسْمِهِ .

فَيُقَالُ : مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

فَيَقُولُ : سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا ، فَقُلْتُ كَمَا قَالُوا

فَيُقَالُ لَهُ : صَدَقْتَ ، عَلَى هَذَا حَيِيتَ ، وَعَلَيْهِ مِتَّ ، وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ

فَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلاعُهُ ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَ :

" وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا "

فَيُقَالُ : افْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ ، فَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ ، فَيُقَالُ لَهُ : هَذَا كَانَ مَنْزِلَكَ وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ لَوْ أَنْتَ أَطَعْتَهُ ..فَيَزْدَادُ حَسْرَةً وثُبُورًا .

ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : افْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ ، فَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَيْهَا ، فَيُقَالُ لَهُ : هَذَا مَنْزِلُكَ وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ ، فَيَزْدَادُ حَسْرَةً وثُبُورًا" ))

قَالَ أَبُو عُمَرَ: قُلْتُ لِحَمَّادِ بن سَلَمَةَ :

كَانَ هَذَا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ ؟ قَالَ : نَعَمْ

قَالَ أَبُو عُمَرَ: كَأَنَّهُ يَشْهَدُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ عَلَى غَيْرِ يَقِينٍ يَرْجِعُ إِلَى قَلْبِهِ، كَانَ يَسْمَعُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَيَقُولُهُ .

 

وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ :

(( جَاءَتْ يَهُودِيَّةٌ فَاسْتَطْعَمَتْ عَلَى بَابِي فَقَالَتْ : أَطْعِمُونِي أَعَاذَكُمْ اللَّهُ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ وَمِنْ فِتْنَةِ عَذَابِ الْقَبْرِ .

قَالَتْ : فَلَمْ أَزَلْ أَحْبِسُهَا حَتَّى جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَقُولُ هَذِهِ الْيَهُودِيَّةُ

قَالَ : وَمَا تَقُولُ ؟

قُلْتُ : تَقُولُ أَعَاذَكُمْ اللَّهُ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ وَمِنْ فِتْنَةِ عَذَابِ الْقَبْرِ .

قَالَتْ عَائِشَةُ : فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ مَدًّا يَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ وَمِنْ فِتْنَةِ عَذَابِ الْقَبْرِ ثُمَّ قَالَ :

أَمَّا فِتْنَةُ الدَّجَّالِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ إِلا قَدْ حَذَّرَ أُمَّتَهُ وَسَأُحَذِّرُكُمُوهُ تَحْذِيرًا لَمْ يُحَذِّرْهُ نَبِيٌّ أُمَّتَهُ إِنَّهُ أَعْوَرُ وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ بِأَعْوَرَ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ .

فَأَمَّا فِتْنَةُ الْقَبْرِ : فَبِي تُفْتَنُونَ وَعَنِّي تُسْأَلُونَ .

فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ أُجْلِسَ فِي قَبْرِهِ غَيْرَ فَزِعٍ وَلا مَشْعُوفٍ ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : فِيمَ كُنْتَ ؟

فَيَقُولُ : فِي الإِسْلامِ .

فَيُقَالُ : مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ فِيكُمْ ؟

فَيَقُولُ : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَصَدَّقْنَاهُ ، فَيُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ النَّارِ فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا .

فَيُقَالُ لَهُ : انْظُرْ إِلَى مَا وَقَاكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ إِلَى الْجَنَّةِ فَيَنْظُرُ إِلَى زَهْرَتِهَا وَمَا فِيهَا ، فَيُقَالُ لَهُ : هَذَا مَقْعَدُكَ مِنْهَا وَيُقَالُ عَلَى الْيَقِينِ كُنْتَ وَعَلَيْهِ مِتَّ وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ .

وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ السَّوْءُ أُجْلِسَ فِي قَبْرِهِ فَزِعًا مَشْعُوفًا فَيُقَالُ لَهُ : فِيمَ كُنْتَ ؟

فَيَقُولُ : لا أَدْرِي

فَيُقَالُ : مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ فِيكُمْ ؟

فَيَقُولُ : سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ قَوْلاً فَقُلْتُ كَمَا قَالُوا .

فَتُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ الْجَنَّةِ فَيَنْظُرُ إِلَى زَهْرَتِهَا وَمَا فِيهَا فَيُقَالُ لَهُ : انْظُرْ إِلَى مَا صَرَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْكَ

ثُمَّ يُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ النَّارِ فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيُقَالُ لَهُ : هَذَا مَقْعَدُكَ مِنْهَا كُنْتَ عَلَى الشَّكِّ وَعَلَيْهِ مِتَّ وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يُعَذَّبُ ))

 

 

 

 

 



 

صورة طيبة لأهل الإيمان والصلاة حين يوضع في قبره

 

عَنْ جَابِرٍ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( إِذَا دَخَلَ الْمَيِّتُ الْقَبْرَ ، مُثِّلَتْ الشَّمْسُ عِنْدَ غُرُوبِهَا ، فَيَجْلِسُ يَمْسَحُ عَيْنَيْهِ وَيَقُولُ : دَعُونِي أُصَلِّي ))

أي تصورت له الشمس .. وهكذا ينفع الإيمان والعمل الصالح صاحبه ، فمن داوم على الصلاة وحافظ عليها كان هذا حاله عندما يغلق عليه قبره ..

 



 

ومن صور تلقي الملائكة للروح :

 

عن حُذَيْفَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( تَلَقَّتْ الْمَلائِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَالُوا : أَعَمِلْتَ مِنْ الْخَيْرِ شَيْئًا ؟ قَالَ : كُنْتُ آمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا فَأَقْبَلُ مِنْ الْمُوسِرِ وَأَتَجَاوَزُ عَنْ الْمُعْسِرِ (كُنْت أُيَسِّرُ عَلَى الْمُوسِرِ وَأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ) ، قَالَ : فَتَجَاوَزُوا عَنْهُ ))

قَوْله ( تَلَقَّتْ الْمَلائِكَةُ ) أَيْ اِسْتَقْبَلَتْ رُوحَهُ عِنْد الْمَوْتِ

وَفِي رِوَايَة : (( أَنَّ رَجُلاً كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَتَاهُ الْمَلَكُ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ ))

 



 

ذكر أسماء الملائكة الموكلة بسؤال القبر وصفتهم

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( إِذَا قُبِرَ الْمَيِّتُ أَوْ قَالَ أَحَدُكُمْ ، أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ يُقَالُ لأَحَدِهِمَا : الْمُنْكَرُ ، وَالآخَرُ : النَّكِيرُ

فَيَقُولانِ : مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ ؟

فَيَقُولُ مَا كَانَ يَقُولُ : هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ .

فَيَقُولانِ : قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ هَذَا ، ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِينَ ، ثُمَّ يُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : نَمْ .

فَيَقُولُ : أَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي فَأُخْبِرُهُمْ .

فَيَقُولانِ : نَمْ كَنَوْمَةِ الْعَرُوسِ الَّذِي لا يُوقِظُهُ إِلا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ

وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا قَالَ : سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ فَقُلْتُ مِثْلَهُ لا أَدْرِي .

فَيَقُولانِ : قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ ذَلِكَ .

فَيُقَالُ لِلأَرْضِ الْتَئِمِي عَلَيْهِ فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ فَتَخْتَلِفُ فِيهَا أَضْلاعُهُ فَلا يَزَالُ فِيهَا مُعَذَّبًا حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ ))

( يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا الْمُنْكَرُ ) مَفْعُولٌ مِنْ أَنْكَرَ بِمَعْنَى نَكِرَ ، إِذَا لَمْ يَعْرِفْ أَحَدًا

( وَلِلْآخَرِ النَّكِيرُ )فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٌ مِنْ نَكِرَ بِالْكَسْرِ ، إِذَا لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ

فَهُمَا كِلَاهُمَا ضِدُّ الْمَعْرُوفِ سُمِّيَا بِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَمْ يَعْرِفْهُمَا وَلَمْ يَرَ صُورَةً مِثْلَ صُورَتِهِمَا.

وقال المناوي : منكر ونكير بفتح كاف الأول وكلاهما ضد المعروف سميا به لأنهما لا يشبه خلقهما خلق آدمي ولا ملك ولا غيرهما وهما أسودان أزرقان .

جمع الله تعالى للأبدان وسؤالها وإن تفرقت

أهل السنة يؤمنون بأن سؤال القبر ، وكذلك عذاب القبر ونعيمه ، يقعان لكل أحد مات ، وسواء تم دفنه في القبر ، أو احترق وصار رمادًا تذروه الرياح ، أو تمزق جسده وتفرق ، أو غرق في البحر ، حتى وإن أكلته الطيور والسباع .

فإن الله تعالى بقدرته يجمع هذا الإنسان مهما حدث له ، وتسأله الملائكة سؤال القبر ، ويجري عليه ما يستحقه من نعيم أو عذاب ، كما يكون الأمر في أهل القبور .

وثيت ذلك بالأحاديث الصحيحة :

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( أَنَّ رَجُلاً كَانَ قَبْلَكُمْ رَغَسَهُ اللَّهُ مَالا فَقَالَ لِبَنِيهِ لَمَّا حُضِرَ : أَيَّ أَبٍ كُنْتُ لَكُمْ ؟ قَالُوا : خَيْرَ أَبٍ ، قَالَ : فَإِنِّي لَمْ أَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ فَإِذَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي ثُمَّ ذَرُّونِي فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ فَفَعَلُوا ، فَجَمَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ : مَا حَمَلَكَ ؟ قَالَ : مَخَافَتُكَ فَتَلَقَّاهُ بِرَحْمَتِهِ ))

وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

ذَكَرَ رَجُلاً فِيمَنْ كَانَ سَلَفَ أَوْ قَبْلَكُمْ ، آتَاهُ اللَّهُ مَالاً وَوَلَدًا يَعْنِي أَعْطَاهُ ، فَلَمَّا حُضِرَ (أي حضره الموت) .

قَالَ لِبَنِيهِ : أَيَّ أَبٍ كُنْتُ لَكُمْ ؟

قَالُوا : خَيْرَ أَبٍ

قَالَ : فَإِنَّهُ لَمْ يَبْتَئِرْ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا - فَسَّرَهَا قَتَادَةُ لَمْ يَدَّخِرْ - وَإِنْ يَقْدَمْ عَلَى اللَّهِ يُعَذِّبْهُ ، فَانْظُرُوا فَإِذَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي حَتَّى إِذَا صِرْتُ فَحْمًا فَاسْحَقُونِي أَوْ قَالَ فَاسْهَكُونِي ، ثُمَّ إِذَا كَانَ رِيحٌ عَاصِفٌ فَأَذْرُونِي فِيهَا

فَأَخَذَ مَوَاثِيقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، وَرَبِّي ، فَفَعَلُوا .

فَقَالَ اللَّهُ : كُنْ .. فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ .

ثُمَّ قَالَ : أَيْ عَبْدِي مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ ؟

قَالَ : مَخَافَتُكَ أَوْ فَرَقٌ مِنْكَ .

فَمَا تَلافَاهُ أَنْ رَحِمَهُ اللَّهُ .

 

وهذا رجل آخر فعل نفس الفعل ، ولكنه غير الأول فالسابق أعطاه الله المال والولد ، والآتي كان نباشًا للقبور ، أي يفتح القبور ويسرق ما فيها

عن حذيفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( إِنَّ رَجُلاً حَضَرَهُ الْمَوْتُ لَمَّا أَيِسَ مِنْ الْحَيَاةِ أَوْصَى أَهْلَهُ إِذَا مُتُّ فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا كَثِيرًا ثُمَّ أَوْرُوا نَارًا حَتَّى إِذَا أَكَلَتْ لَحْمِي وَخَلَصَتْ إِلَى عَظْمِي فَخُذُوهَا فَاطْحَنُوهَا فَذَرُّونِي فِي الْيَمِّ فِي يَوْمٍ حَارٍّ أَوْ رَاحٍ ، فَجَمَعَهُ اللَّهُ فَقَالَ : لِمَ فَعَلْتَ ؟ قَالَ : خَشْيَتَكَ ، فَغَفَرَ لَهُ ))

وفي رواية

(( كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يُسِيءُ الظَّنَّ بِعَمَلِهِ فَقَالَ : لأَهْلِهِ إِذَا أَنَا مُتُّ فَخُذُونِي فَذَرُّونِي فِي الْبَحْرِ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ ، فَفَعَلُوا بِهِ ، فَجَمَعَهُ اللَّهُ ، ثُمَّ قَالَ : مَا حَمَلَكَ عَلَى الَّذِي صَنَعْتَ ؟ قَالَ : مَا حَمَلَنِي إِلا مَخَافَتُكَ ، فَغَفَرَ لَهُ ))

وعنه :

(( إِنَّ رَجُلاً حَضَرَهُ الْمَوْتُ فَلَمَّا أَيِسَ مِنْ الْحَيَاةِ أَوْصَى أَهْلَهُ إِذَا أَنَا مُتُّ فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا كَثِيرًا جَزْلاً ثُمَّ أَوْقِدُوا فِيهِ نَارًا حَتَّى إِذَا أَكَلَتْ لَحْمِي وَخَلَصَ إِلَى عَظْمِي فَامْتَحَشَتْ فَخُذُوهَا فَاذْرُوهَا فِي الْيَمِّ فَفَعَلُوا فَجَمَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ قَالَ مِنْ خَشْيَتِكَ قَالَ فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ ، وَكَانَ نَبَّاشًا ))

 

وهذا آخر أسرف على نفسه بالذنوب

عن ابن مسعود وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ إِلا التَّوْحِيدَ ، فَلَمَّا احْتُضِرَ قَالَ لأَهْلِهِ انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ أَنْ يُحْرِقُوهُ حَتَّى يَدَعُوهُ حُمَمًا ثُمَّ اطْحَنُوهُ ثُمَّ اذْرُوهُ فِي يَوْمِ رِيحٍ فَلَمَّا مَاتَ فَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ فَإِذَا هُوَ فِي قَبْضَةِ اللَّهِ فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَا ابْنَ آدَمَ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ قَالَ أَيْ رَبِّ مِنْ مَخَافَتِكَ قَالَ فَغُفِرَ لَهُ بِهَا وَلَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ إِلا التَّوْحِيدَ))

 

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( كَانَ رَجُلٌ يُسْرِفُ عَلَى نَفْسِهِ فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ لِبَنِيهِ : إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اطْحَنُونِي ثُمَّ ذَرُّونِي فِي الرِّيحِ ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا ، فَلَمَّا مَاتَ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ ، فَأَمَرَ اللَّهُ الأَرْضَ فَقَالَ : اجْمَعِي مَا فِيكِ مِنْهُ ، فَفَعَلَتْ ، فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ ، فَقَالَ : مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ ؟ قَالَ : يَا رَبِّ خَشْيَتُكَ ، فَغَفَرَ لَهُ ))

 

وعنه :

(( قَالَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ ، فَإِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ وَاذْرُوا نِصْفَهُ فِي الْبَرِّ وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ ، وَأَمَرَ الْبَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ ، ثُمَّ قَالَ : لِمَ فَعَلْتَ ؟ قَالَ : مِنْ خَشْيَتِكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ ، فَغَفَرَ لَهُ ))

( إِذَا أَنَا مُتّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اِطْحَنُونِي ثُمَّ ذُرُّونِي ) مِنْ قَوْله أَذْرَتْ الرِّيح الشَّيْء إِذَا فَرَّقَتْهُ بِهُبُوبِهَا , وَفِي حَدِيث أَبِي سَعِيد " فِي يَوْم عَاصِف " أَيْ عَاصِف رِيحه , وَفِي حَدِيث مُعَاذ عِنْد مُسْلِم " فِي رِيح عَاصِف "

 

قال ابن بطال :

فإن قال قائل: كيف غفر لهذا الذي أوصى أهله بإحراقه وقد جهل قدرة الله على إحيائه، وذلك أنه قال « إن يقدر على الله يعذبني » وقال في رواية أخرى « فوالله لئن قدر الله علىَّ ليعذبني » .

قال الطبري : قيل: قد اختلف الناس في تأويل هذا الحديث

فقال بعضهم :

أما ما كان من عفو الله عما كان منه في أيام صحتّه من المعاصي ؛ فلندمه عليها وتوبته منها عند موته، ولذلك أمر ولده بإحراقه وذروه في البر والبحر خشية من عقاب ربه والندم توبة، ومعنى رواية من روى:  « فوالله لئن قدر الله عليه » أي ضيق عليه، كقوله ((وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ)) وقوله ((وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ)) ، لم يرد بذلك وصف بارئه بالعجز عن إعادته حيًا، ويبين ذلك قوله في الحديث حين أحياه ربه  « قال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: مخافتك يا رب » . وبالخوف والتوبة نجا من عذابه عز وجل.

 

وقال آخرون في معنى قوله  « لئن قدر الله علىَّ » :

معناه القدرة التي هي خلاف العجز، وكان عنده أنه إذا أحرق وذرى في البر والبحر أعجز ربه عن إحيائه، قالوا: وإنما غفر له جهله بالقدرة؛ لأنه لم يكن تقدم من الله تعالى في ذلك الزمان بأنه لا يغفر الشرك به

وليس في العقل دليل على أن ذلك غير جائز فى حكمة الله؛ بل الدليل فيه على أنه ذو الفضل والإحسان والعفو عن أهل الآثام

وإنما نقول: لا يجوز أن يغفر الشرك بعد قوله تعالى ((إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ)) فأما جواز غفران الله ذلك لولا الخبر في كتابه فهو كان الأولى بفضله والأشبه بإحسانه لأنه لا يضره كفر كافر، ولا ينفعه إيمان مؤمن .

وقال آخرون :

بل غفر له وإن كان كفرًا من قوله ، من أجل أنه قاله على جهل منه بخطئه ؛ فظن أن ذلك صواب. قالوا : وغير جائز في عدل الله وحكمته أن يسّوى بين من أخطأ وهو يقصد الصواب، وبين من تعمّد الخطأ والعناد للحق في العقاب.

وقال آخرون :

إنما غفر له، وإن كان كفرًا ممن قصد قوله وهو يعقل ما يقول؛ لأنه قاله وهو لا يعقل ما يقول. وغير جائز وصف من نطق بكلمة كفر وهو لا يعلمها كفرًا بالكفر، وهذا قاله وقد غلب على فهمه من الجزع الذي كان لحقه لخوفه من عذاب الله تعالى وهذا نظير الخبر الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يدخل الجنة آخر من يدخلها فيقال له « إن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها »  فيقول للفرح الذي يدخله « يا رب أنت عبدي وأنا ربك مرتين »  قالوا فهذا القول لو قاله على فهم منه بما يقول كان كفرًا، وإنما لم يكن منه كفرًا لأنه قاله وقد استخفه الفرح مريدًا به أن يقول: أنت ربى وأنا عبدك، فلم يكن مأخوذًا بما قال من ذلك.

ويشهد لصحة هذا المعنى قوله تعالى ((وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ)) .

 

 

 



 

 

 

 

امتلاء القبور ظلمة على أهلها :

فهذه نصوص أخرى من السنة مما يكون في القبور ، وما يحدث للعباد فيها ، تصور فقر العبد وحاجته للعمل الصالح ودعوات الصالحين له

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ :

(( أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ أَوْ شَابًّا فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ عَنْهَا أَوْ عَنْهُ ، فَقَالُوا : مَاتَ ، قَالَ : أَفَلا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي ، قَالَ : فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا أَوْ أَمْرَهُ فَقَالَ : دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ ، فَدَلُّوهُ ، فَصَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَ : إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلاتِي عَلَيْهِمْ ))

(يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلاتِي عَلَيْهِمْ) أي بالدعاء لهم والترحم عليهم وطلب المغفرة لهم ، وهذه سنة ينبغي الاستنان بها ، فينبغي الدعاء للموتى وزيارتهم والإكثار من الترحم عليهم وطلب المغفرة لهم .

عن هانئ مَوْلَى عُثْمَانَ قَالَ :

كَانَ عُثْمَانُ إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بَكَى حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ ، فَقِيلَ لَهُ : تُذْكَرُ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلا تَبْكِي وَتَبْكِي مِنْ هَذَا ، فَقَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الآخِرَةِ فَإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلا الْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ))

فهذا يبين أهوال القبر وشدته ، وأن أهل القبور أحوج ما يكون لمن يدعو لهم ، ويصلي عليهم ، ويطلب من الله لهم العفو والمغفرة والنجاة من ما فيه من ظلمات وأهوال .

ضغطة القبر

ضمَّةُ القبرِ هي أوَّلُ ما يلاقيه الميتُ حين يوضعُ في قبرِه ، وقد جاءَ في النصوصِ ما يدلُّ على أنَّها عامةٌ لكل من يوضعُ في القبرِ ، ولا ينجو منها أحدٌ ، واللهُ المستعان .

عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( إِنَّ لِلْقَبْرِ ضَغْطَةً ، وَلَوْ كَانَ أَحَدٌ نَاجِيًا مِنْهَا نَجَا مِنْهَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ ))

وعن ابن عباس :

(( أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم دفن سعد بن معاذ وهو قاعد على قبره قال : لو نجا أحد من فتنة القبر ، أو مسألة القبر ، لنجا سعد بن معاذ ، ولقد ضم ضمة ثم أرخى عنه ))

 

وعَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا :

(( أَنَّ صَبِيًّا دُفِنَ ، فَقَالَ َ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ أَفْلَتَ أَحَدٌ مِنْ ضَمَّةِ الْقَبْرِ لأَفْلَتَ هَذَا الصَّبِيُّ ))

وعن أنس :

(( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على صبي أو صبية فقال : لو كان نجا أحد من ضمة القبر لنجا هذا الصبي ))

قال المناوي :

(لو أفلت أحد من ضمة القبر لأفلت هذا الصبي) قال الحكيم : إنما لم يفلت منها أحد لأن المؤمن أشرق نور الإيمان بصدره لكنه باشر الشهوات وهي من الأرض والأرض مطيعة وخلق الآدمي وأخذ عليه الميثاق في العبودية فيما نقض من وفائها صارت الأرض عليه واجدة فإذا وجدته ببطنها ضمته ضمة فتدركه الرحمة وعلى قدر مجيئها يخلص فإن كان محسنا فإن رحمة الله قريب من المحسنين وقيل هي ضمة اشتياق لا ضمة سخط .

قال السندي :

ضَمَّة الْقَبْر وَضَغْطَته  : عَصْرُهُ وَزَحْمَتُهُ ، قِيلَ وَالْمُرَاد اِلْتِقَاء جَانِبَيْهِ عَلَى جَسَد الْمَيِّت ، قَالَ النَّسَفِيّ يُقَال إِنَّ ضَمَّة الْقَبْر إِنَّمَا أَصْلُهَا أَنَّهَا أُمُّهُمْ وَمِنْهَا خُلِقُوا فَغَابُوا عَنْهَا الْغَيْبَةَ الطَّوِيلَةَ فَلَمَّا رُدُّوا إِلَيْهَا ضَمَّتْهُمْ ضَمَّة الْوَالِدَة غَابَ عَنْهَا وَلَدُهَا ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْهَا فَمَنْ كَانَ لِلَّهِ مُطِيعًا ضَمَّتْهُ بِرَأْفَةٍ وَرِفْقٍ وَمَنْ كَانَ عَاصِيًا ضَمَّتْهُ بِعُنْفٍ سَخَطًا مِنْهَا عَلَيْهِ لِرَبِّهَا .

 



أول ما ينتن من الإنسان بطنه :

عَنْ طَرِيفٍ أَبِي تَمِيمَةَ قَالَ شَهِدْتُ صَفْوَانَ وَجُنْدَبًا وَأَصْحَابَهُ وَهُوَ يُوصِيهِمْ فَقَالُوا : هَلْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا ؟ قَالَ : سَمِعْتُهُ يَقُولُ :

(( مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ يُشَاقِقْ يَشْقُقْ اللَّهُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَقَالُوا : أَوْصِنَا فَقَالَ :

إِنَّ أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ مِنْ الإِنْسَانِ بَطْنُهُ ، فَمَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يَأْكُلَ إِلا طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ ، وَمَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ بِمِلْءِ كَفِّهِ مِنْ دَمٍ أَهْرَاقَهُ فَلْيَفْعَلْ ))

في الحديث الْحَثّ عَلَى الاكتساب مِنْ الْحَلَال , وَالنَّهْي عَنْ غَيْره . وَفِيهِ : أَنَّ الْمَشْرُوب وَالْمَأْكُول وَالْمَلْبُوس وَنَحْو ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُون حَلَالًا خَالِصًا لَا شُبْهَة فِيهِ



بلاء كل شيء من الإنسان إلا عجب الذنب :

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ::

(( مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ ، قَالَ : أَرْبَعُونَ يَوْمًا ؟ قَالَ : أَبَيْتُ ، قَالَ : أَرْبَعُونَ شَهْرًا ؟ قَالَ : أَبَيْتُ ، قَالَ : أَرْبَعُونَ سَنَةً ؟ قَالَ : أَبَيْتُ ، قَالَ : ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ ، لَيْسَ مِنْ الإِنْسَانِ شَيْءٌ إِلا يَبْلَى إِلا عَظْمًا وَاحِدًا ، وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))

وعنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَأْكُلُهُ التُّرَابُ إِلا عَجْبَ الذَّنَبِ ، مِنْهُ خُلِقَ وَفِيهِ يُرَكَّبُ ))

( مِنْهُ خُلِّقَ وَمِنْهُ يُرَكَّبُ ) أَيْ أَوَّل مَا خُلِقَ مِنْ الإِنْسَان هُوَ ثُمَّ إِنَّ اللَّه تَعَالَى يُبْقِيه إِلَى أَنْ يُرَكِّبَ الْخَلْقَ مِنْهُ تَارَة أُخْرَى

وعنه : (( إِنَّ فِي الإِنْسَانِ عَظْمًا لا تَأْكُلُهُ الأَرْضُ أَبَدًا ، فِيهِ يُرَكَّبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، قَالُوا : أَيُّ عَظْمٍ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : عَجْبُ الذَّنَبِ ))

 

وَعَنْ أبي سعيد الخدري عن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :

(( يَأْكُلُ التُّرَابُ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ الإِنْسَانِ إِلا عَجْبَ ذَنَبِهِ ، قِيلَ : وَمِثْلُ مَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْهُ تَنْبُتُونَ ))

( أَبَيْتُ ) أَيْ اِمْتَنَعْت عَنْ الْقَوْل بِتَعْيِينِ ذَلِكَ لأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدِي فِي ذَلِكَ تَوْقِيف ، فلا أَقُول مَا لَمْ أَسْمَع , وَبِالْفَتْحِ أَيْ أَنْ أَعْرِف ذَلِكَ فَإِنَّهُ غَيْب .

وَزَعَمَ بَعْض الشُّرَّاح أَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِم أَرْبَعِينَ سَنَة وَلا وُجُود لِذَلِكَ

وأَخْرَجَ اِبْن مَرْدَوَيْهِ " أَرْبَعُونَ سَنَة " وَهُوَ شَاذّ .

وَمِنْ وَجْه ضَعِيف عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ " مَا بَيْنَ النَّفْخَة وَالنَّفْخَة أَرْبَعُونَ سَنَة "

وَكَأَنَّ أَبَا هُرَيْرَة لَمْ يَسْمَعهَا إِلا مُجْمَلَةً فَلِهَذَا قَالَ لِمَنْ عَيَّنَهَا لَهُ " أَبَيْت " . وَقَدْ أَخْرَجَ اِبْن مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ " بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ . قَالُوا : أَرْبَعُونَ مَاذَا ؟ قَالَ : هَكَذَا سَمِعْت "

وَوَقَعَ فِي " جَامِع اِبْن وَهْب " أَرْبَعِينَ جُمْعَة , وَسَنَده مُنْقَطِع .

قَوْله ( وَيَبْلَى كُلّ شَيْء مِنْ الإِنْسَان إِلا عَجْب ذَنَبه , فِيهِ يُرَكَّب الْخَلْق )

وَفِي حَدِيث أَبِي سَعِيد عِنْدَ الْحَاكِمِ وَأَبِي يَعْلَى : (( قِيلَ يَا رَسُول اللَّه مَا عَجْب الذَّنَب ؟ قَالَ : مِثْل حَبَّة خَرْدَل ))

وَالْعَجْب وَيُقَال لَهُ " عَجْم " بِالْمِيمِ أَيْضًا عِوَض الْبَاء . وَهُوَ عَظْم لَطِيف فِي أَصْل الصُّلْب , وَهُوَ رَأْس الْعُصْعُص , وَهُوَ مَكَان رَأْس الذَّنَب مِنْ ذَوَات الأَرْبَع .

 

ويستثنى من ذلك أجساد الأنبياء عليهم السلام :

عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلام ، وَفِيهِ قُبِضَ ، وَفِيهِ النَّفْخَةُ ، وَفِيهِ الصَّعْقَةُ ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلاةِ فَإِنَّ صَلاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلاتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرَمْتَ ؟ أَيْ يَقُولُونَ قَدْ بَلِيتَ ، قَالَ : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ حَرَّمَ عَلَى الأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلام ))

 

 

 

 

تلاقي الأرواح بعد الموت وتعارفها

وعرض أعمال الأحياء على أرواح المؤمنين

صحت الأحاديث أن روح المؤمن بعد موته تلتقي بأرواح المؤمنين الذين ماتوا قبله وأن هذه الأرواح تسأله عن من تركوهم في الدنيا وتستفسر عن أحوالهم وأخبارهم :

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( إِذَا حُضِرَ الْمُؤْمِنُ أَتَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ بِحَرِيرَةٍ بَيْضَاءَ فَيَقُولُونَ : اخْرُجِي رَاضِيَةً مَرْضِيًّا عَنْكِ إِلَى رَوْحِ اللَّهِ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ ، فَتَخْرُجُ كَأَطْيَبِ رِيحِ الْمِسْكِ ، حَتَّى أَنَّهُ لَيُنَاوِلُهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا يشمونه حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ بَابَ السَّمَاءِ ، فَيَقُولُونَ : مَا أَطْيَبَ هَذِهِ الرِّيحَ الَّتِي جَاءَتْكُمْ مِنْ الأَرْضِ ، فكلما أتوا سماء قالوا ذلك .

فَيَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَلَهُمْ أَشَدُّ فَرَحًا بِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِغَائِبِهِ يَقْدَمُ عَلَيْهِ .

فَيَسْأَلُونَهُ (أي المؤمنون) : مَاذَا فَعَلَ فُلانٌ ، مَاذَا فَعَلَ فُلانٌ ؟

فَيَقُولُونَ : دَعُوهُ حتى يستريح فَإِنَّهُ كَانَ فِي غَمِّ الدُّنْيَا .

فَإِذَا قَالَ (المؤمن الذي صعدت روحه حديثًا) ) : أَمَا أَتَاكُمْ ؟! فإنه قد مات .

قَالُوا : ذُهِبَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ .

وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا احْتُضِرَ أَتَتْهُ مَلائِكَةُ الْعَذَابِ بِمِسْحٍ ، فَيَقُولُونَ : اخْرُجِي سَاخِطَةً مَسْخُوطًا عَلَيْكِ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وسخطه ، فَتَخْرُجُ كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ ، فينطلقون به حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ بَابَ الأَرْضِ ، فَيَقُولُونَ : مَا أَنْتَنَ هَذِهِ الرِّيحَ ، كلما أتوا على أرض قالوا ذلك ، حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ ))

 

 

 

وفي رواية :

(( وأما الكافر فإذا قبضت نفسه وذهب بها إلى باب الأرض يقول خزنة الأرض : ما وجدنا ريحاً أنتن من هذه ، فتبلغ بها إلى الأرض السفلى ))

قوله : (دَعُوهُ حتى يستريح فَإِنَّهُ كَانَ فِي غَمِّ الدُّنْيَا) دليل على معاناة المؤمن في الدنيا وأنه لا يجد الراحة والنعمة إلا في الجنة .

كما سئل الإمام أحمد متى الراحة : فقال راحة المؤمن عندما يضع أول قدم في الجنة

 

وفي الأحاديث التالية بيان أن أعمال الناس في الدنيا تعرض على أقاربهم :

وعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ : أَن ّرَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( إِنَّ نَفْسَ الْمُؤْمِنِ إِذَا قُبِضَتْ تَلَقَّاهَا مِنْ أَهْلِ الرَّحْمَةِ مِنْ عَبَادِ اللَّهِ كَمَا تَلْقَوْنَ الْبَشِيرَ فِي الدُّنْيَا ، فيقبلون عليه ليسألوه ، فيقول بعضهم لبعض : انْظُرُوا صَاحِبَكُمْ يَسْتَرِيحُ ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ فِي كَرْبٍ شَدِيدٍ .

ثُمَّ يَسْأَلُونَهُ : مَاذَا فَعَلَ فُلانٌ ؟ وَمَا فَعَلَتْ فُلانَةُ ؟ هَلْ تَزَوَّجَتْ ؟ فَإِذَا سَأَلُوهُ عَنِ الرَّجُلِ قَدْ مَاتَ قَبْلَهُ ؟

فَيَقُولُ : هَيْهَاتَ قَدْ مَاتَ ذَاكَ قَبْلِي .

فَيَقُولُونَ : إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ، ذُهِبَتْ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ فَبِئْسَتِ الأُمُّ وَبِئْسَتِ الْمُرَبِّيَةُ .

قَالَ : وَإِنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى أَقَارِبِكُمْ وَعَشَائِرِكُمْ مِنْ أَهْلِ الآخِرَةِ ، فَإِنْ كَانَ خَيْرًا فَرِحُوا وَاسْتَبْشَرُوا ، وَقَالُوا : اللَّهُمَّ هَذَا فَضْلُكَ وَرَحْمَتُكَ فَأَتْمِمْ نِعْمَتَكَ عَلَيْهِ ، وَأَمِتْهُ عَلَيْهَا .

وَيُعْرَضُ عَلَيْهِمْ عَمَلُ الْمُسِيءِ ، فَيَقُولُونَ : ( اللهم راجع بعبدك ) اللَّهُمَّ أَلْهِمْهُ عَمَلا صَالِحًا تَرْضَى بِهِ عَنْهُ وتُقَرِّبُهُ إِلَيْكَ ))

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( إنَّ المؤمنَ حين ينزلُ به الموتُ ، ويعاينُ ما يعاينُ ، ودَّ أنها قد خرجتْ – يعني نفسه - واللهُ يحبُّ لقاءَه .

وإنَّ المؤمنَ يُصعَد برُوحهِ إلى السماءِ ، فتأتيه أرواحُ الْمُؤْمِنينَ فيَستخبرونه عن معارفِهم من أهلِ الأرضِ ، فإذا قال : تركتُ فلانًا في الدُّنيا ، أعجبَهم ذلك .

وإذا قال : إنَّ فلانًا قد فارق الدُّنيا (قد مات) ، قالوا : ما جيءِ بروحِ ذاك إلينا وقد ذُهِبَ بروحِه إلى أرواحِ أهلِ النارِ .

وإنَّ المؤمنَ يُجلَسُ في قبرِهِ ويُسألُ : مَن ربُّك ؟ فيقولُ ربيَ اللهُ ، ويُقالُ : مَنْ نبيُّكَ ؟ فيقولُ : نبيّ محمدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ، فيُقالُ : ما دينُك ؟ فيقولُ : دينيَ الإسلامُ .

فيُفتحُ له بابٌ في قبرِهِ ، فيقالُ :

انظُرْ إلى مجلسِك ، نمْ قريرَ العينِ ، فيبعثُه اللهُ يومَ القيامةِ كأنما كانت رَقدَةً .

وإذا كان عدوَّ اللهِ ، ونزل به الموتُ ، ويُعاينُ ما يعاينُ ، ودَّ أنها لا تخرجُ أبدًا – يعني روحه - واللهُ يبغَضُ لقاءَه

وإذا أُجلِسَ في قبرِهِ يُقالُ : من ربُّك ؟ قال : لا أدري ، قال : لا دَرَيتَ ، يقال : من نبيك ؟ فيقول : لا أدري ، يقال : ما دينك ؟ قال : لا أدري قال : لا دريت

ويُفتَحُ له بابٌ في قبرِهِ بابٌ من أبوابِ جهنمَ ، ثم يُضربُ ضربةً يَسمعُها خلقُ اللهِ إلا الثّقَلَينِ ( ثم يضرب ضربة تسمع كل دابة إلا الثقلين) .

ثم يُقالُ : نَمْ كما ينامُ المنهوشُ .

قلتُ : يا أبا هريرةَ وما المنهوشُ ؟

قال : نهشَتْهُ الدوابُّ والحيّاتُ

، ثم يَضيقُ عليه قبرُهُ ، حتى رأيتُ أبا هريرةَ نصبَ يدَه ثم كفَأها ثم شبَّك ، حتى تختلفَ أضلاعُهُ ))

قرة العين : هدوء العين وسعادتها ويعبر بها عن المسرة ورؤية ما يحبه الإنسان

البغض : عكس الحب وهو الكُرْهُ والمقت

لا دريت : دعاء عليه والمعنى لا كنت داريا ، فلا توفق في هذا الموقف ولا تنتفع بما كنت تسمع أو تقرأ

الثقلان : الإنس والجن

 

وعن أَنَس بْنَ مَالِكٍ قال : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( إِنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى أَقَارِبِكُمْ وَعَشَائِرِكُمْ مِنْ الْأَمْوَاتِ ، فَإِنْ كَانَ خَيْرًا اسْتَبْشَرُوا بِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ قَالُوا : اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُمْ حَتَّى تَهْدِيَهُمْ كَمَا هَدَيْتَنَا ))

 

عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

(( إِنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى عَشَائِرِكُمْ وَأَقَارِبِكُمْ  في قبورهم ، فَإِنْ كَانَ خَيْرًا اسْتَبْشَرُوا بِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ قَالُوا : اللَّهُمَّ ألهمهم أن يعملوا بطاعتك ))

 

عن جبير بن نفير أن أبا الدرداء كان يقول :

إن أعمالكم تعرض على موتاكم فيسرون ، و يساؤون .

 

وعنه : قال أبو الدرداء :

ألا إن أعمالكم تعرض على عشائركم ، فمساؤون ومسرون ، فأعوذ بالله أن أعمل عملا يخزى به عبد الله بن رواحة . وهو أخوه من أمه .

وعن أبي هريرة قال :

إن أعمالكم تعرض على أقربائكم من موتاكم ، فإن رأوا خيرًا فرحوا به ، وإن رأوا شرًا كرهوه ، وإنهم يستخبرون الميت إذا أتاهم ، من مات بعدهم ، حتى إن الرجل يسأل عن امرأته أتزوجت أم لا ؟ وحتى إن الرجل يسأل عن الرجل ، فإذا قيل : قد مات قال : هيهات ، ذهب ذاك ، فإن لم يحسوه عندهم ، قالوا : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ذهب به إلى أمه الهاوية ، فبئس المربية .

 

عن عبيد بن عمير قال :

إن أهل القبور ليتلقون الميت كما يتلقى الراكب يسألونه ، فإذا سألوه ما فعل فلان ممن قد مات ، فيقول : ألم يأتكم ، فيقولون : (إنا لله وإنا إليه راجعون) ذهب به إلى أمه الهاوية.

 

وعن عبيد بن عمير قال :

« إن أهل القبور يتوكفون الأخبار إذا أتاهم الميت سألوه ما فعل فلان ؟ فيقول : صالح . فيقول : ما فعل فلان ؟ فيقول : ألم يأتكم ؟ فيقولون : لا فيقولون إنا لله وإنا إليه راجعون ، سلك به غير طريقنا »

 

 



 

مستقر الأرواح بعد الموت

 

أولاً : مستقر أرواح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم أعلى الناس منزلة عند الله تعالى في الدنيا والآخرة ، وقد دلت الأخبار الصحيحة على أن أرواحهم تكون في أعلى عليين ، مع الرفيق الأعلى ، ومع سادة الملائكة عليهم السلام أجمعين

عن عَائِشَةَ قَالَتْ :

(( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَهُوَ صَحِيحٌ : إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ ثُمَّ يُخَيَّرَ فَلَمَّا نَزَلَ بِهِ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي غُشِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى سَقْفِ الْبَيْتِ ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى ، فَقُلْتُ : إِذًا لا يَخْتَارُنَا وَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَدِيثُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا وَهُوَ صَحِيحٌ ، قَالَتْ : فَكَانَتْ آخِرَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا : اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى ))

 

وفي رواية : قَالَتْ عَائِشَةُ :

(( فَلَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي غُشِيَ عَلَيْهِ سَاعَةً ثُمَّ أَفَاقَ ، فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى السَّقْفِ ، ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى ، قَالَتْ عَائِشَةُ قُلْتُ : إِذًا لا يَخْتَارُنَا ، وَعَرَفْتُ الْحَدِيثَ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا بِهِ وَهُوَ صَحِيحٌ فِي قَوْلِهِ : "إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ ثُمَّ يُخَيَّرُ" ، فَكَانَتْ تِلْكَ آخِرُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى ))

وعند أحمد (( الرفيق الأعلى الأسعد ))

عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ :

(( كُنْتُ أَسْمَعُ أَنَّهُ لا يَمُوتُ نَبِيٌّ حَتَّى يُخَيَّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، فَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَأَخَذَتْهُ بُحَّةٌ يَقُولُ : "مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ" الآيَةَ ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ خُيِّرَ ))

أي أن خُيِّرَ بين الدنيا والآخرة .

 

وَفِي رِوَايَة أَبِي بُرْدَة عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِيهِ عِنْد النَّسَائِيِّ وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّانَ " :

(( فَقَالَ : أَسْأَل اللَّه الرَّفِيق الأَعْلَى الأَسْعَد , مَعَ جِبْرِيل وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيل "

 

وَفِي رِوَايَة ذَكْوَانَ عَنْ عَائِشَة " فَجَعَلَ يَقُول :

(( فِي الرَّفِيق الأَعْلَى حَتَّى قُبِضَ ))

الرَّفِيق هُنَا اِسْم جِنْس يَشْمَل الْوَاحِد وَمَا فَوْقه وَالْمُرَاد الأَنْبِيَاء وَمَنْ ذُكِرَ فِي الآيَة . وَقَدْ خُتِمَتْ بِقَوْلِهِ : ( وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ رَفِيقًا تَعَاوُنهمْ عَلَى طَاعَة اللَّه وَارْتِفَاق بَعْضهمْ بِبَعْضٍ , وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَد . وَعَلَيْهِ اِقْتَصَرَ أَكْثَر الشُّرَّاح .

وَعِنْد أَبِي الأَسْوَد فِي الْمَغَازِي عَنْ عُرْوَة

" أَنَّ جِبْرِيل نَزَلَ إِلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَخَيَّرَهُ " .

وَرَوَى الْحَاكِم مِنْ حَدِيث أَنَس :

(( أَنَّ آخِر مَا تَكَلَّمَ بِهِ : جَلال رَبِّي الرَّفِيع )) .

فليس بعد هذه المنزلة منزلة ، فهي أعلى المنازل ، وأهناها وأسعدها

 

 

 

ثانيًا : مستقر أرواح الشهداء :

عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ :

سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ : ((وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)) ؟ قَالَ : أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ :

"أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ ، تَسْرَحُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ اطِّلاعَةً ، فَقَالَ : هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا ؟ قَالُوا أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا ؟! ، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا ، قَالُوا : يَا رَبِّ نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى ، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا ))

قال النووي :وَهَذَا الْحَدِيث مَرْفُوع لِقَوْلِهِ : إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : يَعْنِي : النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشُّهَدَاء : ( أَرْوَاحهمْ فِي جَوْف طَيْر خُضْر لَهَا قَنَادِيل مُعَلَّقَة بِالْعَرْشِ تَسْرَح مِنْ الْجَنَّة حَيْثُ شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيل ) فِيهِ : بَيَان أَنَّ الْجَنَّة مَخْلُوقَة مَوْجُودَة , وَهُوَ مَذْهَب أَهْل السُّنَّة , وَهِيَ الَّتِي أُهْبِطَ مِنْهَا آدَم , وَهِيَ الَّتِي يُنَعَّم فِيهَا الْمُؤْمِنُونَ فِي الآخِرَة . هَذَا إِجْمَاع أَهْل السُّنَّة .. وهذا هو الحق خلافًا لطوائف من المبتدعة .

وَفِيهِ : إِثْبَات مُجَازَاة الأَمْوَات بِالثَّوَابِ وَالْعِقَاب قَبْل الْقِيَامَة

قَالَ الْقَاضِي : وَفِيهِ : أَنَّ الأَرْوَاح بَاقِيَة لا تَفْنَى فَيُنَعَّم الْمُحْسِن وَيُعَذَّب الْمُسِيء , وَقَدْ جَاءَ بِهِ الْقُرْآن وَالآثَار , وَهُوَ مَذْهَب أَهْل السُّنَّة خِلافًا لِطَائِفَةٍ مِنْ الْمُبْتَدِعَة قَالَتْ : تَفْنَى .

قَالَ هُنَا : ( أَرْوَاح الشُّهَدَاء ) , وفي أحاديث أخرى : ( إِنَّمَا نَسَمَة الْمُؤْمِن ) , وَالنَّسَمَة تُطْلَق عَلَى ذَات الإِنْسَان جِسْمًا وَرُوحًا , وَتُطْلَق عَلَى الرُّوح مُفْرَدَة , وَهُوَ الْمُرَاد بِهَذَا التَّفْسِير فِي الْحَدِيث .

وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ ، جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ ، تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا ، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَأْكَلِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ وَمَقِيلِهِمْ ، قَالُوا : مَنْ يُبَلِّغُ إِخْوَانَنَا عَنَّا أَنَّا أَحْيَاءٌ فِي الْجَنَّةِ نُرْزَقُ لِئَلا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ وَلا يَنْكُلُوا عِنْدَ الْحَرْبِ ، فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ ، قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ : "وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ .. " إِلَى آخِرِ الآيَةِ ))

 

عن كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( إِنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي طَيْرٍ خُضْرٍ تَعْلُقُ مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ أَوْ شَجَرِ الْجَنَّةِ ))

( فِي طَيْرٍ ) جَمْعُ طَائِرٍ وَيُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ

( خُضْرٍ ) جَمْعُ أَخْضَرَ

( تَعْلُقُ ) قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : أَيْ تَرْعَى مِنْ أَعَالِي شَجَرِ الْجَنَّةِ اِنْتَهَى .

وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ : أَيْ تَأْكُلُ وَهُوَ فِي الأَصْلِ لِلإِبِلِ إِذَا أَكَلَتْ الْعِضَاهَ , يُقَالُ عَلِقَتْ تَعْلُقُ عُلُوقًا فَنُقِلَ إِلَى الطَّيْرِ اِنْتَهَى

 



ثانيًا : مستقر أرواح المؤمنين :

وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ :

(( قَالَتْ أُمُّ مُبَشِّرٍ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ شَاكٍ : اقْرَأْ عَلَى ابْنِي السَّلامَ - تَعْنِي مُبَشِّرًا - فَقَالَ : يَغْفِرُ اللَّهُ لَكِ يَا أُمَّ مُبَشِّرٍ أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُسْلِمِ طَيْرٌ تَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، قَالَتْ : صَدَقْتَ فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ))

(وهو شاك) أي وهو في مرض الموت

 

وعن كَعْب بْنَ مَالِكٍ : عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))

وعنه :

(( إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يُبْعَثُ ))

وعنه :

(( نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ إِذَا مَاتَ طَائِرٌ يَعْلُقُ بِشَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ ))

( طَائِر ) ظَاهِره أَنَّ الرُّوح يَتَشَكَّلُ وَيَتَمَثَّل بِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى طَائِرًا كَتَمَثُّلِ الْمَلَكِ بَشَرًا وَيَحْتَمِل أَنَّ الْمُرَاد أَنَّ الرُّوح يَدْخُلُ فِي بَدَنِ طَائِرٍ كَمَا جاء فِي أحاديث أخرى .

 

ومضى في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في سؤال القبر ، بعد أن يجيب المؤمن عن سؤال الملكين بأن روحه تُجعل في نسم طير ، ففي الحديث :

 

(( .. وَيُقَالُ لَهُ : افْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ ، فَيُفْتَحُ لَهُ ، فَيُقَالُ: هَذَا مَنْزِلُكَ ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ ، فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا ، فَيُعَادُ الْجِلْدُ إِلَى مَا بَدَأَ مِنْهُ ، وتُجْعَلُ رُوحُهُ فِي نَسَمِ طَيْرٍ تَعْلَقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ ))

 

تنبيه :

ورد في أرواح الشهداء والمؤمنين أنهما يكونا في حواصل طير خضر أو تكون طيرًا خضرًا ، ولا يمنع كونها كذلك أفضلية الشهداء عن بقية المؤمنين ، فقد يكونا في مسمى واحد ولكن درجة الشهداء تكون أعلى .

 

كما أن الشهداء يتميزون بكونهم أحياء عند ربهم يرزقون بنص القرآن فمن المؤكد أن منزلتهم بذلك تكون أعلى وأفضل .. والله تعالى أعلم .

 

 

 

 

 



 

ثالثًاً : مستقر أرواح الأطفال :

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( ذَرَارِيُّ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَنَّةِ يَكْفُلُهُمْ إِبْرَاهِيَمُ عَلَيْهِ السَّلام ))

 

وعَنْ مكحول أن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( إنَّ ذراريَّ المؤمنين أرواحُهم في عصافيرَ خُضرٍ في شجرٍ في الجنَّةِ يكفُلُهم أبوهم إبراهيمُ عليه الصلاةُ والسَّلامُ ))

وفي لفظ : (( إن ذراري المؤمنين عصافير خضر في الجنة ))

 

وعن أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه قال :

أولادُ المسلمينَ في كهفِ جبلٍ تكفُلُهم سارةُ وإبراهيمُ عليه السلامُ حتى إذا كان يومُ القيامةِ دُفِعوا إلى آبائِهم .

 

عن أبي أمامة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :

(( بَيْنا أنا نائمٌ إذ أتاني رجُلانِ فأخَذا بضَبْعَيَّ .. وقص الرؤيا وفيها :

ثمَّ انطلَق بي فإذا أنا بغِلمانٍ يلعَبونَ بَيْنَ نَهرينِ ، فقُلْتُ : مَن هؤلاءِ ؟ فقيل : هؤلاءِ ذَراريُّ المُؤمِنينَ ))

وعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ :

كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى صَلاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ : مَنْ رَأَى مِنْكُمْ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا ؟ قَالَ : فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ قَصَّهَا ، فَيَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ ، فَسَأَلَنَا يَوْمًا فَقَالَ : هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا ؟ قُلْنَا : لا ، قَالَ : لَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَأَخَذَا بِيَدِي فَأَخْرَجَانِي إِلَى الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ .. فقص الرؤيا وفيها :

فَانْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ فِيهَا شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ وَفِي أَصْلِهَا شَيْخٌ وَصِبْيَانٌ

ولما فسر الملاك الرؤيا قال للنبي صلى الله عليه وسلم :

" وَالشَّيْخُ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلام ، وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهُ فَأَوْلادُ النَّاسِ "

وفي رواية أخرى عند البخاري :

(( فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى رَوْضَةٍ مُعْتَمَّةٍ فِيهَا مِنْ كُلِّ لَوْنِ الرَّبِيعِ وَإِذَا بَيْنَ ظَهْرَيْ الرَّوْضَةِ رَجُلٌ طَوِيلٌ لا أَكَادُ أَرَى رَأْسَهُ طُولاً فِي السَّمَاءِ ، وَإِذَا حَوْلَ الرَّجُلِ مِنْ أَكْثَرِ وِلْدَانٍ رَأَيْتُهُمْ قَطُّ ..

وقالت له الملائكة لما سأل عن ذلك :

.. وَأَمَّا الرَّجُلُ الطَّوِيلُ الَّذِي فِي الرَّوْضَةِ فَإِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا الْوِلْدَانُ الَّذِينَ حَوْلَهُ فَكُلُّ مَوْلُودٍ مَاتَ عَلَى الْفِطْرَةِ .

فَقَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَوْلادُ الْمُشْرِكِينَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوْلادُ الْمُشْرِكِينَ .. ))

فأرواح الأطفال تكون أيضًا في الجنة تتنعم وتلعب ، وتكون في رعاية إبراهيم صلى الله عليه وسلم .

 



 

رابعًا : مستقر أرواح الكفار :

أرواح الكافرين تكون في النار ، كما أخبر الله تعالى عن ذلك في كتابه الكريم ، وكما تم تقرير ذلك سابقًا .

قال تعالى عن قوم نوح :

(( مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا ))

قال ابن كثير :((أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا)) أي : نقلوا من تيار البحار إلى حرارة النار

قال السعدي : ((مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا)) في اليم الذي أحاط بهم ((فَأُدْخِلُوا نَارًا)) فذهبت أجسادهم في الغرق وأرواحهم للنار والحرق .

قال الشيخ الجزائري :أغرقوا بالطوفان فلم يبق منهم أحد ((فأدخلوا ناراً)) اي بمجرد ما يغرق الشخص وتخرج روحه يُدخل النار في البرزخ .

وقال تعالى (( فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ، النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ))

وهؤلاء قوم فرعون أغرقهم الله تعالى فأدخلهم النار بعد غرقهم مباشرة يعرضون عليها بكرة وعشيًا .. فهذه الآيات دلت على أن أرواح الكفار تدخل النار ، وتعذب ، وتعاقب إلى يوم يبعثون .

قال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله : أرواح الكفار في النار وأرواح المؤمنين في الجنة .

وهذا هو القول الصحيح بإذن الله تعالى ، أما ما يقال من أقوال أخرى فإن لا يصح منها شيء .. ويأتي مزيد بيان في فصل إثبات عذاب القبر .

 

حقيقة الروح

 

وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً

 

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :

(( بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرْثٍ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَسِيبٍ إِذْ مَرَّ بِنَفَرٍ من الْيَهُودُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ ؟ فَقَالَ : مَا رَأْيُكُمْ إِلَيْهِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لا يَسْتَقْبِلُكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ ، فَقَالُوا : سَلُوهُ فَسَأَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ ؟

وفي رواية : سَلُوهُ عَنْ الرُّوح فَقَالُوا مَا رَابَكُمْ إِلَيْهِ لا يَسْتَقْبِلُكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ فَقَالُوا سَلُوهُ فَقَامَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ فَسَأَلَهُ عَنْ الرُّوحِ

فَأَمْسَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ فَقُمْتُ مَقَامِي ، فَلَمَّا نَزَلَ الْوَحْيُ قَالَ : "وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً" ))

 

قوله ( سَلُوهُ عَنْ الرُّوح فَقَالُوا : مَا رَابَكُمْ إِلَيْهِ لا يَسْتَقْبِلكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ ) هَكَذَا فِي جَمِيع النُّسَخ ( مَا رَابَكُمْ إِلَيْهِ ) أَيْ : مَا دَعَاكُمْ إِلَى سُؤَاله ؟ أَوْ مَا شَكّكُمْ فِيهِ حَتَّى اِحْتَجْتُمْ إِلَى سُؤَاله , أَوْ مَا دَعَاكُمْ إِلَى سُؤَال تَخْشَوْنَ سُوء عُقْبَاهُ .

 

المراد بالروح في قوله تعالى : (( وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً ))

قَالَ الْخَطَّابِيُّ : حَكَوْا فِي الْمُرَاد بِالرُّوحِ فِي الآيَة أَقْوَالاً :

قِيلَ سَأَلُوهُ عَنْ جِبْرِيل , وَقِيلَ عَنْ مَلَك لَهُ أَلْسِنَة . وَقَالَ الأَكْثَر : سَأَلُوهُ عَنْ الرُّوح الَّتِي تَكُون بِهَا الْحَيَاة فِي الْجَسَد . وَقَالَ أَهْل النَّظَر : سَأَلُوهُ عَنْ كَيْفِيَّة مَسْلَك الرُّوح فِي الْبَدَن وَامْتِزَاجه بِهِ , وَهَذَا هُوَ الَّذِي اِسْتَأْثَرَ اللَّه بِعِلْمِهِ .

 

وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ :

الرَّاجِح أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ رُوح الإِنْسَان لأَنَّ الْيَهُود لا تَعْتَرِف بِأَنَّ عِيسَى رُوح اللَّه وَلا تَجْهَل أَنَّ جِبْرِيل مَلَك وَأَنَّ الْمَلائِكَة أَرْوَاح .

 

وَقَالَ الإِمَام فَخْر الدِّين الرَّازِيُّ :

الْمُخْتَار أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ الرُّوح الَّذِي هُوَ سَبَب الْحَيَاة , وَأَنَّ الْجَوَاب وَقَعَ عَلَى أَحْسَن الْوُجُوه .

 

قَالَ اِبْن بَطَّال :

مَعْرِفَة حَقِيقَة الرُّوح مِمَّا اِسْتَأْثَرَ اللَّه بِعِلْمِهِ بِدَلِيلِ هَذَا الْخَبَر

قَالَ : وَالْحِكْمَة فِي إِبْهَامه : اِخْتِبَار الْخَلْق لِيُعَرِّفَهُمْ عَجْزَهُمْ عَنْ عِلْم مَا لا يُدْرِكُونَهُ حَتَّى يَضْطَرَّهُمْ إِلَى رَدِّ الْعِلْم إِلَيْهِ .

 

وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ :

والصحيح الإبهام لقوله: " قل الروح من أمر ربى " دليل على خلق الروح أي هو أمر عظيم وشأن كبير من أمر الله تعالى، مبهما له وتاركا تفصيله، ليعرف الإنسان على القطع عجزه عن علم حقيقة نفسه مع العلم بوجودها.

وإذا كان الإنسان في معرفة نفسه هكذا كان بعجزه عن إدراك حقيقة الحق أولى ، وحكمة ذلك تعجيز العقل عن إدراك معرفة مخلوق مجاور له، دلالة على أنه عن إدراك خالقه أعجز.

 

وخَتْم الآيَة بِقَوْلِهِ :

( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْم إِلا قَلِيلاً )

أَيْ اِجْعَلُوا حُكْم الرُّوح مِنْ الْكَثِير الَّذِي لَمْ تُؤْتَوْهُ فَلا تَسْأَلُوهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ مِنْ الأَسْرَار .

وَوَقَعَ فِي بَعْض التَّفَاسِير أَنَّ الْحِكْمَة فِي سُؤَال الْيَهُود عَنْ الرُّوح أَنَّ عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاة أَنَّ رُوح بَنِي آدَم لا يَعْلَمهَا إِلا اللَّه , فَقَالُوا : نَسْأَلهُ , فَإِنْ فَسَّرَهَا فَهُوَ نَبِيّ , وَهُوَ مَعْنَى قَوْلهمْ : لا يَجِيء بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيق مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيم فِي هَذِهِ الْقِصَّة " فَنَزَلَتْ الآيَة فَقَالُوا : هَكَذَا نَجِدُهُ عِنْدَنَا " وَرِجَاله ثِقَات

 

قال ابن كثير :

وقوله ((قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)) أي: من شأنه، ومما استأثر بعلمه دونكم؛ ولهذا قال ((وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً)) أي: وما أطلعكم من علمه إلا على القليل، فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى.

والمعنى:

أن علمكم في علم الله قليل، وهذا الذي تسألون عنه من أمر الروح مما استأثر به تعالى، ولم يطلعكم عليه، كما أنه لم يطلعكم إلا على القليل من علمه تعالى.

 

 

 

فائدة :

ورد لَفْظ الرُّوح فِي الْقُرْآن , بمعانٍ عدة ، فَمِنْ الَّذِي فِي الْقُرْآن قول الله تعالى :

( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ )  : وهو جبريل عليه السلام

( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْك رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ) : والمراد القرن الكريم .

( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ )  وقوله تعالى (يُنزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ)  : المراد بالروح هنا الوحي

( وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) : قيل فيها عدة أقوال : (النصر - الإيمان - القرآن - الرحمة - جبريل عليه السلام – القوة )

( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا )  : قيل جبريل وقيل أرواح بني آدم وقيل ملك عظيم وأقوال أخرى والله أعلم .

وقوله ( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ )  : قيل: المراد به هاهنا جبريل، عليه السلام، فيكون من باب عطف الخاص على العام. وقيل: هم ضرب من الملائكة.

وقوله (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)  : يحتمل أن يكون المراد به جبريل، ويكون من باب عطف الخاص على العام. ويحتمل أن يكون اسم جنس لأرواح بني آدم، فإنها إذا قبضت يُصعد بها إلى السماء

وَوَقَعَ إِطْلاق رُوح اللَّه عَلَى عِيسَى .

وورد (وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) وهو جبريل عليه السلام

 

فصل

 

في

إثبات

عذاب القبر

ونـعـيـمـــــــه

 

 

عذاب القبر ونعيمه

ثابت بالقرآن والسنة والإجماع

 

في الفصول السابقة ذكرنا من الأدلة ما يثبت عذاب القبر ونعيمه وما يحدث للعبد فيه إن كان صالحًا أو طالحًا ، وما يكون فيه من سؤال الملائكة وما يترتب على ذلك من عذاب أو نعيم .. وفي هذا الفصل مزيد بيان .. وإثبات ذلك بمزيد من نصوص القرآن والسنة وذكر أقوال الصحابة وإجماع الأمة علىى أن عذاب القبر ثابت بلا شك .

 

أولاً : الأدلة من القرآن الكريم

قال تعالى (( فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ، النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ))

فقوم فرعون أغرقهم الله وماتوا .. وهنا يخبر القرآن أنهم يعرضون على النار بكرة وعشيًا .. ثم يوم القيامة يبعثهم الله ويدخلهم النار

إذا الفترة التي يعرضون فيها على النار هي الفترة ما بين الموت وبين البعث .. وهي الفترة التي يقضيها كل إنسان ميتًا في قبره أو في أي مكان دفن فيه حتى ولو غرق في البحر

قال ابن كثير في تفسيره :

وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور، وهي قوله: (( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا )) .

قال الشيخ السعدي في تفسيره :

(( وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ )) أغرقهم الله تعالى في صبيحة واحدة عن آخرهم.

وفي البرزخ (( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ )) فهذه العقوبات الشنيعة، التي تحل بالمكذبين لرسل الله، المعاندين لأمره.

قَالَ الْقُرْطُبِيّ :

الْجُمْهُور عَلَى أَنَّ هَذَا الْعَرْض يَكُون فِي الْبَرْزَخ ، وَهُوَ حُجَّة فِي تَثْبِيت عَذَاب الْقَبْر . وَقَالَ غَيْره : وَقَعَ ذِكْر عَذَاب الدَّارَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَة مُفَسَّرًا مُبَيَّنًا ، لَكِنَّهُ حُجَّة عَلَى مَنْ أَنْكَرَ عَذَاب الْقَبْر مُطْلَقًا لَا عَلَى مَنْ خَصَّهُ بِالْكُفَّارِ .

 

ومن القرآن

قوله تعالى في سورة إبراهيم :

(( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ))

وهذه الآية فسرها النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا نحتاج بعدئذٍ لقول فلان ولا علان

فعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( "يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ" ، قَالَ : نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ ، فَيُقَالُ لَهُ : مَنْ رَبُّكَ ؟ فَيَقُولُ : رَبِّيَ اللَّهُ وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ "يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ" ))

 

عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ :

"يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ" ، قَالَ : نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ .

 

ومن القرآن :

قال تعالى : (( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ))

يخبر تعالى عن حال الظالمي أنفسهم عند احتضارهم ومجيء الملائكة إليهم لقبض أرواحهم ..فالملائكة تقول لهم وهي تقبض أرواحهم ((فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)) فيدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم ، ويأتي أجسادهم في قبورها من حرِّها وسمومها

فإذا كان يوم القيامة سلكت أرواحهم في أجسادهم، وخلدت في نار جهنم.

 

وكذلك قوله تعالى :

(( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ))

يثبت ما يكون في القبر من نعيم

فالله تعالى يصف حال المتقين عند قبض أرواحهم ، فالملائكة وهي تنزع أروواحهم تقول لهم ((سلام عليكم ادخلوا الجنة)) فهم يدخلون الجنة مباشرة بعد خروج الروح من الجسد وينعمون بالجنة في البرزخ الأرواح تسرح في الجنة حيث تشاء ويأتي عليهم في قبورهم من نعيمها وريحها وسعادتها .. فهذه الآية تثبت ما يكون من نعيم وسعادة في الجنة للعبد المؤمن بمجرد موته وهذا لا يكون إلا وهو في الحياة البرزخية

 

 

 

ومن القرآن :

إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن سورة الملك تثي عذاب القبر وتمنع عذابه عن صاحبها .

عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

(( سورة تبارك هي المانعة من عذاب القبر ))  . ‌

 

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال :

(( من قرأ تبارك الذي بيده الملك كل ليلة منعه الله عز وجل بها من عذاب القبر ، وكنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نسميها المانعة ، وإنها في كتاب الله عز وجل سورة من قرأ بها في ليلة فقد أكثر وأطاب ))

 

عن ابن مسعود رضي الله عنه قال :

(( يؤتى الرجل في قبره فتؤتى رجلاه فتقول رجلاه : ليس لكم على ما قبلي سبيل كان يقوم يقرأ بي سورة "الملك" ، ثم يؤتى من قبل صدره أو قال بطنه ، فيقول : ليس لكم على ما قبلي سبيل كان يقرأ بي سورة "الملك" ، ثم يؤتى رأسه فيقول : ليس لكم على ما قبلي سبيل كان يقرأ بي سورة "الملك" ، قال : فهي المانعة تمنع من عذاب القبر ، وهي في التوراة سورة "الملك" ، ومن قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب ))

 

 

 

ومن القرآن :

قال تعالى عن قوم نوح :

(( مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا ))

قال ابن كثير :

((أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا)) أي : نقلوا من تيار البحار إلى حرارة النار

قال السعدي :

((مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا)) في اليم الذي أحاط بهم ((فَأُدْخِلُوا نَارًا)) فذهبت أجسادهم في الغرق وأرواحهم للنار والحرق .

قال الشيخ الجزائري :

أغرقوا بالطوفان فلم يبق منهم أحد ((فأدخلوا ناراً)) اي بمجرد ما يغرق الشخص وتخرج روحه يُدخل النار في البرزخ .

 

ومن القرآن :

قوله تعالى ((بسم الله الرحمن الرحيم : أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) سورة التكاثر

قَالَ اِبْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ :

وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِعَذَابِ الْقَبْرِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَهُ أَخْبَرَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ أَلْهَاهُمْ التَّكَاثُرُ أَنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ مَا يَلْقَوْنَ إِذَا هُمْ زَارُوا الْقُبُورَ وَعِيدًا مِنْهُ لَهُمْ وَتَهَدُّدًا ، وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ

وَقَوْلُهُ : { ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ } ثُمَّ مَا هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَفْعَلُوا أَنْ يُلْهِيَكُمْ التَّكَاثُرُ بِالْأَمْوَالِ وَكَثْرَةِ الْعَدَدِ سَوْفَ تَعْلَمُونَ إِذَا زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ مَا تَلْقَوْنَ إِذَا أَنْتُمْ زُرْتُمُوهَا مِنْ مَكْرُوهِ اِشْتِغَالِكُمْ عَنْ طَاعَةِ رَبِّكُمْ بِالتَّكَاثُرِ ا.هـ

ومن القرآن :

قال تعالى ((حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ))

قال ابن كثير :

وفي قوله ((وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ)) تهديد لهؤلاء المحتضرين من الظلمة بعذاب البرزخ، كما قال ((مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ ))  وقال ((وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ))

وقوله ((إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)) أي يستمر به العذاب إلى يوم البعث، كما جاء في الحديث (فلا يزال معذبا فيها) أي : في الأرض.انتهى

وقال السعدي :

((وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)) أي: من أمامهم وبين أيديهم برزخ، وهو الحاجز بين الشيئين، فهو هنا: الحاجز بين الدنيا والآخرة، وفي هذا البرزخ، يتنعم المطيعون، ويعذب العاصون، من موتهم إلى يوم يبعثون، أي: فليعدوا له عدته، وليأخذوا له أهبته.انتهى

ومن القرآن :

وقال تعالى :  (( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ))

فهذه الآية الكريمة تتحدث عن قبض الملائكة لأرواح الظالمين ، وأنها تخرجها بالضرب والعذاب ، كما أن الملائكة تتوعدهم بأن يوم موتهم هذا هو أول أيام عذابهم الشديد والمهين ، فعذابهم يبدأ في هذا اليوم يوم خروج الروح مما يدل على عذاب القبر .

قال السعدي : وفي هذا دليل على عذاب البرزخ ونعيمه، فإن هذا الخطاب، والعذاب الموجه إليهم، إنما هو عند الاحتضار وقبيل الموت وبعده.

وفيه دليل، على أن الروح جسم، يدخل ويخرج، ويخاطب، ويساكن الجسد، ويفارقه، فهذه حالهم في البرزخ.

وأما يوم القيامة، فإنهم إذا وردوها، وردوها مفلسين فرادى بلا أهل ولا مال، ولا أولاد ولا جنود، ولا أنصار، كما خلقهم الله أول مرة، عارين من كل شيء .انتهى

 

ومن القرآن :

قال تعالى : (( سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ))

قال الجزائري : وعيد لهم نافذ فيهم لا محالة وهو أنه تعالى سيعذبهم في الدنيا مرتين مرة بفضحهم أو بما شاء من عذاب ومرة في قبورهم ، ثم بعد البعث يردهم إلى عذاب النار وهو العذاب العظيم .

 

 

 

 

 



 

ثانيًا : بعض الأدلة من السنة

==================================

 

عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا :

(( أَنَّ يَهُودِيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا فَذَكَرَتْ عَذَابَ الْقَبْرِ فَقَالَتْ لَهَا : أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ صَلَّى صَلاةً إِلا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ))

 

عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ :

(( بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَائِطٍ لِبَنِي النَّجَّارِ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ وَنَحْنُ مَعَهُ إِذْ حَادَتْ بِهِ فَكَادَتْ تُلْقِيهِ وَإِذَا أَقْبُرٌ سِتَّةٌ أَوْ خَمْسَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ ، فَقَالَ : مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الأَقْبُرِ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ : أَنَا ، قَالَ : فَمَتَى مَاتَ هَؤُلاءِ ؟ قَالَ : مَاتُوا فِي الإِشْرَاكِ ؟ فَقَالَ : إِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا ، فَلَوْلا أَنْ لا تَدَافَنُوا ، لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ : تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ ، قَالُوا : نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ ، فَقَالَ : تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، قَالُوا : نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، قَالَ : تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، قَالُوا : نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، قَالَ : تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ ، قَالُوا : نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ ))

 

عَنْ أَنَسٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( لَوْلا أَنْ لا تَدَافَنُوا ، لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ))

وعنه : (( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ صَوْتًا مِنْ قَبْرٍ فَقَالَ : مَتَى مَاتَ هَذَا ؟ قَالُوا : مَاتَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَسُرَّ بِذَلِكَ ، وَقَالَ : لَوْلا أَنْ لا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ عَذَابَ الْقَبْرِ ))

 

عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ :

(( دَخَلَتْ عَلَيَّ عَجُوزَانِ مِنْ عُجُزِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ فَقَالَتَا لِي : إِنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ ، فَكَذَّبْتُهُمَا ، وَلَمْ أُنْعِمْ أَنْ أُصَدِّقَهُمَا ، فَخَرَجَتَا ، وَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عَجُوزَيْنِ .. وَذَكَرْتُ لَهُ ، فَقَالَ : صَدَقَتَا إِنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَذَابًا تَسْمَعُهُ الْبَهَائِمُ كُلُّهَا ، فَمَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ فِي صَلاةٍ إِلا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ - وفي رواية - إِنَّهُمْ لَيُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ عَذَابًا تَسْمَعُهُ الْبَهَائِمُ ))

 

عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ حَسَنَةَ قَالَ :

خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي يَدِهِ كَهَيْئَةِ الدَّرَقَةِ فَوَضَعَهَا ثُمَّ جَلَسَ خَلْفَهَا فَبَالَ إِلَيْهَا فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ انْظُرُوا يَبُولُ كَمَا تَبُولُ الْمَرْأَةُ فَسَمِعَهُ فَقَالَ :

(( أَوَ مَا عَلِمْتَ مَا أَصَابَ صَاحِبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا إِذَا أَصَابَهُمْ شَيْءٌ مِنْ الْبَوْلِ قَرَضُوهُ بِالْمَقَارِيضِ ، فَنَهَاهُمْ صَاحِبُهُمْ فَعُذِّبَ فِي قَبْرِهِ ))

 

عَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ :

(( خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَسَمِعَ صَوْتًا فَقَالَ : يَهُودُ تُعَذَّبُ فِي قُبُورِهَا ))

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ :

(( بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِلالٌ يَمْشِيَانِ بِالْبَقِيعِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا بِلالُ هَلْ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ ؟ قَالَ : لا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَسْمَعُهُ ، قَالَ : أَلا تَسْمَعُ أَهْلَ هَذِهِ الْقُبُورِ يُعَذَّبُونَ ، يَعْنِي قُبُورَ الْجَاهِلِيَّةِ ))

 

وعن جَابِر بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قال :

(( دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا نَخْلاً لِبَنِي النَّجَّارِ ، فَسَمِعَ أَصْوَاتَ رِجَالٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزِعًا فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ تَعَوَّذُوا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ))

 

من أقوال الصحابة الكرام رضي الله عنهم

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : قَالَ خَطَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :

(( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَجَمَ وَرَجَمْنَا مِنْ بَعْدِهِ ، أَلا وَإِنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ بَعْدِكُمْ قَوْمٌ يُكَذِّبُونَ بِالرَّجْمِ ، وَبِالدَّجَّالِ ، وَبِالشَّفَاعَةِ ، وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ ، وَبِقَوْمٍ يُخْرَجُونَ مِنْ النَّارِ بَعْدَمَا امْتَحَشُوا ))

 

وعَنْ هَانِئٍ مَوْلَى عُثْمَانَ قَالَ :

(( كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ يَبْكِي حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ ، فَقِيلَ لَهُ : تَذْكُرُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَلَا تَبْكِي وَتَبْكِي مِنْ هَذَا ؟! قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ فَإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلَّا وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ ))

 

وعن عبد الله الداناج قال :

شهدت أنس بن مالك ، وقال له رجل : يا أبا حمزة ، « إن قوما يكذبون بعذاب القبر قال : فلا تجالسوا أولئك »

 

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال :

(( إن أحدكم ليجلس في قبره إجلاساً ، فيقال له : ما أنت ؟ فإن كان مؤمناً قال : أنا عبد الله حياً وميتاً أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، فيفسح له في قبره ما شاء الله فيرى مكانه من الجنة وينزل عليه كسوة يلبسها من الجنة .

وأما الكافر فيقال له : ما أنت ؟ فيقول : لا أدري ، فيقال له : لا دريت ثلاثاً ، فيضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه أو تتماس أضلاعه ويرسل عليه حيات من جوانب قبره ينهشنه ويأكلنه ، فإذا جزع فصاح قمع بمقمع من نار من حديد ))

 

وعن عمير بن سلمة قال :

جاء رجل إلى أبي الدرداء رضي الله عنه ، وهو مريض ، فقال : يا أبا الدرداء ، إنك قد أصبحت على جناح فراق الدنيا ، فمرني بأمر ينفعني الله به وأذكرك به ، فقال :

(( إنك بين أمة معافاة فأقم الصلاة وأد زكاة مالك إن كان لك ، وصم رمضان واجتنب الفواحش ، ثم أبشر ، فأعاد الرجل على أبي الدرداء رضي الله عنه .

فقال أبو الدرداء : اجلس ثم اعقل ما أقول لك ، أين أنت من يوم ليس لك من الأرض إلا عرض ذراعين  في طول أربعة أذرع ؟ أقبل بك أهلك الذين كانوا لا يحبون فراقك ، وجلساؤك وإخوانك فأتقنوا عليك البنيان ، ثم أكثروا عليك التراب ، ثم تركوك ، ثم جاءك ملكان أسودان أزرقان جعدان ، أسماؤهما منكر ونكير ، فأجلساك ثم سألاك ما أنت ؟ أم على ماذا كنت ؟ أم ماذا تقول في هذا الرجل ؟ فإن قلت : والله ما أدري ، سمعت الناس قالوا قولاً فقلت قول الناس ، فقد والله رديت وهويت.

فإن قلت : محمد رسول الله أنزل عليه كتابه فآمنت به وبما جاء معه ، فقد والله نجوت وهديت ، ولن تستطيع ذلك إلا بتثبيت من الله تعالى مع ما ترى من الشدة والتخويف ))

 

عن عائشة رضي الله عنها قالت :

(( إن الكافر يسلط عليه في قبره شجاع أقرع ، فيأكل لحمه من رأسه إلى رجله ثم يكسى اللحم فيأكل من رجله إلى رأسه ))

 

وعن ابن عباس في قوله

(يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين) قال : (( إن المؤمن إذا حضره الموت شهدته الملائكة يسلمون عليه ويبشرونه بالجنة فإذا مات مشوا مع جنازته ثم صلوا عليه مع الناس ، فإذا دفن أجلس في قبره ، فيقال له : من ربك ؟ فيقول : ربي الله ، ويقال له : من رسولك ؟ فيقول : محمد صلى الله عليه وسلم ، فيقال له : ما شهادتك ؟ فيقول : أشهد أن لا أله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، فيوسع له قبره مد بصره .

وأما الكافر فتنزل الملائكة فيبسطون أيديهم والبسط هو الضرب ، يضربون وجوههم وأدبارهم عند الموت ، فإذا دخل قبره أقعد ، فقيل له : من ربك ؟ فلم يرجع إليهم شيئا وأنساه الله ذكر ذلك ، وإذا قيل له : من رسولك الذي بعث إليك ؟ لم يهتد له ولم يرجع إليهم شيئا يقول الله "كذلك يضل الله الكافرين" ))

 

إجماع أهل السنة على أن عذاب القبر حق

قال ابن قتيبة :

وكثرة الأخبار عنه في منكر ونكير وفي عذاب القبر وفي دعائه أعوذ بك من فتنة المحيا والممات وأعوذ بك من عذاب القبر ومن فتنة المسيح الدجال. وهذه الأخبار صحاح لا يجوز على مثلها التواطؤ وإن لم يصح مثلها لم يصح شيء من أمور ديننا ولا شيء أصح من أخبار نبينا صلى الله عليه وسلم.

 

وحكى إجماع أهل السنة على إثبات عذاب القبر الحافظ ابن حجر في الفتح .

وقال ابن بطال :

أن عذاب القبر حق، يجب الإيمان به والتسليم له، وهو مذهب أهل السنة.

وقال :

أن عذاب القبر حق، وأهل السنة مجمعون على الإيمان به والتصديق، ولا ينكره إلا مبتدع.

وقال النووي :

قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( رَأَيْتُكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُور وَفِي آخِره يَتَعَوَّذ مِنْ عَذَاب الْقَبْر )

فِيهِ إِثْبَات عَذَاب الْقَبْر وَفِتْنَته ، وَهُوَ مَذْهَب أَهْل الْحَقّ . وَمَعْنَى تُفْتَنُونَ تُمْتَحَنُونَ

وقال : إِثْبَات عَذَاب الْقَبْر ، وَهُوَ مَذْهَب أَهْل الْحَقّ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ .

وقال : وَالْمَقْصُود : أَنَّ مَذْهَب أَهْل السُّنَّة إِثْبَات عَذَاب الْقَبْر كَمَا ذَكَرْنَا خِلَافًا لِلْخَوَارِجِ وَمُعْظَم الْمُعْتَزِلَة وَبَعْض الْمُرْجِئَة نَفَوْا ذَلِكَ

 

عن عائشة رضي الله عنها :

(( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ .. الحديث ))

قَالَ اِبْن حَجَر الْمَكِّيّ :

وَفِيهِ أَبْلَغ الرَّدّ عَلَى الْمُعْتَزِلَة فِي إِنْكَارهمْ لَهُ وَمُبَالَغَتهمْ فِي الْحَطّ عَلَى أَهْل السُّنَّة فِي إِثْبَاتهمْ لَهُ حَتَّى وَقَعَ لِسُنِّيٍّ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى مُعْتَزِلِيّ فَقَالَ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ أَذِقْهُ عَذَاب الْقَبْر فَإِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِن بِهِ وَيُبَالِغ فِي نَفْيه وَيُخَطِّئ مُثْبِته.

 

وقال ملا على القاري :

وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت) قال نزلت في عذاب القبر حين يقال ومن ربك ؟ يقول : ربي الله ، ونبيي محمد ، فذلك (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت الآية.

والأحاديث في ذلك كثيرة في المبنى ، وقد تواترت بحسب المعنى ، وأجمعوا عليه أهل السنة ، خلافا لبعض أهل البدعة ، (ويضل الله الظالمين) أي لا يهدي المشركين في القبر إلى الجواب الصواب (ويفعل الله ما يشاء) من التوفيق والخذلان والإعطاء والحرمان ، بمن يشاء من عباده في دار الامتحان.

 

قال المناوي :

وقد تظاهرت الدلائل من الكتاب والسنة على ثبوت عذاب القبر وأجمع عليه أهل السنة وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم سمعه بل سمعه آحاد من الناس قال الدماميني رجمه الله وقد كثرت الأحاديث فيه حتى قال غير واحد إنها متواترة لا يصح عليها التواطؤ وإن لم يصح مثلها لم يصح شئ من أمر الدين

 

المنكر لعذاب القبر هم الخوارج والمعتزلة

قال جمع من العلماء منهم ابن حجر والنووي وابن بطال والمناوي وغيرهم :

أن الْخَوَارِج وَبَعْض الْمُعْتَزِلَة كَضِرَارِ بْن عَمْرو وَبِشْر الْمَرِيسِيّ وَمَنْ وَافَقَهُمَا ، هم الذين أنكروا عذاب القبر ، وأن الخوارج ينفونه مطلقًا .

فمن أنكر عذاب القبر فقد سلك سبيل الخوارج والذين لا يعلمون

وقال الآجري :

وأما المعتزلة فهم يكذبون بعذاب القبر وبالحوض والشفاعة ولا يرون الصلاة خلف أحد من أهل القبلة ؛ إلا من كان على هواهم .

قال سفيان الثوري :

« أما المعتزلة فهم يكذبون بعذاب القبر ، وبالحوض ، وبالشفاعة ، ولا يرون الصلاة خلف أحد من أهل القبلة ، إلا من كان على هواهم ، وكل أهل هوى ، فإنهم يرون السيف على أهل القبلة »

 



 

فصل

 

في

الاستعاذة

من عذاب القبر

 

الاستعاذة من عذاب القبر

 

نظرًا لأهمية ما يلقاه الإنسان بعد موته ، وما ينتظره بعد الموت ، وما يمكن أن يتعرض له الإنسان في قبره من مسألة وحساب ، وما قد يكون في القبر من عذاب .. شرع النبي صلى الله عليه وسلم الاستعاذة بالله تعالى من عذاب القبر في غير ما موضع .. وفي هذا الفصل ىنتعرض لهذه المسألة والسنة الهامة

وقد كان صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من عذاب القبر في دعائه ، وفي كل وقت ويأمر أمته بذلك .

عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( أَنَّ يَهُودِيَّةً جَاءَتْ تَسْأَلُهَا فَقَالَتْ لَهَا : أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ .

فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُعَذَّبُ النَّاسُ فِي قُبُورِهِمْ ؟

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ .

ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ غَدَاةٍ مَرْكَبًا فَخَسَفَتْ الشَّمْسُ ، فَرَجَعَ ضُحًى فَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ الْحُجَرِ .

ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي وَقَامَ النَّاسُ وَرَاءَهُ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً ، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً ، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ ، ثُمَّ رَفَعَ فَسَجَدَ ، ثُمَّ قَامَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ ، ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلاً وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ ، ثُمَّ رَفَعَ فَسَجَدَ وَانْصَرَفَ .

فَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَعَوَّذُوا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ))

الْمُرَاد بِالْحُجَرِ : بُيُوت أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

 

وعن عائشة رضي الله عنها :

(( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو بِهَؤُلاءِ الدَّعَوَاتِ : اللَّهُمَّ فَإِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَعَذَابِ النَّارِ وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ .. الحديث ))

 

وعن أمة بنت خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ :

(( أَنَّهَا سَمِعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ))

 

وعن أَنَس بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :

(( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ))

 

تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأمته

التعوذ من عذاب القبر

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ :

(( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ كَمَا يُعَلِّمُهُمْ السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ ))

 

 

عن مُسْلِم بْن أَبِي بَكْرَةَ قَالَ :

(( سَمِعَنِي أَبِي وَأَنَا أَقُولُ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْكَسَلِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ ، قَالَ : يَا بُنَيَّ مِمَّنْ سَمِعْتَ هَذَا ؟ قُلْتُ : سَمِعْتُكَ تَقُولُهُنَّ ، قَالَ : الْزَمْهُنَّ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُهُنَّ ))

 

التعوذ من عذاب القبر دبر كل صلاة

عن عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ الأَوْدِيَّ قَالَ :

(( كَانَ سَعْدٌ يُعَلِّمُ بَنِيهِ هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا يُعَلِّمُ الْمُعَلِّمُ الْغِلْمَانَ الْكِتَابَةَ وَيَقُولُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْهُنَّ دُبُرَ الصَّلاةِ :

اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ))

 

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ :

(( دَخَلَتْ عَلَيَّ عَجُوزَانِ مِنْ عُجُزِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ ، فَقَالَتَا لِي : إِنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ فَكَذَّبْتُهُمَا وَلَمْ أُنْعِمْ أَنْ أُصَدِّقَهُمَا فَخَرَجَتَا ، وَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عَجُوزَيْنِ وَذَكَرْتُ لَهُ ؟ فَقَالَ :

صَدَقَتَا إِنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَذَابًا تَسْمَعُهُ الْبَهَائِمُ كُلُّهَا ، فَمَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ فِي صَلاةٍ إِلا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ))

 

 

 

وعن عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلاةِ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ ؛ قَالَتْ : فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنْ الْمَغْرَمِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ ))

 

وعنها :

(( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو بِهَؤُلاءِ الدَّعَوَاتِ : اللَّهُمَّ فَإِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَعَذَابِ النَّارِ وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْفَقْرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَنَقِّ قَلْبِي مِنْ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنْ الدَّنَسِ وَبَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اللَّهُمَّ فَإِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكَسَلِ وَالْهَرَمِ وَالْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ ))

 

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ ))

 

 

 

التعوذ من عذاب القبر كل صباح ومساء

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمْسَى قَالَ :

(( أَمْسَيْنَا وَأَمْسَى الْمُلْكُ لِلَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَسْأَلُكَ خَيْرَ مَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَخَيْرَ مَا بَعْدَهَا وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَشَرِّ مَا بَعْدَهَا وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكَسَلِ وَسُوءِ الْكِبَرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ النَّارِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ ، وَإِذَا أَصْبَحَ قَالَ ذَلِكَ أَيْضًا أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ الْمُلْكُ لِلَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ))

الدعاء للموتى بالعصمة من فتنة القبر

عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ قَالَ :

(( صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَأَسْمَعُهُ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إِنَّ فُلانَ بْنَ فُلانٍ فِي ذِمَّتِكَ وَحَبْلِ جِوَارِكَ ، فَقِهِ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ النَّارِ ، وَأَنْتَ أَهْلُ الْوَفَاءِ وَالْحَقِّ فَاغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ ، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ))

 

أفضلية التعوذ من عذاب القبر

قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( اللَّهُمَّ أَمْتِعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

قَدْ سَأَلْتِ اللَّهَ لآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ

وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ أَوْ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ كَانَ خَيْرًا وَأَفْضَلَ .

قَالَ : وَذُكِرَتْ عِنْدَهُ الْقِرَدَةُ وَالْخَنَازِيرُ مِنْ مَسْخٍ ؟ فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِمَسْخٍ نَسْلاً وَلا عَقِبًا وَقَدْ كَانَتْ الْقِرَدَةُ وَالْخَنَازِيرُ قَبْلَ ذَلِكَ ))

قال النووي :

( حِلّه ) مَعْنَاهُ وُجُوبه وَحِينه .

وَهَذَا الْحَدِيث صَرِيح فِي أَنَّ الآجَال وَالأَرْزَاق مُقَدَّرَة لا تَتَغَيَّر عَمَّا قَدَّرَهُ اللَّه تَعَالَى وَعَلِمَهُ فِي الأَزَل , فَيَسْتَحِيل زِيَادَتهَا وَنَقْصهَا حَقِيقَة عَنْ ذَلِكَ .

فَإِنْ قِيلَ : مَا الْحِكْمَة فِي نَهْيهَا عَنْ الدُّعَاء بِالزِّيَادَةِ فِي الأَجَل لأَنَّهُ مَفْرُوغ مِنْهُ , وَنَدْبِهَا إِلَى الدُّعَاء بِالاسْتِعَاذَةِ مِنْ الْعَذَاب , مَعَ أَنَّهُ مَفْرُوغ مِنْهُ أَيْضًا كَالأَجَلِ ؟

فَالْجَوَاب :

أَنَّ الْجَمِيع مَفْرُوغ مِنْهُ , لَكِنْ الدُّعَاء بِالنَّجَاةِ مِنْ عَذَاب النَّار وَمِنْ عَذَاب الْقَبْر وَنَحْوهمَا عِبَادَة وَقَدْ أَمَرَ الشَّرْع بِالْعِبَادَاتِ

فَقِيلَ : أَفَلا نَتَّكِل عَلَى كِتَابنَا وَمَا سَبَقَ لَنَا مِنْ الْقَدَر ؟

فَقَالَ : اِعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّر لِمَا خُلِقَ لَهُ وَأَمَّا الدُّعَاء بِطُولِ الأَجَل فَلَيْسَ عِبَادَة

وَكَمَا لا يَحْسُن تَرْك الصَّلاة وَالصَّوْم وَالذِّكْر اِتِّكَالاً عَلَى الْقَدَر فَكَذَا الدُّعَاء بِالنَّجَاةِ مِنْ النَّار وَنَحْوه .



أسباب عذاب القبر

عذاب القبر يكون إجمالاً لمن عصى الله ورسوله كما قال ابن القيم :

فإنهم يعذبون على جهلهم بالله وإضاعتهم لأمره ، وارتكابهم لمعاصيه ، فلا يُعذب الله روحاً عرفته وأحبته وامتثلت أمره واجتنبت نهيه ، ولا بدناً كانت فيه أبدًا .

فإن عذاب القبر وعذاب الآخرة أثرُ غضبِ الله وسخطه على عبده ، فمن أغضب الله وأسخطه في هذه الدار ثم لم يتب ومات على ذلك كان له من عذاب البرزخ بقدر غضب الله وسخطه عليه ، فمستقل ومستكثر ، ومصدق ومكذب .انتهى

 

فهذا هو الأصل فكل ما أسخط الله تعالى كان سببًا لعذاب القبر ، وقد جاءت نصوص صريحة في ذكر بعض أنواع العذاب لعدد من مرتكبي المعاصي والذنوب في قبورهم وحياتهم البرزخية .. نذكرها فيما يلي وهو من باب التفصيل لما سبق :

الكفر والنفاق :

قال الله تعالى عن آل فرعون : (( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ))

وقد سبق الكلام على هذه الآية وأنهم وقوم نوح لما أغرقهم الله تعالى أدخلهم النار فهم يعذبون فيها إلى يوم القيامة ، ويوم القيامة يكون العذاب لهم أشد وأعظم .

كما سبق الكلام أن أرواح الكافرين تعذب في النار بعد موتهم ، وجاءت الأحاديث بعذاب الكفار والمنافقين والفجار في قبورهم ويبق منها الكثير .

ومما يدل على أن الشرك سبب من أسباب عذاب القبر

عن زَيْد بْنُ ثَابِتٍ قَالَ :

(( بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَائِطٍ لِبَنِي النَّجَّارِ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ ، وَنَحْنُ مَعَهُ إِذْ حَادَتْ بِهِ فَكَادَتْ تُلْقِيهِ ، وَإِذَا أَقْبُرٌ سِتَّةٌ أَوْ خَمْسَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ ، فَقَالَ : مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَقْبُرِ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ : أَنَا ، قَالَ : فَمَتَى مَاتَ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ : مَاتُوا فِي الْإِشْرَاكِ ، فَقَالَ : إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا ، فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ .

ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ : تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ ، قَالُوا : نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ ، فَقَالَ : تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، قَالُوا : نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ قَالَ : تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، قَالُوا : نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، قَالَ : تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ ، قَالُوا : نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ ))

فقوله في الحديث : ( ماتوا في الإشراك ) دليل على أن الشرك سبب في عذاب القبر

والنفاق سبب من أسباب عذاب القبر

والمنافقون أولى الناس بعذاب القبر ، كيف لا وهم أصحاب الدرك الأسفل من النار .

وفي أحاديث سؤال الملكين وفتنة القبر ، ورد التصريح باسم المنافق ، أو المرتاب في كثير من الروايات ، وسبق ذكرها ومنها

 

عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ

(( .. وَأَمَّا الْكَافِرُ أَوْ الْمُنَافِقُ فَيُقَالُ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ فَيَقُولُ لا أَدْرِي كُنْتُ أَقُولُ كَمَا يَقُولُ النَّاسُ فَيُقَالُ لَهُ لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ ثُمَّ يُضْرَبُ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ غَيْرُ الثَّقَلَيْنِ ))

 

 

 

 

تبديل وتغيير شرع الله تعالى من أسباب عذاب القبر

فكل من قام بتبديل شرع الله تعالى ، وتغيير أحكامه ، والتلاعب بتحريم ما أحل الله ، وتحليل ما حرم ، فهو متوعد بعذاب القبر

فكيف بمن قام بتنحية شرع الله تعالى بالكلية ، وقام بتحكيم القوانين والأحكام الوضعية في الدماء والأعراض والأموال ، وأخذوا يشرعون للناس ما لم ينزل الله به من سلطان ، وحكموا بغير ما أنزل الله تعالى ، فهولاء جعلوا أنفسهم أربابًا للناس من دون الله تعالى .. وارتدوا أثواب الربوبية والألوهية .. فهم أشد أعداء الله في الأرض ، لأنهم أضاعوا دين الله ، وافسدوا بذلك العباد والبلاد ، والدليل على أن ذلك الإلحاد في شرع الله تعالى سبب من أسباب العذاب في القبر

عن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرِ بْنِ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ ))

( يَجُرّ قُصْبه فِي النَّار ) وَهِيَ الأَمْعَاء .

والسائبة : هي ناقة أو بقرة أو شاة كانوا يسيبونها فلا تركب ولا تؤكل ولا يحمل عليها ، وكان بعضهم ينذر شيئا من ماله يجعله سائبة ، وكان هو أول من شرع لهم هذه التشريعات

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " العرب من ولد إسماعيل وغيره ، الذين كانوا جيران البيت العتيق الذي بناه إبراهيم وإسماعيل ، كانوا حنفاء على ملة إبراهيم ، إلى أن غير دينه بعض ولاة خزاعة ، وهو عمرو بن لحي ، وهو أول من غير دين إبراهيم بالشرك وتحريم ما لم يحرمه الله ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه " انتهى .

وقد تواردت الأدلة والنصوص الشرعية الصحيحة على كفر من نصب نفسه مشرعًا وحاكمًا للناس بغير شرع الله تعالى وليس هنا موضع بسط هذه المسألة .

الغلول والسرقة من أموال المسلمين :

عن أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال :

افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ وَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً ، إِنَّمَا غَنِمْنَا الْبَقَرَ وَالْإِبِلَ وَالْمَتَاعَ وَالْحَوَائِطَ ، ثُمَّ انْصَرَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى وَادِي الْقُرَى ، وَمَعَهُ عَبْدٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ : مِدْعَمٌ ، أَهْدَاهُ لَهُ أَحَدُ بَنِي الضِّبَابِ ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ حَتَّى أَصَابَ ذَلِكَ الْعَبْدَ ، فَقَالَ النَّاسُ : هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

" بَلْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنْ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ ، لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا .

فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ فَقَالَ : هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ ))

الغلول : هو أخذ الغازي شيئاً من الغنيمة دون عرضه على ولي الأمر لقسمته .

سَهْمٌ عَائِرٌ : أي لا يدرى من رماه .

الشراك : سيور النعال .

وهذا الحديث لا يخص من غل من غنائم الحرب فقط .. وإنما يدخل فيه كل من سرق أموال المسلمين واغتصبها ظلمًا وعدوانًا ، فكلهم في نفس المعنى .. بل منهم من يكون أشد جرمًا وفظاعة .. كما يحدث في هذه الأيام من الحكام الظلمة والمسئولين الفجرة الذين لا يزالون يسرقون أموال الأمة بأسرها حتى تضخمت ثرواتهم المنهوبة والمسروقة إلى آلاف المليارات .. ويتركون الناس في الفقر والضنك ومرار العيش ، فهم يأكلون أموال المسلمين بالباطل والظلم والعدوان ومع ذلك نجد من يروج لهم ولظلمهم من وسائل إعلام خبيثة وشيوخ فجرة مثلهم يدعون لطاعتهم والسمع والطاعة لهم

عَنْ الْحَكَمِ بْن الْحَارِث السُّلَمِيّ مَرْفُوعًا :

((  مَنْ أَخَذَ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ شِبْرًا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ ))

فكيف من سرق أموال المسلمين ولا يترك شاذة ولا فاذة إلا ونهبها ، ولا يترك حقًا من حقوقهم إلا وأكله .. فهم أعظم الناس غلولاً وأشدهم ظلمًا ، وهم أشد الناس عذابًا في الدنيا والآخرة

ومِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِك الْأَشْعَرِيِّ :

(( أَعْظَمُ الْغُلُول عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : ذِرَاع أَرْض يَسْرِقُهُ رَجُلٌ ، فَيُطَوَّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ ))

فمن سرق من شبرًا من الأرض فعل الله به ذلك ، فكيف بمن يسرقون أموال العالم وأراضيهم وأقواتهم ؟!!!

 

عن خَوْلَةَ بِنْتَ قَيْسٍ قالت : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

(( إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ ، مَنْ أَصَابَهُ بِحَقِّهِ بُورِكَ لَهُ فِيهِ ، وَرُبَّ مُتَخَوِّضٍ فِيمَا شَاءَتْ بِهِ نَفْسُهُ مِنْ مَالِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَيْسَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا النَّارُ ))

( وَرُبَّ مُتَخَوِّضٍ ) أَيْ مُتَسَارِعٍ وَمُتَصَرِّفٍ .

أَيْ رُبَّ مُتَصَرِّفٍ فِي مَالِ اللَّهِ بِمَا لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ أَيْ يَتَصَرَّفُونَ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَيَسْتَبِدُّونَ بِمَالِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ قِسْمَةٍ , وَقِيلَ هُوَ التَّخْلِيطُ فِي تَحْصِيلِهِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ كَيْفَ أَمْكَنَ

( فِيمَا شَاءَتْ نَفْسُهُ ) أَيْ فِيمَا أَحَبَّتْهُ وَالْتَذَّتْ بِهِ

( لَيْسَ لَهُ ) أَيْ جَزَاءٌ ( يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا النَّارُ ) أَيْ دُخُولُ جَهَنَّمَ وَهُوَ حُكْمٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ وَهُوَ الْخَوْضُ فِي مَالِ اللَّهِ تَعَالَى

فما أنسب هذا الحديث للحكام ووزراءهم في هذه الأيام الذين نصبوا أنفسهم بالغصب والعدوان ، فحكموا يغير شرع الله فحرموا العباد من دينهم ، واستولوا على بيوت مال المسلمين وكل ما يكون على أرضهم من ثروات واستئثروا بها ، فغلوها وسرقوها لأنفسهم ولشهواتهم ، فحرموا العباد من دنياهم .. فهم سبب فساد الدنيا والدين وهم أظلم الناس وأشدهم غلولاً .

عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :

(( قَامَ فِينَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ قَالَ :

لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ عَلَى رَقَبَتِهِ ، فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ يَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي ، فَأَقُولُ : لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ ، وَعَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ ، يَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي ، فَأَقُولُ : لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ ، وَعَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ ، فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي ، فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ ، أَوْ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ ، فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي ، فَأَقُولُ : لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ ))

فكل من غَلَّ شيئًا من أموال المسلمين ، أتى بها يحمله على عنقه يوم القيامة ، يفضحه الله بسرقته وبغلوله على رؤوس الخلائق .. فأي خزي بعد هذا وعار .. هذا غير ما يكون لهؤلاء اللصوص من عذاب في قبورهم وآخرتهم بإذن الله .

فكيف بالذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا وزورًا ؟!

 

رؤيته صلى الله عليه وسلم للسارق وهو يعذب

عَنْ جَابِرٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الكسوف قال :

(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَإِنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَصَلُّوا حَتَّى تَنْجَلِيَ ، مَا مِنْ شَيْءٍ تُوعَدُونَهُ إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي صَلَاتِي هَذِهِ .

لَقَدْ جِيءَ بِالنَّارِ ، وَذَلِكُمْ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَنِي مِنْ لَفْحِهَا ، وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَ الْمِحْجَنِ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ ، كَانَ يَسْرِقُ الْحَاجَّ بِمِحْجَنِهِ فَإِنْ فُطِنَ لَهُ قَالَ إِنَّمَا تَعَلَّقَ بِمِحْجَنِي وَإِنْ غُفِلَ عَنْهُ ذَهَبَ بِهِ ))

فكل سارق يعذب في قبره ، ويناله العذاب لاعتداءه على أموال المسلمين والاستهانة بحرماتهم .

 

الذين يعذبون خلق الله .. من إنسان أو حيوان :

ففي حديث جابر السابق قال صلى الله عليه وسلم :

(( .. لَقَدْ جِيءَ بِالنَّارِ ، وَذَلِكُمْ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ ، مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَنِي مِنْ لَفْحِهَا ، .. وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَةَ الْهِرَّةِ الَّتِي رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا ، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا ))

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا إِذْ هِيَ حَبَسَتْهَا وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ ))

فالذي يعذب الحيوانات أو يحبس عنها الطعام فهذا يعذب في قبره ، ويرى أليم العذاب في النار بسبب حيوان ... فكيف بمن يعذبون الناس

لا شك أن الذين يعذبون الناس ويحبسونهم أشد عذابًا وأعظم .. ولقد امتلأ العالم في أيامنا ظلمًا وجورًا فالقتل بالجملة ، والاعتقالات بالجملة ، والتعذيب لا حدود له بل ويتفنون فيه بأشد أنواع العذاب والإهانة .

وعن أبي هُرَيْرَةَ قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

(( إِنْ طَالَتْ بِكَ مُدَّةٌ ، أَوْشَكْتَ أَنْ تَرَى قَوْمًا يَغْدُونَ فِي سَخَطِ اللَّهِ ، وَيَرُوحُونَ فِي لَعْنَتِهِ فِي أَيْدِيهِمْ مِثْلُ أَذْنَابِ الْبَقَرِ ))

 

وعن هِشَامُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قال : أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :       (( إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا ))

وعذاب الذين يعذبون الناس هنا غير محدود ، فهم يعذبون في الدنيا بحرمانهم من طاعة الله ، وقد ينالهم جزءًا من العذاب في دنياهم كما نرى ما يصيب الكثيرين منهم من عذاب أليم في دنياهم ويموتون على ذلك .

ويعذبون عند موتهم بنزول ملائكة العذاب تنزع أرواحهم بعذاب وألم يفوق ما كانوا يفعلونه بالناس ، وسبق معنا كيفية قبض أرواح الظالمين ، ويعذبون في قبورهم أشد من التي عذبها الله في حبس الهرة ، لأن حرمة الإنسان أشد ، ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب .. نسأل الله تعالى أن ينتقم من الظالمين ويعجل بهلاهكم فقد أفسدوا الدنيا والدين ، وأفسدوا على الخلق معايشهم ، واذاقوهم الفقر والعذاب وحرموهم من شريعة ربهم ومن خيرها .

 

جر الثوب خيلاء :

إسبال الثياب محرم في الإسلام على الرجال ، وحدوده إلى الكعبين ، فكل ما كان من الثياب أسفل الكعبين فهو في النار كما أخبر صلى الله عليه وسلم .. وتزداد العقوبة وتشتد على من فعله اختيالاً فهو متوعد بمزيد عذاب

عن عَبْدِ اللَّهِ بن عمر أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( بَيْنَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ من الخُيَلاءِ ، إِذْ خُسِفَ بِهِ ، فَهُوَ يَتَجَلَّلُ فِي الْأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ))

والتجلجل : أن يسوخ في الأرض مع اضطراب شديد ويندفع من شق إلى شق .

فالمعنى : يتجلجل في الأرض أي ينزل فيها مضطرباً متدافعاً .

 

عَنْ هُبَيْبِ بْنِ مُغْفِلٍ الْغِفَارِيِّ : أَنَّهُ رَأَى مُحَمَّدًا الْقُرَشِيَّ قَامَ يَجُرُّ إِزَارَهُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ هُبَيْبٌ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

(( مَنْ وَطِئَهُ خُيَلَاءَ وَطِئَهُ فِي النَّارِ ))

فهذا جزاء من جر ثوبه خيلاء ، وهو متوعد بأنواع أخرى من العذاب يوم القيامة ، فإنه من الذين لا ينظر الله إليهم يوم القيامة .

وشباب رجال الأمة الآن يسارعون فيما يسمىى بالموضة ، ويجرون ثيابهم فخرًا وخيلاء ويتبخترون بها ، ويتباهون بها ، حتى أصبح ذلك شغلهم الشاغل ، فلا يفكرون إلا فيما يباهي به بعضهم بعضًا ، وكيف يلفتون أنظار النساء إليهم بذلك ، ويتفاخرون به على أقرانهم .. يتبعون سنن اليهود والنصارى .. فهم ينجرون إلى أنواع شتى من الكبائر .. وأنواع أخرى من الشركيات جريًا وسعيًا وراء العالمية والموضة والحرية وغير ذلك من الشعارات الجوفاء .. حتى رأينا عبدة الشيطان ورأينا ملاحدة العرب ، وغيرهم من أبناء الأمة الذين انسلخوا عن دينهم بل انسلخوا من كل ما يمت للرجولة والأخلاق بصلة فضلاً عن ذلك .

 

العجب بالنفس والاختيال والتكبر :

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( خَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فِي حُلَّةٍ لَهُ ، يَخْتَالُ فِيهَا ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ فَأَخَذَتْهُ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا أَوْ قَالَ يَتَلَجْلَجُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ))

( يَخْتَالُ فِيهَا ) مِنْ الِاخْتِيَالِ وَهُوَ التَّكَبُّرُ فِي الْمَشْيِ

( فَأَخَذَتْهُ ) أَيْ اِبْتَلَعَتْهُ ( فَهُوَ مُتَجَلْجِلٌ أَوْ قَالَ يَتَلَجْلَجُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) أَيْ يَغُوصُ فِي الْأَرْضِ وَيَضْطَرِبُ فِي نُزُولِهِ فِيهَا .

فهذا يستمر به هذا العذاب في البرزخ ، ولا يزال فيه إلى يوم القيامة ، فانظر كم يعاني هذا التعيس من العذاب على طول هذه الأزمان الطويلة للحظة تكبر واختيال تلبس بها فكان منها هذا الشقاء الطويل .. نعوذ بالله من الخزي والخذلان .

 

وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( بَيْنَا رَجُلٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ خَرَجَ فِي بُرْدَيْنِ أَخْضَرَيْنِ يَخْتَالُ فِيهِمَا ، أَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ فَأَخَذَتْهُ ، وَإِنَّهُ لَيَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ))

 

وعن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ ، مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ ، إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ))

وعنه :

(( بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي قَدْ أَعْجَبَتْهُ جُمَّتُهُ وَبُرْدَاهُ إِذْ خُسِفَ بِهِ الْأَرْضُ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ))

وعنه :

(( بَيْنَمَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ فِي بُرْدَيْنِ وَقَدْ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ خُسِفَتْ بِهِ الْأَرْضُ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا حَتَّى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ))

وعنه :

(( بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ لَهُ مُعْجَبٌ بِنَفْسِهِ .. الحديث ))

( يَمْشِي فِي حُلَّة ) الْحُلَّة ثَوْبَانِ أَحَدهمَا فَوْق الْآخَر , وَقِيلَ : إِزَار وَرِدَاء وَهُوَ الْأَشْهَر

( تُعْجِبهُ نَفْسه ) قَالَ الْقُرْطُبِيّ : إِعْجَاب الْمَرْء بِنَفْسِهِ هُوَ مُلَاحَظَته لَهَا بِعَيْنِ الْكَمَال مَعَ نِسْيَان نِعْمَة اللَّه , فَإِنْ اِحْتَقَرَ غَيْره مَعَ ذَلِكَ فَهُوَ الْكِبْر الْمَذْمُوم .

( مُرَجِّل جُمَّته ) هِيَ مُجْتَمَع الشَّعْر إِذَا تَدَلَّى مِنْ الرَّأْس إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ وَإِلَى أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ , وَأَمَّا الَّذِي لَا يَتَجَاوَز الْأُذُنَيْنِ فَهُوَ الْوَفْرَة , وَتَرْجِيل الشَّعْر تَسْرِيحه وَدَهْنه .

( يَتَجَلْجَلُ ) قَالَ اِبْن فَارِس : التَّجَلْجُل أَنْ يَسُوخ فِي الْأَرْض مَعَ اِضْطِرَاب شَدِيد وَيَنْدَفِع مِنْ شِقّ إِلَى شِقّ , فَالْمَعْنَى يَتَجَلْجَل فِي الْأَرْض أَيْ يَنْزِل فِيهَا مُضْطَرِبًا مُتَدَافِعًا

 

فالمتكبرون ، والمعجبون بأنفسهم ، ويختالون في مشيتهم ، ويتعاطون أسباب التكبر على الآخرين بشيء من متاع الدنيا ، فهؤلاء يعذبون في قبورهم

وعقابهم في البرزخ مثل عقاب قارون ، فقارون أعجبته نفسه ونسى نعمة الله عليه ، وتكبر على قومه ، وغرته نفسه وما يملك من أموال وكنوز ، فخرج على قومه في زينته فخرًا ورياء وتكبرًا وإعجابًا فخسف الله به الأرض ، فهو يتجلجل فيها إلي يوم القيامة وكذلك كل من كان أمره على تلك الحال ، فمصيره مصير المتكبرين فمن شمخ بأنفه متكبرًا يريد العلو .. أنزله الله إلى أسفل سافلين يُعذب بانحطاط وسفول إلى يوم القيامة فيذوق الذل والعذاب الأليم .. على عكس مراده من التكبر والعلو .

 

فمن رزقه الله نعمة في الدنيا ، فليكن متواضعًا ، خاشعًا ، معترفًا دومًا بنعمة الله عليه ، ويجدد الشكر لله ويدوام على طاعته ، ويخرج حق الله عليه من صدقة وزكاة ولا يتخذها فخرًا ولا سمعة ورياء ، ولا يتكبر بها على خلق الله ، أو يظن أنه له مزيد فضل عنهم .. فإنما هو اختبار من الله له .. والله يختبر عباده بما شاء فقد يختبرهم بالنعمة كما يختبرهم بنزعها عنهم ..

ونسأل الله عز وجل أن يرحمنا وأن يعفو عنا في الدنيا والآخرة ونعوذ به من كل ما يغضبه ونستغفره ونتوب إليه .

 

النياحة :

عَنْ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

(( الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِالنِّيَاحَةِ عَلَيْهِ ))

ويأتي الكلام على هذه المسألة في فصل مستقل

 

الغيبة والنميمة والبول :

وقد بوب الإمام البخاري في صحيحه : بَاب عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْ الْغِيبَةِ وَالْبَوْلِ

وعن ابن عباس : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

(( عامة عذاب القبر في البول فاستنزهوا من البول ))

 

وعن أنس : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

(( تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر من البول ))

 

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( أَكْثَرُ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْ الْبَوْلِ ))

 

وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ :

(( كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرَّ عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ : مَنْ يَأْتِينِي بِجَرِيدَةِ نَخْلٍ قَالَ : فَاسْتَبَقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ آخَرُ فَجِئْنَا بِعَسِيبٍ فَشَقَّهُ بِاثْنَيْنِ فَجَعَلَ عَلَى هَذَا وَاحِدَةً وَعَلَى هَذَا وَاحِدَةً ثُمَّ قَالَ : أَمَا إِنَّهُ سَيُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا كَانَ فِيهِمَا مِنْ بُلُولَتِهِمَا شَيْءٌ ثُمَّ قَالَ إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ فِي الْغِيبَةِ وَالْبَوْلِ ))

 

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال :

(( كنا نمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررنا على قبرين فقام فقمنا معه فجعل لونه يتغير حتى رعد كم قميصه فقلنا ما لك يا رسول الله فقال أما تسمعون ما أسمع فقلنا وما ذاك يا نبي الله قال هذان رجلان يعذبان في قبورهما عذابا شديدا في ذنب هين قلنا فيم ذلك قال كان أحدهما لا يستنزه من البول وكان الآخر يؤذي الناس بلسانه ويمشي بينهم بالنميمة فدعا بجريدتين من جرائد النخل فجعل في كل قبر واحدة قلنا وهل ينفعهم ذلك قال نعم يخفف عنهما ما دامتا رطبتين ))

 

وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال :

(( سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلْنَا وَادِيًا أَفْيَحَ ، فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْضِي حَاجَتَهُ ، فَاتَّبَعْتُهُ بِإِدَاوَةٍ مِنْ مَاءٍ فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا يَسْتَتِرُ بِهِ ، فَإِذَا شَجَرَتَانِ بِشَاطِئِ الْوَادِي فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى إِحْدَاهُمَا فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا فَقَالَ : انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ، فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَالْبَعِيرِ الْمَخْشُوشِ الَّذِي يُصَانِعُ قَائِدَهُ ، حَتَّى أَتَى الشَّجَرَةَ الأُخْرَى فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا فَقَالَ : انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ، فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَذَلِكَ ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْمَنْصَفِ مِمَّا بَيْنَهُمَا لأَمَ بَيْنَهُمَا يَعْنِي جَمَعَهُمَا ، فَقَالَ : الْتَئِمَا عَلَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَالْتَأَمَتَا .

قَالَ جَابِرٌ : فَخَرَجْتُ أُحْضِرُ مَخَافَةَ أَنْ يُحِسَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُرْبِي فَيَبْتَعِدَ ،  فَجَلَسْتُ أُحَدِّثُ نَفْسِي فَحَانَتْ مِنِّي لَفْتَةٌ فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقْبِلاً وَإِذَا الشَّجَرَتَانِ قَدْ افْتَرَقَتَا فَقَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى سَاقٍ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ وَقْفَةً فَقَالَ بِرَأْسِهِ هَكَذَا ( يَمِينًا وَشِمَالاً ) ثُمَّ أَقْبَلَ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيَّ ، قَالَ : يَا جَابِرُ هَلْ رَأَيْتَ مَقَامِي ؟ قُلْتُ : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : فَانْطَلِقْ إِلَى الشَّجَرَتَيْنِ فَاقْطَعْ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غُصْنًا فَأَقْبِلْ بِهِمَا حَتَّى إِذَا قُمْتَ مَقَامِي فَأَرْسِلْ غُصْنًا عَنْ يَمِينِكَ وَغُصْنًا عَنْ يَسَارِكَ .

قَالَ جَابِرٌ : فَقُمْتُ فَأَخَذْتُ حَجَرًا فَكَسَرْتُهُ وَحَسَرْتُهُ فَانْذَلَقَ لِي فَأَتَيْتُ الشَّجَرَتَيْنِ فَقَطَعْتُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غُصْنًا ثُمَّ أَقْبَلْتُ أَجُرُّهُمَا حَتَّى قُمْتُ مَقَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلْتُ غُصْنًا عَنْ يَمِينِي وَغُصْنًا عَنْ يَسَارِي ثُمَّ لَحِقْتُهُ فَقُلْتُ قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَعَمَّ ذَاكَ ؟

قَالَ : إِنِّي مَرَرْتُ بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ فَأَحْبَبْتُ بِشَفَاعَتِي أَنْ يُرَفَّهَ عَنْهُمَا مَا دَامَ الْغُصْنَانِ رَطْبَيْنِ ))

وحديث جابر واقعة غير واقعة ابن عباس التالية ، فهناك تَغَايُر بين حَدِيث اِبْن عَبَّاس وَحَدِيث جَابِر من عدة وجوه ، وَأَنَّهُمَا كَانَا فِي قِصَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ , وَلا يَبْعُد تَعَدُّد ذَلِكَ . وَقَدْ رَوَى اِبْن حِبَّان فِي صَحِيحه مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة :

(( أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَبْرٍ فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ : اِئْتُونِي بِجَرِيدَتَيْنِ , فَجَعَلَ إِحْدَاهُمَا عِنْد رَأْسه وَالْأُخْرَى عِنْد رِجْلَيْهِ ))

فَيَحْتَمِل أَنْ تَكُون هَذِهِ قِصَّة ثَالِثَة

 

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :

(( مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ مَكَّةَ أَوْ الْمَدِينَةِ سَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ ، ثُمَّ قَالَ : بَلَى كَانَ أَحَدُهُمَا لا يَسْتَبْرِئُ مِنْ بَوْلِهِ ، وَكَانَ الآخَرُ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ، ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ فَكَسَرَهَا كِسْرَتَيْنِ فَوَضَعَ عَلَى كُلِّ قَبْرٍ مِنْهُمَا كِسْرَةً ، فَقِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا ؟ قَالَ : لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا أَوْ إِلَى أَنْ يَيْبَسَا ))

قَوْله : ( وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِير . ثُمَّ قَالَ : بَلَى ) أَيْ : إِنَّهُ لَكَبِير . وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الأَدَب مِنْ طَرِيق عَبْد بْن حُمَيْدٍ عَنْ مَنْصُور فَقَالَ " وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِير . وَإِنَّهُ لَكَبِير "

وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْله " وَإِنَّهُ لَكَبِير " :

فَقَالَ أَبُو عَبْد الْمَلِك الْبَوْنِيّ : يَحْتَمِل أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ غَيْر كَبِير , فَأُوحِيَ إِلَيْهِ فِي الْحَال بِأَنَّهُ كَبِير , فَاسْتَدْرَكَ . وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِم أَنْ يَكُون نَسْخًا وَالنَّسْخ لا يَدْخُل الْخَبَر . وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْحُكْم بِالْخَبَرِ يَجُوز نَسْخه فَقَوْله " وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِير " إِخْبَار بِالْحُكْمِ , فَإِذَا أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَبِير فَأَخْبَرَ بِهِ كَانَ نَسْخًا لِذَلِكَ الْحُكْم .

وَقِيلَ : يَحْتَمِل أَنَّ الضَّمِير فِي قَوْله " وَأَنَّهُ " يَعُود عَلَى الْعَذَاب , لِمَا وَرَدَ فِي صَحِيح اِبْن حِبَّان مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة " يُعَذَّبَانِ عَذَابًا شَدِيدًا فِي ذَنْب هَيِّن " .

وَقِيلَ الضَّمِير يَعُود عَلَى أَحَد الذَّنْبَيْنِ وَهُوَ النَّمِيمَة لأَنَّهَا مِنْ الْكَبَائِر بِخِلافِ كَشْف الْعَوْرَة , وَهَذَا مَعَ ضَعْفه غَيْر مُسْتَقِيم لأَنَّ الاسْتِتَار الْمَنْفِيّ لَيْسَ الْمُرَاد بِهِ كَشْف الْعَوْرَة فَقَطْ .

وَقَالَ الدَّاوُدِيّ وَابْن الْعَرَبِيّ : " كَبِير " الْمَنْفِيّ بِمَعْنَى أَكْبَر , وَالْمُثْبَت وَاحِد الْكَبَائِر , أَيْ : لَيْسَ ذَلِكَ بِأَكْبَر الْكَبَائِر كَالْقَتْلِ مَثَلاً , وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا فِي الْجُمْلَة .

وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَيْسَ بِكَبِيرٍ فِي الصُّورَة لأَنَّ تَعَاطِيَ ذَلِكَ يَدُلّ عَلَى الدَّنَاءَة وَالْحَقَارَة , وَهُوَ كَبِير الذَّنْب .

وَقِيلَ : لَيْسَ بِكَبِيرٍ فِي اِعْتِقَادهمَا أَوْ فِي اِعْتِقَاد الْمُخَاطَبِينَ وَهُوَ عِنْد اللَّه كَبِير كَقَوْلِهِ تَعَالَى (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْد اللَّه عَظِيم)

وَقِيلَ : لَيْسَ بِكَبِيرٍ فِي مَشَقَّة الاحْتِرَاز , أَيْ : كَانَ لا يَشُقّ عَلَيْهِمَا الاحْتِرَاز مِنْ ذَلِكَ . وَهَذَا الأَخِير جَزَمَ بِهِ الْبَغَوِيُّ وَغَيْره وَرَجَّحَهُ اِبْن دَقِيق الْعِيد وَجَمَاعَة

وَقِيلَ : لَيْسَ بِكَبِيرٍ بِمُجَرَّدِهِ وَإِنَّمَا صَارَ كَبِيرًا بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهِ , وَيُرْشِد إِلَى ذَلِكَ السِّيَاق فَإِنَّهُ وَصَفَ كُلاَّ مِنْهُمَا بِمَا يَدُلّ عَلَى تَجَدُّد ذَلِكَ مِنْهُ وَاسْتِمْرَاره عَلَيْهِ لِلإِتْيَانِ بِصِيغَةِ الْمُضَارَعَة بَعْد حَرْف كَانَ . وَاَللَّه أَعْلَم .

قَوْله : ( لا يَسْتَتِر ) وَفِي رِوَايَة " يَسْتَبْرِئ " مِنْ الاسْتِبْرَاء . وأخرى " يَسْتَنْزِه " ومَعْنَى الاسْتِتَار أَنَّهُ لا يَجْعَل بَيْنه وَبَيْن بَوْله سُتْرَة يَعْنِي لا يَتَحَفَّظ مِنْهُ , فَتُوَافِق رِوَايَة لا يَسْتَنْزِه لأَنَّهَا مِنْ التَّنَزُّه وَهُوَ الإِبْعَاد , وَقَدْ وَقَعَ عِنْد أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَج " كَانَ لا يَتَوَقَّى " وَهِيَ مُفَسِّرَة لِلْمُرَادِ .

وَسِيَاق الْحَدِيث يَدُلّ عَلَى أَنَّ لِلْبَوْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَذَاب الْقَبْر خُصُوصِيَّة , يُشِير إِلَى مَا صَحَّحَهُ اِبْن خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة مَرْفُوعًا " أَكْثَر عَذَاب الْقَبْر مِنْ الْبَوْل " أَيْ : بِسَبَبِ تَرْك التَّحَرُّز مِنْهُ .

قَوْله : ( يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ) قَالَ النَّوَوِيّ : وَهِيَ نَقْل كَلام الْغَيْر بِقَصْدِ الإِضْرَار , وَهِيَ مِنْ أَقْبَح الْقَبَائِح .

( ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ ) هِيَ الْجَرِيدَة الَّتِي لَمْ يَنْبُت فِيهَا خُوص , فَإِنْ نَبَتَ فَهِيَ السَّعَفَة . وَقِيلَ : إِنَّهُ خَصَّ الْجَرِيد بِذَلِكَ لأَنَّهُ بَطِيء الْجَفَاف .

قَوْله : ( مَا لَمْ تَيْبَسَا ) أَيْ : الْعُودَانِ , قَالَ الْمَازِرِيّ : يَحْتَمِل أَنْ يَكُون أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّ الْعَذَاب يُخَفَّف عَنْهُمَا هَذِهِ الْمُدَّة . اِنْتَهَى . وَعَلَى هَذَا فَلَعَلَّ هُنَا لِلتَّعْلِيلِ , قَالَ : وَلا يَظْهَر لَهُ وَجْه غَيْر هَذَا . وَتَعَقَّبَهُ الْقُرْطُبِيّ بِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَ الْوَحْي لَمَا أَتَى بِحَرْفِ التَّرَجِّي , كَذَا قَالَ . وَلا يَرِد عَلَيْهِ ذَلِكَ إِذَا حَمَلْنَاهَا عَلَى التَّعْلِيل

قَالَ الْقُرْطُبِيّ : وَقِيلَ إِنَّهُ شَفَعَ لَهُمَا هَذِهِ الْمُدَّة كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي حَدِيث جَابِر ; لِأَنَّ الظَّاهِر أَنَّ الْقِصَّة وَاحِدَة . وَكَذَا رَجَّحَ النَّوَوِيّ كَوْن الْقِصَّة وَاحِدَة , وَفِيهِ نَظَر لِمَا أَوْضَحْنَا مِنْ الْمُغَايَرَة بَيْنهمَا .

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : هُوَ مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ دَعَا لَهُمَا بِالتَّخْفِيفِ مُدَّة بَقَاء النَّدَاوَة , لا أَنَّ فِي الْجَرِيدَة مَعْنًى يَخُصّهُ , وَلا أَنَّ فِي الرَّطْب مَعْنًى لَيْسَ فِي الْيَابِس .

وَقَدْ اِسْتَنْكَرَ الْخَطَّابِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ وَضْعَ النَّاس الْجَرِيد وَنَحْوه فِي الْقَبْر عَمَلاً بِهَذَا الْحَدِيث .

قَالَ الطُّرْطُوشِيّ : لأَنَّ ذَلِكَ خَاصّ بِبَرَكَةِ يَده .

قال ابن القيم :

فقد أخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الرجلين الذين رآهما يعذبان في قبورهما ، يمشى أحدهما بالنميمة بين الناس ، ويترك الآخر الاستبراء من البول ، فهذا ترك الطهارة الواجبة ، وذلك ارتكب السبب الموقع للعداوة بين الناس بلسانه وإن كان صادقا ..

وفي هذا تنبيه على أن الموقع بينهم العداوة بالكذب والزور والبهتان أعظم عذابا ..

كما أن في ترك الاستبراء من البول تنبيها على أن من ترك الصلاة التي الاستبراء من البول بعض واجباتها وشروطها فهو أشد عذابا ، وفي حديث شعبة : ( أما أحدهما فكان يأكل لحوم الناس ) فهذا مغتاب ، وذلك نمام .

 

الصلاة بغير وضوء .. وعدم نصرة المظلوم :

 

عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :

(( أُمِرَ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ أَنْ يُضْرَبَ فِي قَبْرِهِ مِائَةَ جَلْدَةٍ فَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلُ وَيَدْعُو حَتَّى صَارَتْ جَلْدَةً وَاحِدَةً ، فَجُلِدَ جَلْدَةً وَاحِدَةً ، فَامْتَلأَ قَبْرُهُ عَلَيْهِ نَارًا فَلَمَّا ارْتَفَعَ عَنْهُ قَالَ : عَلاَمَ جَلَدْتُمُونِي ؟ قَالُوا : إنَّك صَلَّيْت صَلاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ ، وَمَرَرْت عَلَى مَظْلُومٍ فَلَمْ تَنْصُرْهُ ))

 

 

الوقوع في أعراض الناس :

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ ، فَقُلْتُ : مَنْ هَؤُلاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ : هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ ))

وفي حديث ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :

(( قَالَ : فَنَظَرَ فِي النَّارِ فَإِذَا قَوْمٌ يَأْكُلُونَ الْجِيَفَ ، فَقَالَ : مَنْ هَؤُلاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ : هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ ؛ وَرَأَى رَجُلاً أَحْمَرَ أَزْرَقَ جَعْدًا شَعِثًا إِذَا رَأَيْتَهُ ، قَالَ : مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ : هَذَا عَاقِرُ النَّاقَةِ ))

 

نهي الناس عن المعروف :

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب خيرية هذه الأمة ، وهو من العبادات التي يتقرب بها المؤمنون إلى الله تعالى

وعلى العكس يكون حال المنافقين فهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ، وهؤلاء يعذبون في قبورهم

فهم إذا رأوا الناس يقومون بطاعة أو عبادة نهوهم عن ذلك ، فلا هم يأمرون بالخير ولا يتركون الناس يفعلونه .. فجزاهم الله على عملهم بكونهم من المعذبين في القبور غير ما ينالهم في الآخرة .

عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ حَسَنَةَ قَالَ :

خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي يَدِهِ كَهَيْئَةِ الدَّرَقَةِ فَوَضَعَهَا ثُمَّ جَلَسَ خَلْفَهَا فَبَالَ إِلَيْهَا فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ انْظُرُوا يَبُولُ كَمَا تَبُولُ الْمَرْأَةُ فَسَمِعَهُ فَقَالَ :

(( أَوَ مَا عَلِمْتَ مَا أَصَابَ صَاحِبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا إِذَا أَصَابَهُمْ شَيْءٌ مِنْ الْبَوْلِ قَرَضُوهُ بِالْمَقَارِيضِ ، فَنَهَاهُمْ صَاحِبُهُمْ فَعُذِّبَ فِي قَبْرِهِ ))

 

ومن أسباب عذاب القبر :

هجر القرآن ـ النوم عن الصلاة المكتوبة ـ الكذب ـ الزنا ـ أكل الربا

وهذا حديث جليل فيه رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم لمجموعة من العصاة ، ورؤيته عذابهم في البرزخ

عن علي بن أبي طالب قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

((مررتُ ليلةَ أُسري بي فإذا قومٌ تُضرَبُ رءوسُهم بالصَّخرِ ، فقلتُ : يا جبريلُ من هؤلاء ؟ فقال : يا محمَّدُ من أمَّتِك ، قلتُ : وما حالُهم ؟ قال : كانوا ينامون عن العشاءِ الآخرةِ ))

عن سَمُرَة بْنُ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :

(( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ لِأَصْحَابِهِ هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رُؤْيَا ، فَيَقُصُّ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُصَّ ، وَإِنَّهُ قَالَ ذَاتَ غَدَاةٍ :

إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي وَإِنَّهُمَا قَالَا لِي : انْطَلِقْ ، وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا وَإِنَّا أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ وَإِذَا هُوَ يَهْوِي بِالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ فَيَثْلَغُ رَأْسَهُ فَيَتَهَدْهَدُ الْحَجَرُ هَا هُنَا فَيَتْبَعُ الْحَجَرَ فَيَأْخُذُهُ فَلَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ حَتَّى يَصِحَّ رَأْسُهُ كَمَا كَانَ ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الْأُولَى .

قُلْتُ لَهُمَا : سُبْحَانَ اللَّهِ مَا هَذَانِ ؟

قَالَا لِي : انْطَلِقْ ، انْطَلِقْ .

قَالَ : فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ وَإِذَا هُوَ يَأْتِي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ فَيَشُقُّ ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الْأَوَّلِ فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الْجَانِبُ كَمَا كَانَ ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الْأُولَى .

قُلْتُ : سُبْحَانَ اللَّهِ مَا هَذَانِ ؟

قَالَا لِي : انْطَلِقْ ، انْطَلِقْ .

فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى مِثْلِ التَّنُّورِ ، فَإِذَا فِيهِ لَغَطٌ وَأَصْوَاتٌ ، فَاطَّلَعْنَا فِيهِ فَإِذَا فِيهِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ وَإِذَا هُمْ يَأْتِيهِمْ لَهَبٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ ، فَإِذَا أَتَاهُمْ ذَلِكَ اللَّهَبُ ضَوْضَوْا .

قُلْتُ لَهُمَا : مَا هَؤُلَاءِ ؟

قَالَا لِي : انْطَلِقْ ، انْطَلِقْ

فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ أَحْمَرَ مِثْلِ الدَّمِ ، وَإِذَا فِي النَّهَرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً ، وَإِذَا ذَلِكَ السَّابِحُ يَسْبَحُ مَا يَسْبَحُ ثُمَّ يَأْتِي ذَلِكَ الَّذِي قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ الْحِجَارَةَ ، فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ فَيُلْقِمُهُ حَجَرًا ، فَيَنْطَلِقُ يَسْبَحُ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ ، كُلَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ فَغَرَ لَهُ فَاهُ ، فَأَلْقَمَهُ حَجَرًا .

قُلْتُ لَهُمَا : مَا هَذَانِ ؟

قَالَا لِي : انْطَلِقْ ، انْطَلِقْ .

فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ كَرِيهِ الْمَرْآةِ كَأَكْرَهِ مَا أَنْتَ رَاءٍ رَجُلًا مَرْآةً وَإِذَا عِنْدَهُ نَارٌ يَحُشُّهَا وَيَسْعَى حَوْلَهَا قَالَ قُلْتُ لَهُمَا مَا هَذَا قَالَ قَالَا لِي انْطَلِقْ انْطَلِقْ

وفي نهاية الحديث :

قُلْتُ لَهُمَا : فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مُنْذُ اللَّيْلَةِ عَجَبًا فَمَا هَذَا الَّذِي رَأَيْتُ ؟

قَالَا لِي : أَمَا إِنَّا سَنُخْبِرُكَ :

أَمَّا الرَّجُلُ الْأَوَّلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ وَيَنَامُ عَنْ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ .

وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ وَمَنْخِرُهُ إِلَى قَفَاهُ وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ فَيَكْذِبُ الْكَذْبَةَ تَبْلُغُ الْآفَاقَ

وَأَمَّا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ الْعُرَاةُ الَّذِينَ فِي مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ فَإِنَّهُمْ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي

وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يَسْبَحُ فِي النَّهَرِ وَيُلْقَمُ الْحَجَرَ فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا

وَأَمَّا الرَّجُلُ الْكَرِيهُ الْمَرْآةِ الَّذِي عِنْدَ النَّارِ ، يَحُشُّهَا وَيَسْعَى حَوْلَهَا ، فَإِنَّهُ مَالِكٌ خَازِنُ جَهَنَّمَ ))

فهذا الذي يأخذ القرآن وينام عن الصلاة ففعل به ذلك ، فكيف يمن يحاربون القرآن وينبذونه ولا يحكمونه ، بل يعادون كل من يطالب بتطبيقه وبتحكيمه

وهؤلاء الزواني فكيف بمن يعملون عمل قوم لوط ويستحلونه ويقيمون له حفلات الزواج المثلي ويشيعون الفاحشة في الناس ؟!

وهذا حال آكل الربا فكيف بمن يشرعون له الحماية والقوانين ويستحلونه ويمارسونه في جميع المؤسسات والشركات

 

رؤيا أخرى فيها أصناف من المعذبين :

المفطرون في رمضان ـ الممتنعة عن إرضاع ولدها

بالإضافة إلى حديث سمرة الماضي ، معنا حديث أبي أمامة وفيه بعض الأصناف السابقة المذكورة وفيه زيادة

فحديث أبي أمامة يذكر : الذين يفطرون في رمضان قبل حلول ساعة الإفطار ، والزناة والزواني ، والمرأة التي تمتنع عن إرضاع ولدها ، والذين يقولون ما لا يفعلون من النساء والرجال ، والكاذبون الذين يزعمون أنهم رأوا شيئًا بأعينهم أو سمعوا شيئًا بآذانهم وهو كاذبون في ذلك .

كما أن في حديث أبي أمامة أنواع أخرى من العذاب تقع عليهم غير التي في حديث سمرة ، مما يعني وقوع أنواع عديدة مختلفة من العذاب على أصحاب هذه المعاصي .

وهذه الأصناف المذكورة من العصاة ، هم من هذه الأمة الذين يعذبون في قبورهم بسبب معاصيهم .

أما من مات كافرًا فقد رآهم النبي صلى الله عليه وسلم كلهم في النار .

عن أبي أمامة الباهلي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

(( بينا أنا نائم ، إذ أتاني رجلان ، فأخذا بضبعي ، فأتيا بي جبلاً وعرًا ، فقالا لي : اصعد . فقلت : إني لا أطيق . فقالا : إنا سنسهله لك ، فصعدت حتى كنت في سواء الجبل ، إذا أنا بأصوات شديدة .

قلت : ما هذه الأصوات ؟

قالوا : هذا هو عواء أهل النار

ثم انطلق بي ، فإذا بقوم معلقين بعراقيبهم ، مشققة أشداقهم ، تسيل أشداقهم دماً ، فقلت : ما هؤلاء ؟

قال : هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلة صومهم

ثم انطلقا بي ، فإذا بقوم أشد شيء انتفاخًا ، وأنتنه ريحًا ، وأسوئه منظرًا ، فقلت : من هؤلاء ؟

قال : هؤلاء الزانون والزواني .

ثم انطلق بي ، فإذا أنا بنساء تنهش ثديهن الحيات ، فقلت : ما بال هؤلاء ؟

فقال : هؤلاء اللواتي يمنعن أولادهن ألبانهن .. ))

الضبع : العضد

الوعر : الصعب ، والصلب

الشَّدْق : جانب الفم مما تحت الخد

وقوله قبل تحلة صومهم معناه يفطرون قبل وقت الإفطار

وعن أَبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ قَالَ :

خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بَعْدَ صَلاةِ الصُّبْحِ، فَقَالَ:"إِنِّي رَأَيْتُ رُؤْيَا هِي حَقٌّ فَاعْقِلُوهَا، أَتَانِي رَجُلٌ فَأَخَذَ بِيَدِي، فَاسْتَتْبَعَنِي حَتَّى أتَى بِي جَبَلا وَعْرًا طَوِيلا، فَقَالَ لِي: ارْقَهْ، فَقُلْتُ: إِنِّي لا أَسْتَطِيعُ، فَقَالَ: إِنِّي سَأُسَهِّلُهُ لَكَ، فَجَعَلْتُ كُلَّمَا رَقَيْتُ قَدَمِي وَضَعْتُهَا عَلَى دَرَجَةٍ حَتَّى اسْتَوَيْنَا عَلَى سَوَاءِ الْجَبَلِ فَانْطَلَقْنَا .

فَإِذَا نَحْنُ بِرِجَالٍ وَنِسَاءٍ مُشَقَّقَةٌ أَشْدَاقُهُمْ ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاءِ ؟

قَالَ: هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لا يَعْلَمُونَ .

ثُمَّ انْطَلَقْنَا، فَإِذَا نَحْنُ بِرِجَالٍ وَنِسَاءٍ مُسَمَّرَةٌ أَعْيُنُهُمْ وآذَانُهُمْ، فَقُلْتُ: مَا هَؤُلاءِ؟

قَالَ: هَؤُلاءِ الَّذِينَ يُرُونَ أَعْيُنَهُمْ مَا لا يَرَوْنَ، وَيُسْمِعُونَ آذَانَهُمْ مَا لا يَسْمَعُونَ.

ثُمَّ انْطَلَقْنَا، فَإِذَا نَحْنُ بنسَاءٍ مُعَلَّقَاتٍ بِعَرَاقِيبِهِنَّ، مُصَوَّبَةٌ رُءُوسُهُنَّ، تَنْهَشُ ثَدَاهُنَّ الْحَيَّاتُ ، قُلْتُ: مَا هَؤُلاءِ؟

قَالَ: هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَمْنَعُونَ أَوْلادَهُنَّ مِنْ أَلْبَانِهِنَّ

ثُمَّ انْطَلَقْنَا، فَإِذَا نَحْنُ بِرِجَالٍ وَنِسَاءٍ مُعَلَّقَاتٍ بِعَرَاقِيبِهِنَّ مُصَوَّبَةٌ رُءُوسُهُنَّ يَلْحَسْنَ مِنْ مَاءٍ قَلِيلٍ وَحَمَا، فَقُلْتُ: مَا هَؤُلاءِ ؟

قَالَ : هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُفْطِرُونَ قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ

ثُمَّ انْطَلَقْنَا فَإِذَا نَحْنُ بِرِجَالٍ وَنِسَاءٍ أَقْبَحِ شَيْءٍ مَنْظَرًا، وَأَقْبَحِهِ لُبُوسًا، وَأَنْتَنِهِ رِيحًا كَأَنَّمَا رِيحُهُمُ الْمَرَاحِيضُ، قُلْتُ: مَا هَؤُلاءِ ؟

قَالَ: هَؤُلاءِ الزَّانُونَ وَالزُّنَاةُ

ثُمَّ انْطَلَقْنَا فَإِذَا نَحْنُ بِمَوْتَى أَشَدِّ شَيْءٍ انْتِفَاخًا، وَأَنْتَنِهِ رِيحًا، قُلْتُ: مَا هَؤُلاءِ ؟

قَالَ : هَؤُلاءِ مَوْتَى الْكُفَّارِ

ثُمَّ انْطَلَقْنَا وَإِذَا نَحْنُ نَرَى دُخَانًا، وَنَسْمَعُ عُوَاءً ، قُلْتُ: مَا هَذَا ؟

قَالَ : هَذِهِ جَهَنَّمُ ، فَدَعْهَا ))

قوله (وحما) يعني الماء الحميم المغلي المنتهي في الغليان ، فكما استعجلوا الفطر في الدنيا سقاهم الله من الحميم في الآخرة .

 

خطباء الأمة الذين يقولون ما لا يفعلون

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ ، قُلْتُ : مَنْ هَؤُلاءِ ؟ قَالُوا : خُطَبَاءُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا يَعْقِلُونَ ))

 

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( أتيتُ على سماءِ الدنيا ليلةَ أُسرِيَ بي فرأيتُ فيها رجالاً تُقطَّعُ ألسنتُهم وشفاهُهم بمَقاريضَ من نارٍ فقلتُ : يا جبريلُ ما هؤلاءِ ؟ قال : هؤلاءِ خُطباءٌ من أمَّتِك ))

 

وعَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ ، قُلْتُ : مَا هَؤُلاءِ ، قَالَ : هَؤُلاءِ خُطَبَاءُ أُمَّتِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا يَعْقِلُونَ ))

إذا كان هذا يتم فعله في الذين يقولون الحق ولكنهم لا يفعلونه ، فكيف بمن يقول الكذب ويفترى على دين الله ، ما ليس منه ، ومن يكذبون على الله وعلى رسوله ويضلون الناس ، وكيف بمن يكذبون ليدخلون الناس في طاعة الطواغيت وطاعة اليهود والنصارى ؟!!

قال ابن القيم في أسباب عذاب القبر

وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه في الذي ضُرب سوطا امتلأ القبر عليه به ناراً ، لكونه صلى صلاة واحدة بغير طهور ، ومر على مظلوم فلم ينصره .

وفي حديث سمرة في صحيح البخاري في تعذيب من يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق ..

وتعذيب من يقرأ القرآن ثم ينام عنه بالليل ولا يعمل به بالنهار ..

وتعذيب الزناة والزواني ..

وتعذيب آكل الربا كما شاهدهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في البرزخ .

وفي حديث أبى هريرة رضي الله عنه الذي فيه رضخ رؤوس أقوام بالصخر لتثاقل رؤوسهم عن الصلاة ..

والذين يسرحون بين الضريع والزقوم لتركهم زكاة أموالهم ..

والذين يأكلون اللحم المنتن الخبيث لزناهم ..

والذين تقرض شفاههم بمقاريض من حديد لقيامهم في الفتن بالكلام والخطب ..

وفي حديث أبى سعيد عقوبة أرباب تلك الجرائم ، فمنهم من بطونهم أمثال البيوت وهم أكلة الربا ..

ومنهم من تفتح أفواههم فيلقمون الجمر حتى يخرج من أسافلهم وهم أكلة أموال اليتامى ..

ومنهم المعلقات بثديهن وهن الزوانى .

ومنهم من تقطع جنوبهم ويطعمون لحومهم وهم المغتابون ..

ومنهم من لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم وهم الذين يقعون في أعراض الناس ..

وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن صاحب الشملة التي غلها من المغنم أنها تشتعل ناراً في قبره ، هذا وله فيها حق ، فكيف بمن ظلم غيره ما لا حق له فيه .

فعذاب القبر عن معاصي القلب والعين والأذن والفم واللسان والبطن والفرج واليد والرجل والبدن كله :

فالنمام والكذاب والمغتاب وشاهد الزور وقاذف المحصن والموضع في الفتنة والداعي إلى البدعة والقائل على الله ورسوله ما لا علم له به والمجازف في كلامه .

وآكل الربا وآكل أموال اليتامى وآكل السحت من الرشوة ونحوها .

وآكل مال أخيه المسلم بغير حق أو مال المعاهد وشارب المسكر .

والزاني واللوطي والسارق والخائن والغادر والمخادع والماكر .

وآخذ الربا ومعطيه وكاتبه وشاهداه ، والمحلل والمحلل له والمحتال على إسقاط فرائض الله وارتكاب محارمه .

ومؤذي المسلمين ومتتبع عوراتهم .

والحاكم بغير ما أنزل الله والمفتي بغير ما شرعه الله والمعين على الإثم والعدوان .

وقاتل النفس التي حرم الله ، والملحد في حَرَم الله ، والمعطل لحقائق أسماء الله وصفاته الملحد فيها ..

والمقدم رأيه وذوقه وسياسته على سنة رسول الله .

والنائحة والمستمع إليها ، ونواحو جهنم وهم المغنون الغناء الذي حرمه الله ورسوله والمستمع إليهم .. والذين يبنون المساجد على القبور ويوقدون عليها القناديل والسرج ، والمطففون في استيفاء ما لهم إذا أخذوه وهضم ما عليهم إذا بذلوه .

والجبارون والمتكبرون والمراءون والهمازون واللمازون والطاعنون على السلف .

والذين يأتون الكهنة والمنجمين والعرافين فيسألونهم ويصدقونهم .

وأعوان الظلمة الذين قد باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم .

والذي إذا خوفته بالله وذكرته به لم يرعو ولم ينزجر , فإذا خوفته بمخلوق مثله خاف وارعوى وكف عما هو فيه .

والذى يُهدَى بكلام الله ورسوله فلا يهتدي ولا يرفع به رأسا , فإذا بلغه عمن يحسن به الظن ممن يصيب ويخطئ عض عليه بالنواجذ ولم يخالفه .

والذي يقرأ عليه القرآن فلا يؤثر فيه وربما استثقل به فإذا سمع قرآن الشيطان ورقية الزنا ومادة النفاق طاب سره وتواجد وهاج من قلبه دواعي الطرب وود أن المغنى لا يسكت .

والذي يحلف بالله ويكذب فإذا حلف بشيخه أو قريبه أو حياة من يحبه ويعظمه من المخلوقين لم يكذب ولو هدد وعوقب .

والذي يفتخر بالمعصية ويتكثر بها بين إخوانه وأضرابه وهو المجاهر .

والذي لا تأمنه على مالك وحرمتك , والفاحش اللسان البذيء الذي تركه الخلق اتقاء شره وفحشه .

والذي يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها وينقرها ولا يذكر الله فيها إلا قليلا , ولا يؤدى زكاة ماله طيبة بها نفسه , ولا يحج مع قدرته على الحج ولا يؤدى ما عليه من الحقوق مع قدرته عليها .

والذي لا يتورع في نظره ولا لفظه ولا أكله ولا خطوه ولا يبالي بما حصل من المال من حلال أو حرام .

ولا يصل رحمه ولا يرحم المسكين ولا الأرملة ولا اليتيم ولا الحيوان البهيم , بل يَدُعُّ اليتيم ، ولا يحض على طعام المسكين ، ويرائي للعالمين ، ويمنع الماعون ، ويشتغل بعيوب الناس عن عيبه , وبذنوبهم عن ذنبه .

فكل هؤلاء وأمثالهم يعذبون في قبورهم بهذه الجرائم بحسب كثرتها وقلتها وصغيرها وكبيرها  .. ولما كان أكثر الناس كذلك كان أكثر أصحاب القبور معذبين والفائز منهم قليل .

فظواهر القبور تراب وبواطنها حسرات وعذاب .. ظواهرها بالتراب والحجارة المنقوشة مبنيات .وفي باطنها الدواهى والبليات ، تغلى بالحسرات كما تغلي القدور بما فيها ، ويحق لها وقد حيل بينها وبين شهواتها وأمانيها .. تالله لقد وَعَظَت فما تركت لواعظ مقالا .ونادت : يا عمار الدنيا ، لقد عمرتم دارا موشكة بكم زوالا ، وخربتم دارا أنتم مسرعون إليها انتقالا .عمرتم بيوتا لغيركم منافعُها وسكناها ، وخربتم بيوتا ليس لكم مساكن سواها .هذه دار الاستباق ومستودع الأعمال وبذر الزرع ، وهذه محل للعبر ، رياض من رياض الجنة ، أو حفر من حفر النار .."

أسباب النجاة من عذاب القبر

 

أول أسباب النجاة من عذاب القبر :

هو تجنب ما سبق ذكره من المعاصي والذنوب التي تكون سببًا من أسباب العذاب في القبر ، فمن تجنب الذنوب والمعاصي وداوم على التوبة إذا وقع في أحدها وأتبع التوبة بالعمل الصالح فلا شك أنه يتجنب عذاب القبر وبلاياه .. وكان ذلك سببًا في نجاته وسلامته من أهوال الآخرة .

 

ثانيًا : الإيمان والاستقامة

أعظم سبيل للنجاة من عذاب القبر الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والتمسك بهدي الكتاب والسنة والاستقامة على طاعة الله جل وعلا

قال الله عز وجل : (( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا ، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ، وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ ، وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ، نُزُلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ))

وسبق معنا بالتفصيل كيفية احتضار أهل الإيمان ، وأن ملائكة الرحمة تتنزل عليهم بكفن من الجنة وبحنوط من حنوط الجنة ، وتبشرهم بالخير ، ولا يرى بعد ذلك إلا البشريات بالخير والجنة ويكون سعيدًا في قبره ويكون مآل روحه في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث تشاء إلى أن تقوم الساعة .. والكتاب والسنة أخبرا بكل هذه الأحوال الطيبة للمتقين الطيبين .. فمن أراد النجاة من عذاب القبر تمثل بأحوال الصالحين واقتدى بسيد الأنبياء والمرسلين .

 

ثالثًا : تجديد التوبة دومًا والمحافظة عليها ولزوم الاستغفار

قال ابن القيم : ومن أنفع أسباب تجنب عذاب القبر: أن يجلس الإنسان عندما يريد النوم لله ساعة يحاسب نفسه فيها على ما خسره وربحه في يومه، ثم يجدد له توبة نصوحاً بينه وبين الله، فينام على تلك التوبة ، ويعزم على ألا يعاود الذنب إذا استيقظ، ويفعل هذا كل ليلة، فإن مات من ليلته مات على توبة، وإن استيقظ استيقظ مستقبلاً للعمل مسروراً بتأخير أجله، حتى يستقبل ربه، ويستدرك ما فاته، وليس للعبد أنفع من هذه النومة، ولا سيما إذا عقب ذلك بذكر الله تعالى واستعمال السنن التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند النوم، حتى يغلبه النوم، فمن أراد الله به خيراً وفقه لذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

رابعًا : هناك بعض الأسباب الخاصة تمنع عذاب القبر وتكون سببًا لنجاة صاحبها نذكرها بالتفصيل :

من مات ببطنه وقاه الله عذاب القبر :

قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ لِخَالِدِ بْنِ عُرْفُطَةَ أَوْ خَالِدٌ لِسُلَيْمَانَ :

أَمَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (( مَنْ قَتَلَهُ بَطْنُهُ لَمْ يُعَذَّبْ فِي قَبْرِهِ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : نَعَمْ ))

( مَنْ قَتَلَهُ بَطْنُهُ ) أَيْ مَنْ مَاتَ مِنْ وَجَعِ بَطْنِهِ

( لَمْ يُعَذَّبْ فِي قَبْرِهِ ) لأَنَّهُ لِشِدَّتِهِ كَانَ كَفَّارَةً لِسَيِّئَتِهِ .

والمقتول بسبب مرض بطنه يُسمّى المبطون كما جاء في بعض الروايات، وقد بشّر صاحبه بالشهادة، وليس في السنّة تحديدٌ لماهيّة المرض أو نوعه فاحتُمل عمومه.

وهذا الفضل العظيم منحةٌ إلهيّة تُقابل الشدّة التي يلاقيها من ألمّ به ذلك المرض فكان كفّارةً لسيّئاته وأماناً له في قبره، والمرجوّ أن تكون كذلك سبباً في نجاته من عذاب الآخرة

يقول الإمام المناوي: "  وإذا لم يعذب في قبره ، لم يعذب في غيره ، لأنه أول منازل الآخرة فإن كان سهلاً فما بعده أسهل".

سورة تبارك :

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال :

(( يؤتى الرجل في قبره فتؤتى رجلاه فتقول ليس لكم على ما قبلي سبيل كان يقرأ سورة الملك ، ثم يؤتى من قبل صدره أو قال بطنه فيقول ليس لكم على ما قبلي سبيل كان يقرأ في سورة الملك ، ثم يؤتى من قبل رأسه فيقول ليس لكم على ما قبلي سبيل كان يقرأ في سورة الملك ، فهي المانعة تمنع عذاب القبر ، وهي في التوراة سورة الملك من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب ))

 

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

(( إن سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي تبارك الذي بيده الملك ))

 

الموت يوم أو ليلة الجمعة :

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ إِلا وَقَاهُ اللَّهُ فِتْنَةَ الْقَبْرِ ))

 

 

من مات مرابطا في سبيل الله

عن أبي أمامة عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( من مات مرابطا في سبيل الله أمنه الله من فتنة القبر ))

 

وعن فَضَالَة بْنَ عُبَيْدٍ : عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :

(( كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلا الَّذِي مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يُنْمَى لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَأْمَنُ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ ))

وفي رواية :

(( كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ ، إِلاَّ الْمُرَابِطَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، يَجْرِي عَلَيْهِ أَجْرُهُ حَتَّى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَيُوقَى فِتْنَةَ الْقَبْرِ ))

وفي رواية :

(( كُلُّ الْمَيِّتِ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ ، إِلاَّ الْمُرَابِطَ ، فَإِنَّهُ يَنْمُو لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَيُؤَمَّنُ مِنْ فَتَّانِ الْقَبْرِ ))

 

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا وُقِيَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ ، وَأُومِنَ مِنْ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ ، وَغُدِيَ عَلَيْهِ وَرِيحَ بِرِزْقِهِ مِنْ الْجَنَّةِ وَكُتِبَ لَهُ أَجْرُ الْمُرَابِطِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ )) وفي رواية : (( مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَجْرَى عَلَيْهِ أَجْرَ عَمَلِهِ الصَّالِحِ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ ، وَأَجْرَى عَلَيْهِ رِزْقَهُ ، وَأَمِنَ مِنْ الْفَتَّانِ ، وَبَعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آمِنًا مِنْ الْفَزَعِ ))

 

عَنْ سَلْمَانَ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

(( رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ ))

 

المحافظة على الأعمال الصالحة وقاية من عذاب القبر :

ومن أسباب النجاة من عذاب القبر المداومة على الأعمال الصالحة من الصلاة والصيام والصدقة والحج وحضور مجالس العلم والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وبر الوالدين وصلة الأرحام .. وغير ذلك من الفرائض والواجبات بل والمستحبات فكل عمل صالح يأتي يدافع عن صاحبه في قبره

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((إن الميت إذا وضع في قبره ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عَنْهُ مدبرين .

فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَانَتِ الصَّلاةُ عِنْدَ رَأْسِهِ ، وَالزَّكَاةُ عَنْ يَمِينِهِ ، وَالصَّوْمُ عَنْ شِمَالِهِ ، وَفِعْلُ الْخَيْرَاتِ وَالْمَعْرُوفُ وَالإِحْسَانُ إِلَى النَّاسِ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ .

فَيُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ ، فَتَقُولُ الصَّلاةُ : لَيْسَ قِبَلِي مَدْخَلٌ .

فَيُؤْتَى عَنْ يَمِينِهِ ، فَتَقُولُ الزَّكَاةُ : لَيْسَ مِنْ قِبَلِي مَدْخَلٌ .

ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ شِمَالِهِ ، فَيَقُولُ الصَّوْمُ : لَيْسَ مِنْ قِبَلِي مَدْخَلٌ .

ثُمَّ يُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ ، فَيَقُولُ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ وَالْمَعْرُوفُ وَالإِحْسَانُ إِلَى النَّاسِ : لَيْسَ مِنْ قِبَلِي مَدْخَلٌ .

فَيُقَالُ لَهُ : اجْلِسْ ، فَيَجْلِسُ وَقَدْ مَثُلَتْ لَهُ الشَّمْسُ وقد دنت لِلْغُرُوبِ ، فَيُقَالَ لَهُ : مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ فِيكُمْ ؟ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فَيَقُولُ : أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ، فَصَدَّقْنَا وَاتَّبَعْنَا .

فَيُقَالُ لَهُ : صَدَقْتَ  وَعَلَى هَذَا حَيِيتَ ، وَعَلَى هَذَا مِتَّ ، وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : "يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ"

فَيُقَالُ : افْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ ، فَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ ، فَيُقَالُ: هَذَا كَانَ مَنْزِلَكَ لَوْ عَصَيْتَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ

فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا ، وَيُقَالُ لَهُ : افْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ ، فَيُفْتَحُ لَهُ ، فَيُقَالُ: هَذَا مَنْزِلُكَ ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ ، فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا ، فَيُعَادُ الْجِلْدُ إِلَى مَا بَدَأَ مِنْهُ ، وتُجْعَلُ رُوحُهُ فِي نَسَمِ طَيْرٍ تَعْلَقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ .

وفي رواية :

فيقال له : أرأيتك هذا الذي كان قبلكم ما تقول فيه وماذا تشهد عليه ؟

فيقول : دعوني حتى أصلي .

فيقولون : إنك ستفعل أخبرنا عما نسألك عنه ، أرأيتك هذا الرجل الذي كان قبلكم ماذا تقول فيه وماذا تشهد عليه ؟ .. ))

وقد مر معنا الحديث بتمامه .

 

وقد دل على ذلك أن تلك الأعمال من الصلاة والزكاة والصيام وفعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس من أسباب النجاة من عذاب القبر وكربه وفتنه.

والجامع في ذلك تحقيق التقوى لله تعالى، كما قال سبحانه((  إِنَّ الذينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ))

 

 

الصدقة :

ومضى معنا في الحديث السابق فضيلة الصدقة وأنها تأتي تدفع عن صاحبها عذاب القبر ، ولكن للصدقة بالذات مزية أخرى ، وفضيلة كبرى .. فهي تقي صاحبها من حر القبر ولهيبه وتدفعه عنه ، فالصدقة وقاية من حر القبر وحر يوم القيامة كما صح الحديث : أن المرء في ظل صدقته يوم القيامة .

عَنْ عُقْبَةَ بن عَامِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( إِنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِيءُ عَنْ أَهْلِهَا حَرَّ الْقُبُورِ، وَإِنَّمَا يَسْتَظِلُّ الْمُؤْمِنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظِلِّ صَدَقَتِه ))

 

الاستعاذة من عذاب القبر

ومن أسباب السلامة من عذاب القبر الاستعاذة بالله منه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من عذاب القبر في الصلاة وطرفي النهار، وكان يأمر أصحابه بذلك ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ»

وقد سبق فصل مستقل جملة من هذه الأحاديث ، وفيها الحث على الاستعاذة من عذاب القبر وفضل ذلك .

وهذا أمر شرعه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته .. ليكون سببًا من أسباب نجاتها من أهوال القبور ..

ومَن لجأ إلى الله سبحانه في طلب العوذ من عذاب القبر وعذاب النار؛ فقد أخذ بأعظم أسباب النجاة فإن من استعاذ بالله أعاذه، وأجاره وأكرم ملاذه.

 

 

كثرة المصلين على صلاة الجنازة تشفع للميت

بَينَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن كثرة المصلين على الجنازة ، تنفع الميت ، وتكون له شفاعة عند ربه ، يدفع بها عنه العذاب ، وتجلب له الرحمة والمغفرة والرضوان فإن الله تعالى إذا قَبِلَ الشفاعة في عبد غفر له وعفا عنه ونجاه من العذاب ، لذا ينبغي أن يحرص المسلمون على الصلاة على الموتى والدعاء لهم .

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( مَا مِنْ مَيِّتٍ تُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِائَةً كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ إِلا شُفِّعُوا فِيهِ ))

فمن صلى عليه مائة شفعوا فيه

عن مَيْمُونَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ أَخْبَرَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( مَا مِنْ مَيِّتٍ يُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنْ النَّاسِ إِلا شُفِّعُوا فِيهِ ))

وفسر أبو الْمَلِيحِ عَنْ الأُمَّةِ ؟ فَقَالَ : أَرْبَعُونَ

أبو المليح : التابعي الذي روى الحديث عن ميمونة .

 

كذلك إذا قام أربعون على جنازته :

وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

(( مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلاً لا يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلا شَفَّعَهُمْ اللَّهُ فِيهِ ))  .

 

 

أو صلى عليه ثلاثة صفوف :

عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيِّ قَالَ : كَانَ مَالِكُ بْنُ هُبَيْرَةَ إِذَا صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ فَتَقَالَّ النَّاسَ عَلَيْهَا جَزَّأَهُمْ ثَلاثَةَ أَجْزَاءٍ ثُمَّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ ثَلاثَةُ صُفُوفٍ فَقَدْ أَوْجَبَ ))  .

ولعل المقصود من الأحاديث هو تكثير العدد وتكثير الصفوف ، وليس المراد العدد بعينه .

قال النووي :

قَوْله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا مِنْ مَيِّت يُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّة مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِائَة كُلّهمْ يَشْفَعُونَ لَهُ إِلا شُفِّعُوا فِيهِ ) . وَفِي رِوَايَة : ( مَا مِنْ رَجُل مَيِّت فَيَقُوم عَلَى جِنَازَته أَرْبَعُونَ رَجُلاً لا يُشْرِكُونَ بِاَللَّهِ شَيْئًا إِلا شَفَّعَهُمْ اللَّه فِيهِ ) . وَفِي حَدِيث آخَر : " ثَلاثَة صُفُوف " , رَوَاهُ أَصْحَاب السُّنَن .

قَالَ الْقَاضِي : قِيلَ هَذِهِ الأَحَادِيث خَرَجَتْ أَجْوِبَة لِسَائِلِينَ سَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ , فَأَجَابَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ عَنْ سُؤَاله . هَذَا كَلام الْقَاضِي .

وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِقَبُولِ شَفَاعَة مِائَة فَأَخْبَرَ بِهِ , ثُمَّ بِقَبُولِ شَفَاعَة أَرْبَعِينَ , ثُمَّ ثَلاثَة صُفُوف وَإِنْ قَلَّ عَدَدهمْ , فَأَخْبَرَ بِهِ .

 

وَيَحْتَمِل أَيْضًا أَنْ يُقَال : هَذَا مَفْهُوم عَدَد , وَلا يَحْتَجّ بِهِ جَمَاهِير الأُصُولِيِّينَ فَلا يَلْزَم مِنْ الإِخْبَار عَنْ قَبُول شَفَاعَة مِائَة مَنْع قَبُول مَا دُون ذَلِكَ , وَكَذَا فِي الأَرْبَعِينَ مَعَ ثَلاثَة صُفُوف , وَحِينَئِذٍ كُلّ الأَحَادِيث مَعْمُول بِهَا وَيَحْصُل الشَّفَاعَة بِأَقَلِّ الأَمْرَيْنِ مِنْ ثَلاثَة صُفُوف وَأَرْبَعِينَ .ا.هـ

 

الدعاء للميت

ومن الأسباب التي يرجى أن تكون من المنجيات من عذاب القبر دعاء المؤمنين للميت ، وقد شرعت صلاة الجنازة للدعاء للميت وطلب الرحمة والمغفرة له ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، فقال:

(( استغفِروا لأخيكم، واسألوا لهُ التثبيتَ؛ فإنهُ الآنَ يُسأَلُ ))

وكان صلى الله عليه وسلم يأتي القبور ويسلم على أهلها ويدعو لهم وقال مرة :

((إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلاتِي عَلَيْهِمْ))

ففي الحديث أن الدعاء للموتى ينير قبورهم ويدفع عنهم ظلمتها .

وسيأتي المزيد من الكلام عن الدعاء للميت ، وفضله ، والسنة فيه في الجزء الثاني من الكتاب ( أحكام الجنائز ) بإذن الله تعالى .

 

حمد الله تعالى عند المرض :

وهذه سنة طيبة عظيمة الشأن ، ينبغي لكل مسلم أن يتعلمها وبعلمها لغيره ، وإذا زار مريضًا أن يعلمها إياه ، لما فيها من فضل وعظيم أجر ونجاة من النار ، وهذا الحديث حقيق أن يكتب بماء الذهب .

عن أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :

(( مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ ، صَدَّقَهُ رَبُّهُ فَقَالَ : لا إِلَهَ إِلا أَنَا وَأَنَا أَكْبَرُ ، وَإِذَا قَالَ : لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ ، قَالَ اللَّهُ : لا إِلَهَ إِلا أَنَا وَحْدِي ، وَإِذَا قَالَ : لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، قَالَ اللَّهُ : لا إِلَهَ إِلا أَنَا وَحْدِي لا شَرِيكَ لِي ، وَإِذَا قَالَ : لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ، قَالَ اللَّهُ : لا إِلَهَ إِلا أَنَا لِيَ الْمُلْكُ وَلِيَ الْحَمْدُ ، وَإِذَا قَالَ : لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ ، قَالَ : لا إِلَهَ إِلا أَنَا وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِي ؛ وَكَانَ يَقُولُ : مَنْ قَالَهَا فِي مَرَضِهِ ثُمَّ مَاتَ لَمْ تَطْعَمْهُ النَّارُ ))

 

عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ مَلَكَيْنِ فَقَالَ : انْظُرَا مَاذَا يَقُولُ لِعُوَّادِهِ ، فَإِنْ هُوَ إِذَا جَاءُوهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، رَفَعَا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ أَعْلَمُ فَيَقُولُ : لِعَبْدِي عَلَيَّ إِنْ تَوَفَّيْتُهُ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ، وَإِنْ أَنَا شَفَيْتُهُ أَنْ أُبْدِلَ لَهُ لَحْمًا خَيْرًا مِنْ لَحْمِهِ ، وَدَمًا خَيْرًا مِنْ دَمِهِ ، وَأَنْ أُكَفِّرَ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ ))

 

من مات شهيدًا وقاه الله عذاب القبر :

وفيما يلي نذكر أنواع الشهداء والذين يعمهم ذلك الفضل

1- شهيد الحرب :

عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( أَنَّ رَجُلاً قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَالُ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ إِلا الشَّهِيدَ ؟ قَالَ: كَفَى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ عَلَى رَأْسِهِ فِتْنَةً ))

 

2ـــــــــ كل من خرج في سبيل الله فمات بأي سبب كان فهو شهيد

قال اللَّهِ تَعَالَى (( وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ))

عن أبي مَالِكٍ الأَشْعَرِيَّ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

(( مَنْ فَصَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمَاتَ أَوْ قُتِلَ : فَهُوَ شَهِيدٌ ، أَوْ وَقَصَهُ فَرَسُهُ ، أَوْ بَعِيرُهُ ، أَوْ لَدَغَتْهُ هَامَّةٌ ، أَوْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ ، أَوْ بِأَيِّ حَتْفٍ شَاءَ اللَّهُ فَإِنَّهُ شَهِيدٌ ، وَإِنَّ لَهُ الْجَنَّةَ))

وعن عقبة بن عامر قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

(( مَنْ صُرِعَ عَنْ دَابَّته فِي سَبِيل اللَّه فَمَاتَ فَهُوَ شَهِيد ))  .

فكل من خرج للجهاد والغزو وحتى يرجع منه ، فمات بأي سبب من الأسباب ، فهو شهيد من شهداء الجهاد .

 

3ـــــــ من قام إلى سلطان جائر فأمره ونها فقتله : فهو شهيد

عَنْ جابر رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله))

 

4 ــــــــــ من سأل الله الشهادة بصدق أو أصابته الجراحة في سبيل الله

عن مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ

(( مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ فَوَاقَ نَاقَةٍ : وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ ، وَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ الْقَتْلَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ صَادِقًا ، ثُمَّ مَاتَ أَوْ قُتِلَ ، فَلَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ ، وَمَنْ جُرِحَ جُرْحًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أَوْ نُكِبَ نَكْبَةً ، فَإِنَّهَا تَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَغْزَرِ مَا كَانَتْ لَوْنُهَا كَالزَّعْفَرَانِ ، وَرِيحُهَا كَالْمِسْكِ ، وَمَنْ جُرِحَ جُرْحًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَعَلَيْهِ طَابَعُ الشُّهَدَاءِ))

وعن سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ ))

وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِهِ صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ أَعْطَاهُ اللَّهُ أَجْرَ الشَّهِيدِ ))

 

5ــــــــ المجاهد يموت بسيفه :

عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :

(( خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَيْبَرَ فَسِرْنَا لَيْلاً فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ لِعَامِرٍ : يَا عَامِرُ أَلا تُسْمِعُنَا مِنْ هُنَيْهَاتِكَ ، وَكَانَ عَامِرٌ رَجُلاً شَاعِرًا فَنَزَلَ يَحْدُو بِالْقَوْمِ يَقُولُ :

اللَّهُمَّ لَوْلا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا                وَلا تَصَدَّقْنَا وَلا صَلَّيْنَا

فَاغْفِرْ فِدَاءً لَكَ مَا أَبْقَيْنَا                وَثَبِّتْ الأَقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَا

وَأَلْقِيَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا                     إِنَّا إِذَا صِيحَ بِنَا أَبَيْنَا

وَبِالصِّيَاحِ عَوَّلُوا عَلَيْنَا

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ هَذَا السَّائِقُ ؟

قَالُوا : عَامِرُ بْنُ الأَكْوَعِ .

قَالَ : يَرْحَمُهُ اللَّهُ .

قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ : وَجَبَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، لَوْلا أَمْتَعْتَنَا بِهِ .

فَأَتَيْنَا خَيْبَرَ فَحَاصَرْنَاهُمْ ، حَتَّى أَصَابَتْنَا مَخْمَصَةٌ شَدِيدَةٌ ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَتَحَهَا عَلَيْهِمْ ، فَلَمَّا أَمْسَى النَّاسُ مَسَاءَ الْيَوْمِ الَّذِي فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ أَوْقَدُوا نِيرَانًا كَثِيرَةً .

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا هَذِهِ النِّيرَانُ ، عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تُوقِدُونَ ؟

قَالُوا : عَلَى لَحْمٍ .

قَالَ : عَلَى أَيِّ لَحْمٍ ؟

قَالُوا : لَحْمِ حُمُرِ الإِنْسِيَّةِ .

قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَهْرِيقُوهَا وَاكْسِرُوهَا ، فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ نُهَرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا ؟ قَالَ : أَوْ ذَاكَ .

فَلَمَّا تَصَافَّ الْقَوْمُ كَانَ سَيْفُ عَامِرٍ قَصِيرًا ، فَتَنَاوَلَ بِهِ سَاقَ يَهُودِيٍّ لِيَضْرِبَهُ ، وَيَرْجِعُ ذُبَابُ سَيْفِهِ فَأَصَابَ عَيْنَ رُكْبَةِ عَامِرٍ ، فَمَاتَ مِنْهُ .

قَالَ : فَلَمَّا قَفَلُوا ، قَالَ سَلَمَةُ رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِي ، قَالَ : مَا لَكَ ؟

قُلْتُ لَهُ : فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي زَعَمُوا أَنَّ عَامِرًا حَبِطَ عَمَلُهُ .

قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "كَذَبَ مَنْ قَالَهُ ، إِنَّ لَهُ لأَجْرَيْنِ وَجَمَعَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ إِنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ ، قَلَّ عَرَبِيٌّ مَشَى بِهَا مِثْلَهُ ))  .

 

6ـــــــــ ومن مات في الرباط في سبيل الله

عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

(( من مات مرابطًا ، مات شهيدًا ))

 

طائفة أخرى من الشهداء ولكنهم غير شهداء الحرب

قال النووي : وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّهِيد ثَلاثَة أَقْسَام .

أَحَدهَا : الْمَقْتُول فِي حَرْب بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَاب الْقِتَال فَهَذَا لَهُ حُكْم الشُّهَدَاء فِي ثَوَاب الآخِرَة وَفِي أَحْكَام الدُّنْيَا وَهُوَ أَنَّهُ لا يُغَسَّل وَلا يُصَلَّى عَلَيْهِ .

وَالثَّانِي : شَهِيد فِي الثَّوَاب دُون أَحْكَام الدُّنْيَا وَهُوَ الْمَبْطُون , وَالْمَطْعُون , وَصَاحِب الْهَدْم , وَمَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ , وَغَيْرهمْ مِمَّنْ جَاءَتْ الأَحَادِيث الصَّحِيحَة بِتَسْمِيَتِهِ شَهِيدًا فَهَذَا يُغَسَّل وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَهُ فِي الآخِرَة ثَوَاب الشُّهَدَاء , وَلا يَلْزَم أَنْ يَكُون مِثْل ثَوَاب الأَوَّل .

وَالثَّالِث : مَنْ غَلَّ فِي الْغَنِيمَة وَشِبْهُه مَنْ وَرَدَتْ الآثَار بِنَفْيِ تَسْمِيَته شَهِيدًا إِذَا قُتِلَ فِي حَرْب الْكُفَّار فَهَذَا لَهُ حُكْم الشُّهَدَاء فِي الدُّنْيَا فَلا يُغَسَّل , وَلا يُصَلَّى عَلَيْهِ , وَلَيْسَ لَهُ ثَوَابهمْ الْكَامِل فِي الآخِرَة . وَاَللَّه أَعْلَم .

 

فمن الذين يطلق عليهم لقب الشهيد من أصحاب الصنف الثاني ، وهم الذين يموتون في الشدائد وذلك من رحمة الله تعالى بهذه الأمة .

فكل من مات في مرض اشتد عليه فهو بإذن الله يدخل في عداد الشهداء لتساويه مع الأصناف التالية المذكورة ، بل من الأمراض ما يكون أشد مما يأتي ذكره .

7/14ــــــــ الْمَطْعُونُ ، وَالْمَبْطُونُ ، وَالْغَرِقُ ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ ، وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ ، وَالْحَرِقُ ، وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ ، والنفساء.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

((الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ : الْمَطْعُونُ ، وَالْمَبْطُونُ ، وَالْغَرِقُ ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ))

وعن جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال :

(( الشُّهَدَاءُ سَبْعَةٌ سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ : الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ ، وَالْغَرِقُ شَهِيدٌ ، وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ شَهِيدٌ ، وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ ، وَالْحَرِقُ شَهِيدٌ ، وَالَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ الْهَدْمِ شَهِيدٌ ، وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ شَهِيدٌ ))

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ))

( الْمَطْعُون ) فَهُوَ الَّذِي يَمُوت فِي الطَّاعُون أي الْمُصَابُ بِالطَّاعُونِ كَمَا فِي الرِّوَايَة الأُخْرَى : ( الطَّاعُون شَهَادَة لِكُلِّ مُسْلِم )

وَأَمَّا ( الْمَبْطُون ) هُوَ الَّذِي يَمُوت بِدَاءِ في بَطْنه مُطْلَقًا .

( الْغَرِق ) هُوَ الَّذِي يَمُوت غَرِيقًا فِي الْمَاء .

( وَصَاحِب الْهَدْم ) مَنْ يَمُوت تَحْته .

( صَاحِب ذَات الْجَنْب ) مَعْرُوف , وَهِيَ قُرْحَة تَكُون فِي الْجَنْب بَاطِنًا .

( وَالْحَرِيق ) الَّذِي يَمُوت بِحَرِيقِ النَّار .

( الْمَرْأَة تَمُوت بِجُمْعٍ ) الَّتِي تَمُوت حَامِلاً جَامِعَة وَلَدهَا فِي بَطْنهَا

قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي النِّهَايَةِ : ذَاتُ الْجَنْبِ هِيَ الدُّبَيْلَةُ وَالدُّمَّلُ الْكَبِيرَةُ الَّتِي تَظْهَرُ فِي بَاطِنِ الْجَنْبِ وَتَتَفَجَّرُ إِلَى دَاخِلٍ وَقَلَّمَا يَسْلَمُ صَاحِبُهَا . وَذُو الْجَنْبِ الَّذِي يَشْتَكِي جَنْبَهُ بِسَبَبِ الدُّبَيْلَةِ , وَقِيلَ أَرَادَ بِالْمَجْنُوبِ الَّذِي يَشْتَكِي جَنْبَهُ مُطْلَقًا اِنْتَهَى .

وعن صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ : النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(( الطَّاعُونُ وَالْمَبْطُونُ وَالْغَرِيقُ وَالنُّفَسَاءُ شَهَادَةٌ ))

وعند أحمد من حديث راشد بن حبيش :

(( وَالنُّفَسَاءُ يَجُرُّهَا وَلَدُهَا بِسُرَرِهِ إِلَى الْجَنَّةِ ))

 

15ـــــــــــ والموت بداء "السل" شهادة :

عن عبادة بن الصامت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال :

(( السل شهادة ))

والسل مرض معروف

وعَنْ رَاشِدِ بْنِ حُبَيْشٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال :

(( الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شَهَادَةٌ ، وَالطَّاعُونُ شَهَادَةٌ ، وَالْغَرَقُ شَهَادَةٌ ، وَالْبَطْنُ شَهَادَةٌ ، وَالْحَرْقُ شَهَادَةٌ ، وَالسَّلُ ، وَالنُّفَسَاءُ يَجُرُّهَا وَلَدُهَا بِسُرَرِهِ إِلَى الْجَنَّةِ ))

 

16/17ـــــــــ من تردى من رأس جبل ، أو أكله السبع :

عن اِبْن مَسْعُود أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال :

(( مَنْ يَتَرَدَّى مِنْ رُءُوس الْجِبَال وَتَأْكُلهُ السِّبَاع وَيَغْرَق فِي الْبِحَار لَشَهِيد عِنْد اللَّه ))

 

18ـــــــــــ الْمَائِدُ فِي الْبَحْرِ

عَنْ أُمِّ حَرَامٍ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :

(( الْمَائِدُ فِي الْبَحْرِ الَّذِي يُصِيبُهُ الْقَيْءُ لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ ، وَالْغَرِقُ لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ ))

( الْمَائِد فِي الْبَحْر ) : أَيْ الَّذِي يَدُور رَأْسه مِنْ رِيح الْبَحْر وَاضْطِرَاب السَّفِينَة بِالأَمْوَاجِ مِنْ الْمَيْد وَهُوَ التَّحَرُّك وَالاضْطِرَاب .

 

19ـــــــــ  الصابر في الطاعون له أجر شهيد

عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الطَّاعُونِ ؟ فَأَخْبَرَهَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا ، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ ))

وهذا الأجر يكتبه الله لمن أقام في بلد فيه الطاعون فصبر وجلس فهذا له أجر الشهيد وإن لم يمت .. وهذا غير المطعون الذي أصيب فمات .

 

20ــــــــــمَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ

(( مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ))

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ :

(( جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي ؟ قَالَ : فَلا تُعْطِهِ مَالَكَ ، قَالَ : أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي ؟  قَالَ : قَاتِلْهُ ، قَالَ : أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي ؟ قَالَ : فَأَنْتَ شَهِيدٌ ، قَالَ : أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ ؟ قَالَ : هُوَ فِي النَّارِ ))

 

21ــــــــ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ مظلمته فَهُوَ شَهِيدٌ

فمن وقع عليه أي ظلم من أنواع المظالم ، ولم يندفع هذا الظلم عنه إلا بقتال ، فقتل في سبيل مظلمته تلك فهو شهيد .

عن سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلَمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ))

 

22/24 وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ ، أو دَمِهِ ، أو أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ

عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

(( مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ))

( مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ ) أَيْ عِنْدَ دَفْعِهِ مَنْ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِهِ ظُلْمًا

( وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ ) أَيْ فِي الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ

( وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ ) أَيْ فِي نُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ وَالذَّبِّ عَنْهُ

( وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ ) أَيْ فِي الدَّفْعِ عَنْ بُضْعِ حَلِيلَتِهِ أَوْ قَرِيبَتِهِ

( فَهُوَ شَهِيدٌ ) لأَنَّ الْمُؤْمِنَ مُحْتَرَمٌ ذَاتًا وَدَمًا وَأَهْلاً وَمَالا فَإِذَا أُرِيدَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ جَازَ لَهُ الدَّفْعُ عَنْهُ فَإِذَا قُتِلَ بِسَبَبِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ .

 

فهؤلاء الذي يكتبون شهداء عند الله تعالى ، ويكون لهم ثواب الشهداء في النجاة من فتنة القبر وعذاب القبر ، نسأل الله تعالى أن يجعل موتنا شهادة في سبيله ، ابتغاء مرضاته ، في غير فتنة مضلة ، ولا ضراء مضرة .. إنه خير مسئول ، وهو المعطي الوهاب .

 

 

 

 

 

 

 

 

تنبيه هام وفائدة كبرى

أسباب عذاب القبر تكون على ما اكتسبه العبد من الذنوب

أما أسباب النجاة من عذاب القبر ، والوقاية من فتنته ، تكون من عدة جهات :

أولاً : بمحض فضل من الله تعالى كأن يرزقه شهادة عند موته ، أو يتوفاه في يوم جمعة ، أو يتوفاه في مرض فيموت مغفورًا له ونحو ذلك مما هو خارج عن فعل العبد واكتسابه

ثانيًا : تكون النجاة من عذاب القبر من اكتساب العبد بالعمل الصالح

ثالثًا : تكون النجاة بسبب غيره من المؤمنين بصلاتهم عليه ودعاءهم له والترحم عليه فينجيه الله بشفاعتهم ، أو بما يهدى له من ثواب ، أو بما يقضى عنه من واجبات تركها كالصيام مثلاً .

فجعل الله سبب العذاب من جهة واحدة وهي فعل العبد نفسه ، وجعل أسباب النجاة تأتيه من جهات متعددة .. وهذا من رحمة الله الله تعالى بعباده

رزقنا الله رحمته وعفوه ورضاه في الدنيا والآخرة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الْأَعْمَال بِالْخَوَاتِيمِ

 

على كل أحدٍ أن يعلم : أن الِاعْتِبَار يكون بِالْخَاتِمَةِ لا بالظاهر الموجود .. فلا عبرة بعمل بعامل .. حتى يُنظر بما يختم له به من الخير أو الشر .. نسأل الله حسن الخاتمة

عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قال :

(( أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ غَنَاءً عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ :

مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا .

فَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ ؛ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ، حَتَّى جُرِحَ ، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ ، فَجَعَلَ ذُبَابَةَ سَيْفِهِ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْرِعًا فَقَالَ :

أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ .. فَقَالَ : وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ : قُلْتَ لِفُلَانٍ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَيْهِ ، وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِنَا غَنَاءً عَنْ الْمُسْلِمِينَ ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ ، فَلَمَّا جُرِحَ اسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَقَتَلَ نَفْسَهُ .

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ :

إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ ))

 

عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ ))

وعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَعْجَبُوا بِأَحَدٍ حَتَّى تَنْظُرُوا بِمَ يُخْتَمُ لَهُ ، فَإِنَّ الْعَامِلَ يَعْمَلُ زَمَانًا مِنْ عُمْرِهِ أَوْ بُرْهَةً مِنْ دَهْرِهِ بِعَمَلٍ صَالِحٍ لَوْ مَاتَ عَلَيْهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ فَيَعْمَلُ عَمَلًا سَيِّئًا ؛ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ الْبُرْهَةَ مِنْ دَهْرِهِ بِعَمَلٍ سَيِّئٍ لَوْ مَاتَ عَلَيْهِ دَخَلَ النَّارَ ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ فَيَعْمَلُ عَمَلًا صَالِحًا .

وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ ؟ قَالَ : يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ ))

فمن أعظم العقوبات أن يختم للإنسان بخاتمةٍ سيئةٍ فيموت على عمل غير صالح فيبعث عليه .

فعلى المسلم ألا يغتر بما عليه من حال صالحة ، أو عمل صالح يقوم به ، بل يسأل الله تعالى دوام العافية ، والثبات على ىالأمر ، وحسن الخاتمة ، وأن يثبته على الصراط المستقيم .. فالسعيد من ثبته الله وختم له بالخير .

 

عَنْ عَائِشَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّهُ لَمَكْتُوبٌ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، فَإِذَا كَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ تَحَوَّلَ فَعَمِلَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ ، فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ .

وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّهُ لَمَكْتُوبٌ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَإِذَا كَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ ، تَحَوَّلَ فَعَمِلَ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمَاتَ فَدَخَلَهَا ))

 

وعن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال

(( إن الرجل ليعمل أو قال يعمل بعمل أهل النار سبعين سنة ثم يختم له بعمل أهل الجنة ويعمل العامل سبعين سنة بعمل أهل الجنة ثم يختم له بعمل أهل النار ))

وعن العرس بن عميرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :

(( إن العبد ليعمل البرهة بعمل أهل النار ثم تعرض له الجادة من جواد الجنة فيعمل بها حتى بموت عليها وذلك لما كتب له وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة البرهة من دهره ثم تعرض له الجادة من جواد أهل النار فيعمل بها حتى يموت عليها وذلك لما كتب له ))

 

وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قَالَ :

(( إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ وَيُقَالُ لَهُ اكْتُبْ عَمَلَهُ وَرِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ لَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ كِتَابُهُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ))

 

وفي رواية لحديث سعد بن سهل السابق : قال صلى الله عليه وسلم

((  إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ))

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله :

( فيما يبدو للناس ) إشارة إلى أن باطن الأمر يكون بخلاف ذلك وأن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس . . . من جهة عمل سيءٍ ونحو ذلك فتلك الخصلة الخفية توجب سوءَ الخاتمة عند الموت، وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار وفي باطنه خصلة خفية من خصال الخير، فتغلب عليه تلك الخصلة في آخر عمره، فتوجب له حسن الخاتمة " .

 

فهذه الأحاديث شأنها عظيم جدًا ، ومخوفة كذلك من خاتمة السوء .

 

ولكنها تدفع المرء إلى العمل على إصلاح شأنه بالقول والعمل الصالح والتزام العقيدة السليمة والنهج القويم ، والحياة على أمر الله وتعالى وشرعه وإخلاص الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم .. فلا سبيل لحسن الخاتمة إلا ذاك .

 

فلا بد للمرء من طلب حسن الخاتمة بالقول والعمل وبالدعاء ، وبعمل جميع الأسباب المؤدية إلى حسن الختام ؛ لأن من رغب في شيء وحرص عليه جد في طلبه بالدعاء والضراعة إلى اللّه عز وجل، واجتهد في بذل الأسباب

قال اللّه عز وجل (( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ))

فلا بد من الحرص على الاستقامة والثبات عليها والطلب من الله تعالى العون والثبات فمن عاش على الإيمان والعمل الصالح وجدد توبته دائمًا .. لا بد وأن يختم الله له بالخير فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً

وأما من تهاون وتلاعب وفرط وأخر التوبة وسوَّفَ فيها ، فهذا يخاف عليه من سوء الخاتمة ..

وليس معنى أنه كان يعمل بعمل أهل الجنة ولكن قبل موته عمل بعمل أهل النار فدخلها ، أن الله تعالى ظلمه .. معاذ الله .. بل إذا فتشت في أحوالهم وجدتهم كما قال عمر رضي الله عنه يروغون كما يروغ الثعلب .. فلا بد أن في قلوبهم مرض وسوء سريرة يخفى على الناس .. وفي عقيدتهم وأعمالهم  بلايا ورزايا هي التى جرتهم إلى الشقاء

فالصالح يكون صالحًا في السر والعلن .. ولكن هناك من يكون ظاهره صالحًا وباطنه فاسدًا يخادعون الناس وما يخدعون إلا أنفسهم .. والله تعالى مطلع عليهم .

 

كما أن الصنف الثاني الذي يعمل بعمل أهل النار ثم يرزقه الله عمل أهل الجنة فيموت عليه ، فهذا :

أولاً : من فضل الله ، والله يؤتي فضله من يشاء ..

ثانيًا : الكثير من الناس يكون جاهلاً بالحق ، لا يعلم عن الإسلام شيئًا ، كما هو حال الكثير من الناس الآن لنشأتهم في مجتمعات فاسدة ، لا تعلم عن دين الله تعالى شيئًا ولا تتعلمه .. وهؤلاء تكون فيهم مادة الخير وقبول الحق .. فإذا جاءتهم دعوة صادقة وعلموا الحق والإسلام تلقوه بالقبول والانشراح والتزموا بشرائع الإسلام .. وهذا مشاهد معلوم .. وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعيشون في جاهلية وبلاء ، فلما سمعوا الهدى كانوا أسرع الناس إليه ، بل صاروا أفضل الخلق بعد الأنبياء والمرسلين ..

فالقلوب أوعية .. لا يعلمها إلا خالقها سبحانه وتعالى .. والله تعالى لا يظلم أحدًا ولا يحابي أحدًا .. وليس بينه وبين العباد نسبًا ..

فالمطلع على قلوب العباد .. الذي يعلم خبايا النفوس .. ويعلم ما تكنه الصدور .. ويسمع ويرى عباده في سرهم وعلانيتهم ..

سبحانه أعلم بمن تكون له حسن الخاتمة .. ومن له سوء الخاتمة

قال تعالى

(( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ))

(( رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا ))

(( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا ))

 

فالله تعالى أعلم بأهل الهداية فيوفقهم لحسن الخاتمة ، وهو أعلم بأهل الضلالة فيجزيهم بسوء الخاتمة

قال تعالى : (( وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ))

(( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ))

(( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ))

 

والله تعالى يجازي العباد بأعمالهم ولا يظلم ربك أحدًا .. وعل حسب أعمالهم يكون مصيرهم

قال تعالى (( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ، ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ، وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ، الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ))

فهذه هي حقيقة الأمور من غير خفاء :

من استقام على الإسلام وأطاع الله والرسول يجزيه الله خير الجزاء ويثبته على الخير ويثبته عليه ((وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى))

ومن ضل وآثر الغواية والفساد جزاه الله بعمله ((لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا))

وجوب تحصيل أسباب حسن الخاتمة

أمر الله تعالى في كتابه الكريم عباده المؤمنين بالتقوى وأمرهم بأن يموتوا على الإسلام  فأمرهم بحسن الخاتمة .

قال تعالى :

(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ))

فهذا أمر واجب .. يكون الوصول إليه عن طريق تحصيل أسبابه ، وذلك بتقوى الله على الدوام والعمل الصالح والمواظبة عليه وعلى التوبة الدائمة حتى يموت وهو على هذه الحال الكريمة .. فتحصيل حسن الخاتمة بتحصيل أسبابها .

 

قال السعدي : هذا أمر من الله لعباده المؤمنين أن يتقوه حق تقواه، وأن يستمروا على ذلك ويثبتوا عليه ويستقيموا إلى الممات، فإن من عاش على شيء مات عليه، فمن كان في حال صحته ونشاطه وإمكانه مداوماً لتقوى ربه وطاعته، منيبًا إليه على الدوام، ثبته الله عند موته ورزقه حسن الخاتمة .

وتقوى الله حق تقواه كما قال ابن مسعود: وهو أن يُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، وهذه الآية بيان لما يستحقه تعالى من التقوى، وأما ما يجب على العبد منها .

 

وقد كان من دعاء الأنبياء عليهم السلام ، أن يحسن الله خاتمتهم ويتوفاهم على نعمة الإسلام فقد قال تعالى عن نبيه يوسف عليه السلام :

(( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ))

فينبغي للعبد أن يتملق إلى الله دائما في تثبيت إيمانه، ويعمل الأسباب الموجبة لذلك، ويسأل الله حسن الخاتمة، وتمام النعمة بأن يتوفاه على الإسلام .

فمن عاش علي شيء مات عليه .. فمن أراد حسن الخاتمة داوم على طاعة ربه وتقواه فإن الله لا يضيع سعي عبده المؤمن أبدًا .. فهو أرحم الراحمين .. يحفظ الصالحين والله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً .

قالله خلق للجنة أهلاً وبعمل أهل الجنة يعملون ؛ وخلق للنار أهلاً وبعمل أهل النار يعملون .

 

دعاء النبي لأصحابه بحسن الخاتمة :

عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ :

(( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا وَدَّعَ رَجُلًا أَخَذَ بِيَدِهِ فَلَا يَدَعُهَا حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ يَدَعُ يَدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُ : اسْتَوْدِعْ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَآخِرَ عَمَلِكَ ))

( وَآخِرَ عَمَلِك ) الْمُرَادَ بِهِ حُسْنُ الْخَاتِمَةِ لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَيْهَا فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ وَأَنَّ التَّقْصِيرَ فِيمَا قَبْلَهَا مَجْبُورٌ بِحُسْنِهَا وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِك فِي رِّوَايَةِ أخرى.

 

وينبغي للمسلم أن يعمل بالأسباب التي توصل إلى حسن الخاتمة ويبتعد عن جميع الأسباب التي تنشأ عنها سوء الخاتمة

وهناك أسباب عامة .. وأسباب خاصة .. لتحصيل حسن الخاتمة .

 

 

 

 

فمن الأسباب العامةلتحصيل حسن الخاتمة :

1 - خوف اللّه عز وجل، والخشية من سوء الخاتمة، فقد كان السلف الصالح يخافون من سوء الخاتمة، فيحسنون العمل ؛ لأن الخوف مع الرجاء يبعث على إحسان العمل

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم :

(( من خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة اللّه غالية، ألا إن سلعة اللّه الجنة ))

( مَنْ خَافَ ) أَيْ الْبَيَاتَ وَالْإِغَارَةَ مِنْ الْعَدُوِّ وَقْتَ السَّحَرِ

( أَدْلَجَ ) بِالتَّخْفِيفِ مِنْ سَارَ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَبِالتَّشْدِيدِ مِنْ آخِرِهِ

( وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ ) أَيْ وَصَلَ إِلَى الْمَطْلَبِ .

قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَالِكِ الْآخِرَةِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ عَلَى طَرِيقِهِ وَالنَّفْسَ وَأَمَانِيَّهُ الْكَاذِبَةَ أَعْوَانُهُ , فَإِنْ تَيَقَّظَ فِي مَسِيرِهِ وَأَخْلَصَ النِّيَّةَ فِي عَمَلِهِ أَمِنَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَكَيْدِهِ , وَمِنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ بِأَعْوَانِهِ ثُمَّ أَرْشَدَ إِلَى أَنَّ سُلُوكَ طَرِيقِ الْآخِرَةِ صَعْبٌ , وَتَحْصِيلَ الْآخِرَةِ مُتَعَسِّرٌ لَا يَحْصُلُ بِأَدْنَى سَعْيٍ فَقَالَ ( أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ ) أَيْ مِنْ مَتَاعِهِ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ ( غَالِيَةٌ ) رَفِيعَةُ الْقَدْرِ

( أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةَ ) يَعْنِي ثَمَنُهَا الْأَعْمَالُ الْبَاقِيَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ (( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّك ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا )) وَبِقَوْلِهِ (( إِنَّ اللَّهَ اِشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ ))

 

2 - التوبة من جميع الذنوب والمعاصي وإتباعها بالأعمال الصالحة ؛ لأن التسويف في التوبة من أسباب سوء الخاتمة ؛ ولهذا قال اللّه سبحانه وتعالى : (( وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ))

ولا بد مع التوبة من الأعمال الصالحة ؛ لقوله عز وجل : (( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ))

وقال سبحانه وتعالى بعد أن ذكر عقاب المشرك، وقاتل النفس بغير حق، والزاني :

(( إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ))

 

3- الدعاء : فهو من أعظم أسباب فلاح العبد ونجاته في الدنيا والآخرة ، والله تعالى يحب الملحين في الدعاء ، ويغضب على من لم يسأله .. فينبغي الإكثار من الدعاء وعدم تركه وخاصة بحسن الخاتمة ، وكان صلى الله عليه وسلم يدعو :

(( اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة ))

 

وكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله تعالى من ميتة السوء :

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو فَيَقُولُ :

(( اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالْمَاءِ الْبَارِدِ ، اللَّهُمَّ طَهِّرْ قَلْبِي مِنْ الْخَطَايَا كَمَا طَهَّرْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنْ الدَّنَسِ ، وَبَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ ذُنُوبِي كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ ، وَدُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ ، وَعِلْمٍ لَا يَنْفَعُ ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعِ ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِيشَةً تَقِيَّةً ، وَمِيتَةً سَوِيَّةً ، وَمَرَدًّا غَيْرَ مُخْزٍ ))

 

 

 

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال :

((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو : اللهم إني أسألك عيشة نقية ، وميتة سوية ، ومردا غير مخز ولا فاضح ))

 

وعَنْ أَبِي الْيَسَرِ قَالَ :كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

(( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ التَّرَدِّي وَالْهَدْمِ وَالْغَرَقِ وَالْحَرِيقِ ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ يَتَخَبَّطَنِي الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَوْتِ ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَمُوتَ فِي سَبِيلِكَ مُدْبِرًا ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَمُوتَ لَدِيغًا ))

فينبغي للمسلم أن يكثر من هذه الأدعية التي هي من أسباب حسن الخاتمة

 

4 - قصر الأمل من أسباب حسن الخاتمة، وطول الأمل ضد ذلك ؛ لأن قصر الأمل يحث صاحبه على اغتنام الأوقات والأعمال الصالحة

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ :

(( أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي فَقَالَ كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ .

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ : إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الْمَسَاءَ وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ ))

فينبغي للمسلم أن لا يركن إلى الدنيا ؛ فإنها متاع زائل، والله المستعان .

 

5 - بغض المعاصي والابتعاد عنها من أسباب حسن الخاتمة، وضد ذلك حبها وإلفها . فينبغي للمسلم أن يبغض كل ما حرمه اللّه ورسوله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الإِنسان إذا أصرَّ على المعاصي ومات على ذلك كان ذلك من أسباب سوء الخاتمة، وبعِثَ على ما مات عليه

فعَنْ جَابِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ ))

وعنه :

(( مَنْ مَاتَ عَلَى شَيْءٍ بَعَثَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ))

 

6 - الصبر عند المصائب من أسباب حسن الخاتمة، وضد ذلك الجزع أو الانتحار من أسباب سوء الخاتمة .. وليعلم العبد أنه لا بد من البلاء ، فهي اختبار من الله لعبده ، كما أن فيها تكفير للذنوب والخطايا ، وكذلك رفعة لدرجة العبد بإذن الله تعالى ، ثم إن الله تعالى يعقب ذلك بالفرج والخير في الدنيا والآخرة ، فينبغي للمسلم الصبر ابتغاء وجه اللّه عز وجل

عن أبي هُرَيْرَةَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ ))

 

وعَنْ صُهَيْبٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ))

فينبغي للعبد الصبر والثبات واحتساب الأجر والثواب على اللّه عز وجل ، نسال الله تعالى العافية لنا وللمسلمين في الدنيا والآخرة .

وأعظم الصبر وأفضله ما كان في سبيل الله تعالى كالصبر في الجهاد ، وكالصبر على التمسك بالدين والسنة خاصة في زمن غربة الدين وتكالب الأعداء

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ ))

( كَالْقَابِضِ ) أَيْ كَصَبْرِ الْقَابِضِ فِي الشِّدَّةِ وَنِهَايَةِ الْمِحْنَةِ

قَالَ الْقَارِي : الظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ كَمَا لَا يُمْكِنُ الْقَبْضُ عَلَى الْجَمْرَةِ إِلَّا بِصَبْرٍ شَدِيدٍ وَتَحَمُّلِ غَلَبَةِ الْمَشَقَّةِ كَذَلِكَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَا يُتَصَوَّرُ حِفْظُ دِينِهِ وَنُورِ إِيمَانِهِ إِلَّا بِصَبْرٍ عَظِيمٍ .ا.هـ

 

وعن أبي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ : قال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ ، الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ ، قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ ؟ قَالَ : بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ ))

 

7 - حسن الظن باللّه عز وجل من أسباب حسن الخاتمة، وسوء الظن باللّه من أسباب سوء الخاتمة، فينبغي للعبد أن يعلم أن اللّه عز وجل لا يظلم مثقال ذرة، ولا يظلم الناس شيئا، وهو عند ظن عبده به

قال النبي صلى الله عليه وسلم :

((  يقول اللّه تعالى : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني ))

وعن جابر رضي الله عنه قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بثلاث يقول :

(( لا يموتنَّ أحدكم إلا وهو يحسن الظن باللّه ))

 

8 - معرفة ما أعده اللّه عز وجل من النعيم المقيم للمؤمنين، من أسباب حسن الخاتمة ؛ لأن هذا العلم يحث على العمل، والاستقامة على طاعة الله عز وجل، رغبة فيما عنده عز وجل من الثواب

قال اللّه عز وجل : (( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ ))

 

 

 

 

 

 

 

 

 



 

العلامات والأسباب الخاصة لحسن الخاتمة

جعل الله تعالى بعض العلامات الظاهرة للعيان ، والتي تدل على حسن خاتمة العبد المؤمن .. نذكرها فيما يلي :

قول لا إله إلا الله مع القيام بشروطها

عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( مَنْ كَانَ آخِرُ كَلامِهِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ ))

كلمة التوحيد التي من أجلها قامت السماوات والأرض ، وهي أحب الكلام إلى الله تعالى ، ففيها ذكره ووحدانيته جل وعلا ، وفيها إعلان تفرده بالعبودية والألوهية على الخلق كلهم أجمعين لا شريك له سبحانه .

فمن كان آخر كلامه عند موته هذه الكلمة الطيبة المباركة ، كانت له خاتمة الخير والسعادة

وليس المقصود هنا هو مجرد التلفظ بها ، ولكن لا بد من الانقياد لما تقتضيه من إخلاص العمل لله تعالى ، وعبادته وحده لا شريك له فلا يدعو ولا يصلي ولا يصوم ولا ينذر ولا يذبح ولا يتحاكم ولا يقوم بصرف أي نوع من أنواع العبادات القلبية والقولية والعملية إلا لله تعالى وإلا صار مشركًا لا ينتفع بمجرد التلفظ بها .

فالتوحيد وإخلاص العبادة والتحاكم لشرع الله في كل أمر من أمور حياته هو أساس فلاح العبد .. ومن غير ذلك لا ينتفع بمجرد التلفظ بها .. بل لا بد من الانقياد والسمع والطاعة والالتزام

أما من قالها ثم صرف أمرًا من أمور العبادة لغير الله تعالى حيًا كان أو ميتًا كمن يدعو الأنبياء أو الملائكة أو الأولياء أو قبورهم ، أو من يطيع الطواغيت وينقاد لهم ، ومن يوالي أعداء الله وغير ذلك .. من نبذ شريعة الله تعالى والتحاكم لغيرها وتشريع القوانين الوضعية وألزم الناس بذلك ، ومن استحل الحرمات ، أو حرم الحلال فهذا فلا تنفعه كلمة التوحيد ، وإن دندن بها ، ولا يكون من أهلها .

وعَنْ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ :

(( رَأَى عُمَرُ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ ثَقِيلاً فَقَالَ : مَا لَكَ يَا أَبَا فُلانٍ لَعَلَّكَ سَاءَتْكَ إِمْرَةُ ابْنِ عَمِّكَ يَا أَبَا فُلانٍ ؟ قَالَ : لا إِلا أَنِّي سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا مَا مَنَعَنِي أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْهُ إِلا الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ :

إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لا يَقُولُهَا عَبْدٌ عِنْدَ مَوْتِهِ إِلا أَشْرَقَ لَهَا لَوْنُهُ وَنَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَتَهُ ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إِنِّي لأَعْلَمُ مَا هِيَ ، قَالَ : وَمَا هِيَ ؟

قَالَ : تَعْلَمُ كَلِمَةً أَعْظَمَ مِنْ كَلِمَةٍ أَمَرَ بِهَا عَمَّهُ عِنْدَ الْمَوْتِ : لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ، قَالَ طَلْحَةُ : صَدَقْتَ هِيَ وَاللَّهِ هِيَ ))

 

وعَنْ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أُمِّهِ سُعْدَى الْمُرِّيَّةِ قَالَتْ :

(( مَرَّ عُمَرُ بِطَلْحَةَ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا لَكَ كَئِيبًا أَسَاءَتْكَ إِمْرَةُ ابْنِ عَمِّكَ ؟ قَالَ : لا وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لا يَقُولُهَا أَحَدٌ عِنْدَ مَوْتِهِ إِلا كَانَتْ نُورًا لِصَحِيفَتِهِ ، وَإِنَّ جَسَدَهُ وَرُوحَهُ لَيَجِدَانِ لَهَا رَوْحًا عِنْدَ الْمَوْتِ ، فَلَمْ أَسْأَلْهُ حَتَّى تُوُفِّيَ .

قَالَ : أَنَا أَعْلَمُهَا هِيَ الَّتِي أَرَادَ عَمَّهُ عَلَيْهَا وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ شَيْئًا أَنْجَى لَهُ مِنْهَا لأَمَرَهُ ))

( رُوحًا ) أَيْ رَحْمَة وَرِضْوَانًا

 

 

وعن أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :

(( أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ أَبْيَضُ وَهُوَ نَائِمٌ ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَقَدْ اسْتَيْقَظَ ، فَقَالَ :

مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ

قُلْتُ : وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ ؟ قَالَ : وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ ، قُلْتُ : وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ ؟ قَالَ : وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ ، قُلْتُ : وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ ؟ قَالَ : وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ ))

وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا قَالَ : وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ .

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ : هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ أَوْ قَبْلَهُ إِذَا تَابَ وَنَدِمَ وَقَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ غُفِرَ لَهُ.

ومن جميل ما يروى :

عن أبي جعفر محمد بن علي الساوي وراق أبي زرعة قال :

« حضرت أبا زرعة بماشهران وكان في السوق ، وعنده أبو حاتم ، ومحمد بن مسلم بن وارة ، والمنذر بن شاذان ، وجماعة من العلماء فذكروا قول النبي صلى الله عليه وسلم : » لقنوا موتاكم لا إله إلا الله « ، فاستحيوا من أبي زرعة ، وقالوا : تعالوا نذكر الحديث ، فقال أبو عبد الله بن وارة : حدثنا الضحاك بن مخلد أبو عاصم قال : ثنا عبد الحميد بن جعفر ، عن صالح ولم يجاوز والباقون سكتوا ، فقال أبو زرعة وهو في السوق : ، ثنا بندار ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عبد الحميد بن جعفر ، عن صالح بن أبي عريب ، عن كثير بن مرة الحضرمي ، عن معاذ بن جبل ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة « ومات رحمه الله .

فاللهم يا حي يا قيوم يا حنان يا منان اجعل خر كلامنا من الدنيا "لا إله إلا الله"

 

الموت بعرق الجبين :

عن بُرَيْدَة بن الحصيب : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( الْمُؤْمِنُ يَمُوتُ بِعَرَقِ الْجَبِينِ ))

فالموت بعرق الجبين جعله الله علامة من علامات حسن الخاتمة للمؤمن ، وقد قيلت بعض الأقوال في سبب ذلك ولكن لا يقوم عليها دليل فأعرضنا عن ذكرها ، والوقوف على السنة بأنها علامة لحسن الخاتمة فيه الكفاية .



 

حمد الله تعالى عند الموت :

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :

(( أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ بَنَاتِهِ وَهِيَ تَجُودُ بِنَفْسِهَا فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ حَتَّى قُبِضَتْ قَالَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُؤْمِنُ بِخَيْرٍ تُنْزَعُ نَفْسُهُ مِنْ بَيْنِ جَنْبَيْهِ وَهُوَ يَحْمَدُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ))

فحمد الله تعالى عند الموت علامة كبرى من علامات الإيمان وحسن الخاتمة ، لما فيها من تمام الرضا بقضاء الله وأمره ، وحمده على كل حال ، والاستسلام من العبد لربه تبارك وتعالى وهو في أشد المواقف ، وهذا لا يكون إلا من نفس مؤمنة طيبة مطمئنة .

 

من مات لا يسأل الناس شيئًا :

عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ يَكْفُلُ لِي أَنْ لَا يَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا وَأَتَكَفَّلُ لَهُ بِالْجَنَّةِ .

فَقَالَ ثَوْبَانُ : أَنَا

فَكَانَ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا ))

( مَنْ تَكَفَّلَ ) أَيْ ضَمِنَ وَالْتَزَمَ ( لِي ) : وَيَتَقَبَّل مِنِّي ( أَنْ لَا يَسْأَل النَّاس شَيْئًا ) أَيْ مِنْ السُّؤَال أَوْ مِنْ الْأَشْيَاء ( فَأَتَكَفَّل ) أَيْ أَتَضَمَّن ( لَهُ بِالْجَنَّةِ ) أَيْ أَوَّلًا مِنْ غَيْر سَابِقَة عُقُوبَة .

وَفِيهِ إِشَارَة إِلَى بِشَارَة حُسْن الْخَاتِمَة

( فَقَالَ ثَوْبَان أَنَا ) : أَيْ تَضَمَّنْت أَوْ أَتَضَمَّن ( فَكَانَ ) : ثَوْبَان بَعْد ذَلِكَ ( لَا يَسْأَل أَحَدًا شَيْئًا ) : أَيْ وَلَوْ كَانَ بِهِ خَصَاصَة .

وَاسْتَثْنَى مِنْهُ إِذَا خَافَ عَلَى نَفْسه الْمَوْت فَإِنَّ الضَّرُورَات تُبِيح الْمَحْظُورَات , بَلْ قِيلَ إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْأَل حَتَّى يَمُوت يَمُوت عَاصِيًا . أَيْ فِي شَيْء مِنْ غَيْر الْمَصَالِح الدِّينِيَّة .

 

فمن عمل بهذا الحديث ومات على العمل به كان ذلك دليلاً على حسن الخاتمة لأن النبي صلى الله عليه وسلم تكفل بالجنة لمن يقوم بذلك ، وهو أمر عزيز ، يحتاج لنفس مؤمنة صابرة قوية .

 

من التزم بدعاء طلب الوسيلة عند الأذان :

عَنْ جَابِرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ : اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))

 

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

(( إِذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا ، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ ، فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ))

( حَلَّتْ لَهُ ) : أَيْ وَجَبَتْ وَثَبَتَتْ ( الشَّفَاعَة ) : فِيهِ بِشَارَة إِلَى حُسْن الْخَاتِمَة وَالْحَضّ عَلَى الدُّعَاء فِي أَوْقَات الصَّلَوَات لِأَنَّهُ حَال رَجَاء الْإِجَابَة .

وكون ذلك من علامات حسن الخاتمة :

أن النبي صلى الله عليه وسلم ضمن لمن حافظ على هذا الذكر العظيم نيل الشفاعة فمن مات محافظًا على هذا الذكر كان ذلك من حسن الخاتمة لنيله شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم والتي هي من أعظم أسباب نجاة العبد في الآخرة .

فمن أراد حسن الخاتمة عليه المدوامة على هذا الذكر العظيم .

 

اجتماع الخوف والرجاء عند الموت

عَنْ أَنَسٍ :

(( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ : كَيْفَ تَجِدُكَ ؟ قَالَ : وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي أَرْجُو اللَّهَ وَإِنِّي أَخَافُ ذُنُوبِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إِلا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ ))

 

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :

(( أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ بَنَاتِهِ وَهِيَ تَجُودُ بِنَفْسِهَا فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ حَتَّى قُبِضَتْ قَالَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُؤْمِنُ بِخَيْرٍ تُنْزَعُ نَفْسُهُ مِنْ بَيْنِ جَنْبَيْهِ وَهُوَ يَحْمَدُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ))

 

الصدق مع الله تعالى من أعظم أسباب حسن الخاتمة :

قال الله تعالى : (( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ، لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ ))

هذه الآية الكريمة نزلت في أهل الصدق من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين ثبتوا في غزوة أحد وجاهدوا في الله حق جهاده .. عاهدوا الله تعالى على نصرة نبيه صلى الله عليه وسلم .. فبذلوا نفوسهم رخيصة في سبيل الله .. وأثبتوا صدقهم لله تعالى .. وأوفوا بعهدهم لله عز وجل .. فأنزل الله فيهم قرآناً يتلى إلى يوم الدين

فالصدق مع الله تعالى .. من أعظم أسباب حسن الخاتمة وطيب المآل

عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :

(( غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ ، لَئِنْ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ قَالَ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاءِ يَعْنِي أَصْحَابَهُ ، وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاءِ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ : يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ الْجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ ، قَالَ سَعْدٌ : فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ ، قَالَ أَنَسٌ فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ ، فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ ، قَالَ أَنَسٌ كُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ (( مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ )) .. إِلَى آخِرِ الآيَةِ ))

قال الحافظ :

وفِي قِصَّة أَنَس بْن النَّضْر مِنْ الْفَوَائِد جَوَاز بَذْل النَّفْس فِي الْجِهَاد

وَفَضْل الْوَفَاء بِالْعَهْدِ وَلَوْ شَقَّ عَلَى النَّفْس حَتَّى يَصِل إِلَى إِهْلاكهَا

وَأَنَّ طَلَب الشَّهَادَة فِي الْجِهَاد لا يَتَنَاوَلهُ النَّهْي عَنْ الإِلْقَاء إِلَى التَّهْلُكَة .

وَفِيهِ فَضِيلَة ظَاهِرَة لأَنَس بْن النَّضْر وَمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ صِحَّة الإِيمَان وَكَثْرَة التَّوَقِّي وَالتَّوَرُّع وَقُوَّة الْيَقِين .

 

وعَنْ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ :

(( أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَعْرَابِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ ، ثُمَّ قَالَ : أُهَاجِرُ مَعَكَ ، فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ ، فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةٌ غَنِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيًا ، فَقَسَمَ وَقَسَمَ لَهُ ، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ ، وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ ، فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ .

فَقَالَ : مَا هَذَا ؟

قَالُوا : قِسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا هَذَا ؟

قَالَ : قَسَمْتُهُ لَكَ .

قَالَ : مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ ، وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَاهُنَا وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ بِسَهْمٍ فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ .

فَقَالَ : إِنْ تَصْدُقْ اللَّهَ يَصْدُقْكَ .

فَلَبِثُوا قَلِيلًا ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْمَلُ قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ .

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَهُوَ هُوَ ؟

قَالُوا : نَعَمْ .

قَالَ : صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ .

ثُمَّ كَفَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جُبَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلَاتِهِ : اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ فَقُتِلَ شَهِيدًا ، أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ ))

قَوْله ( أُهَاجِرُ مَعَك ) أَيْ أَسْكُن مَعَك مُهَاجِرًا

( مَا عَلَى هَذَا إِلَخْ ) أَيْ مَا آمَنْت بِك لِأَجْلِ الدُّنْيَا وَلَكِنْ آمَنْت لِأَجْلِ أَنْ أَدْخُلَ الْجَنَّةَ بِالشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

( إِنْ تَصْدُق اللَّهَ ) أَيْ إِنْ كُنْت صَادِقًا فِيمَا تَقُولُ وَتُعَاهِدُ اللَّهَ عَلَيْهِ يُجْزِك عَلَى صِدْقِك بِإِعْطَاءِ مَا تُرِيدُهُ

 

فهذا الصادق الرباني صدق مع الله تعالى ، فأعطاه الله ما تمناه لأنه كان صادقًا في أمنيته ، وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالشهادة فأي شيء أعظم من ذلك .. وصلى عليه ودفنه في جبته .. فهذا جزاء الصادقين مع الله تعالى .

نسأل الله تعالى برحمته وعفوه ورضوانه أن يدخلنا برحمته في عباده الصالحين وأن يجعلنا من أهل الصدق واليقين .

الموت شهيدًا :

عن أسلم بن سليم قَالَ :

(( قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ فِي الْجَنَّةِ ؟ قَالَ : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنَّةِ وَالشَّهِيدُ فِي الْجَنَّةِ ، وَالْمَوْلُودُ فِي الْجَنَّةِ ، وَالْوَئِيدُ فِي الْجَنَّةِ ))

( وَالْمَوْلُود ) : قَالَ الْخَطَّابِيُّ : هُوَ الطِّفْل الصَّغِير وَالسِّقْط وَمَنْ لَمْ يُدْرِك الْحِنْث

( وَالْوَئِيد ) : هُوَ الْمَوْءُود أَيْ الْمَدْفُون فِي الأَرْض حَيًّا , وَكَانُوا يَئِدُونَ الْبَنَات , وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَئِد الْبَنِينَ أَيْضًا عِنْد الْمَجَاعَة وَالضِّيق يُصِيبهُمْ , قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ .

وقد مضى الكلام على أنواع الشهداء في فصل أسباب النجاة من عذاب القبر فلا حاجة للإعادة هنا

 

من خرج مهاجرًا في سبيل الله :

قال تعالى : (( وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ))

أخبر تعالى أن من خرج مهاجراً في سبيل الله أي لأجل عبادته ونصره دنيه ثم مات في طريق هجرته وإن لم يصل إلى دار الهجرة فقد وجب أجره على الله تعالى كاملاً غير منقوص ، ويغفر الله تعالى له ما كان من تقصير سابق ويرحمه فيدخله جنته

 

الموت ليلة أو يوم الجمعة :

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ إِلا وَقَاهُ اللَّهُ فِتْنَةَ الْقَبْرِ ))

الموت بالمدينة :

عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِهَا فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ يَمُوتُ بِهَا ))

وعنه :

(( مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَفْعَلْ فَإِنِّي أَشْهَدُ لِمَنْ مَاتَ بِهَا ))

 

عن صَفِيَّةَ ابْنَةَ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

((مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ، فَإِنَّهُ لا يَمُوتُ بِهَا أَحَدٌ إِلا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))

وفي رواية :

((مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ، فَإِنَّهُ يَمُتْ شَهِيدًا، وَيُشَفَّعُ لَهُ ))

قَوْلُهُ ( مَنْ اِسْتَطَاعَ ) أَيْ قَدَرَ ( أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ ) أَيْ يُقِيمَ بِهَا حَتَّى يُدْرِكَهُ الْمَوْتُ ثَمَّتْ ( فَلْيَمُتْ بِهَا ) أَيْ فَلْيَقُمْ بِهَا حَتَّى يَمُوتَ فَهُوَ حَثٌّ عَلَى لُزُومِ الْإِقَامَةِ بِهَا

( فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ يَمُوتُ بِهَا ) أَيْ أَخُصُّهُ بِشَفَاعَتِي غَيْرِ الْعَامَّةِ زِيَادَةً فِي إِكْرَامِهِ .

قَالَ الطِّيبِيُّ : أَمْرٌ لَهُ بِالْمَوْتِ بِهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ اِسْتِطَاعَتِهِ بَلْ هُوَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَكِنَّهُ أَمْرٌ بِلُزُومِهَا وَالْإِقَامَةِ بِهَا بِحَيْثُ لَا يُفَارِقُهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِأَنْ يَمُوتَ فِيهَا , فَأَطْلَقَ الْمُسَبَّبَ وَأَرَادَ السَّبَبَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى (( فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) .

 

من ختم له بعمل صالح :

عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ ، فَقِيلَ : كَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ قَبْلَ الْمَوْتِ ))

 

عن أبي عِنَبَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَلَهُ ، قِيلَ وَمَا عَسَلُهُ ؟ قَالَ : يَفْتَحُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ عَمَلًا صَالِحًا قَبْلَ مَوْتِهِ ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ ))

 

عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ :

(( أَسْنَدْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى صَدْرِي فَقَالَ : مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ خُتِمَ لَهُ بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ صَامَ يَوْمًا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ خُتِمَ لَهُ بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ خُتِمَ لَهُ بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ))

وفي رواية :

(( يا حذيفة : من خُتِمَ له بصيام يومٍ ، يُريدُ به وجه الله عز وجل ، أدخله الله الجنة ))

 

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ :

(( بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ أَوْ قَالَ فَأَوْقَصَتْهُ (فَقَتَلَتْهُ) ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ ، وَلا تُحَنِّطُوهُ ، وَلا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا ؛ وفي رواية : وَلا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يُهِلُّ ))

( فَإِنَّهُ يُبْعَث يَوْم الْقِيَامَة مُلَبِّيًا وَمُلَبِّدًا وَيُلَبِّي ) أي عَلَى هَيْئَته الَّتِي مَاتَ عَلَيْهَا وَمَعَهُ عَلامَة لِحَجِّهِ , وَهِيَ دَلالَة الْفَضِيلَة كَمَا يَجِيء الشَّهِيد يَوْم الْقِيَامَة وَأَوْدَاجه تَشْخَب دَمًا . وَفِيهِ دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب دَوَام التَّلْبِيَة فِي الإِحْرَام .. وفيه علامة كبرى من علامات حسن الخاتمة فمن مات عل عمل صالح بعثه الله عليه .

 

ومن الأعمال المبشرة بحسن الخاتمة

الرضا بالله ربًا والجهاد في سبيل الله :

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( يَا أَبَا سَعِيدٍ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ فَقَالَ أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَفَعَلَ ثُمَّ قَالَ وَأُخْرَى يُرْفَعُ بِهَا الْعَبْدُ مِائَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ قَالَ وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ))

فالرضا بالله ربًا :

هو الرضا به خالقًا وآمرًا (( ألا له الخلق والأمر )) فلا يصح أن نقول ربنا الله ثم نتلقى الأمر والنهي والحلال والحرام والتشريع من غيره ، ونتحاكم إلى غير ما شرع وأراد ، بلا بد من الإيمان بأمره ونهيه والتحاكم إليه والتعبد بها والالتزام بذلك ، فلا بد من إفراده سبحانه في الألوهية بالعبودية الحقة وصرف كل أنواع العبادة إليه ، وإفراده بالربوبية والرضا والتحاكم إلىى أمره ونهيه ، فلا رب سواه ولا إله غيره .. ولا يتخذ من دون الله أربابًا يطيعهم في الأمر والنهي أو يتحاكم إليهم أو يتوجه إليهم بنوع من أنواع العبادة

 

والرضا بمحمد نبيًا :

صلى الله عليه وسلم هي إفراده بالاتباع ومحبته وتوقيره وتعظيمه وطاعته فيما أمر والانتهاء عما نهى فطاعته من طاعة الله تعالى

 

والرضا بالإسلام دينًا :

هو الدخول في دين الإسلام بجميع شرائعه ، والاستسلام والانقياد له في الظاهر والباطن ، والحياة على نهجه وشرعه وناموسه ، ولا يتخذ العبد منهجًا أو شرعة أو نظرية أو مذهب يخالف دين الإسلام كالديمقراطية واشباهها من النظريات المخترعة المخالفة لدين الله تعالى

 

فالرضا بالله وبرسوله وبدينه هو المحيا والممات على الالتزام بشريعة الله عبادة وتشريعًا وحكمًا .. ورفض كل ما يخالفها .. فهي شروط ثقيلة

 

فمن صرف عيادة لغير الله فهذا لم يرض بالله ربًا .. بداية من الدعاء وحتى الحاكمية

ومن اتخذ متبوعًا غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يهتدي بهديه ويستن بأمره ونهيه ويتحاكم إلىه ويعادي ويوالي عليه .. فهذا لم يرض بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً

ومن اتخذ منهجًا وشرعة غير الإسلام ، أو نظامًا ، و عقيدة ومذهبًا ، أو حزبًا على غير نهج الإسلام ، فخرج به عن عقائد الإسلام وعن الالتزام بحلاله وحرامه ، وتحاكم إلى غير شريعة الله في الدماء والأموال والأعراض فهذا لم يرض بالإسلام دينًا .

 

 

 

أما الجهاد فكله خير ولا يأتي إلا بالخير

عن أبي المنذر :

(( أن رجلا جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن فلاناً هلك فصل عليه ، فقال عمر : إنه فاجر فلا تصل عليه ، فقال الرجل : يا رسول الله ألم تر الليلة التي أصبحت فيها في الحرس فإنه كان فيهم ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى عليه ثم تبعه حتى جاء قبره ، فقعد حتى إذا فرغ منه حثا عليه ثلاث حثيات ثم قال : تثني عليك الناس سوءاً وأثني عليك خيراً ، فقال عمر : وما ذاك يا رسول الله ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : دعنا منك يا ابن الخطاب من جاهد في سبيل الله وجبت له الجنة ))

 

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ :

(( مَرَّ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِعْبٍ فِيهِ عُيَيْنَةٌ مِنْ مَاءٍ عَذْبَةٌ فَأَعْجَبَتْهُ لِطِيبِهَا ، فَقَالَ : لَوْ اعْتَزَلْتُ النَّاسَ فَأَقَمْتُ فِي هَذَا الشِّعْبِ وَلَنْ أَفْعَلَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لا تَفْعَلْ فَإِنَّ مُقَامَ أَحَدِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاتِهِ فِي بَيْتِهِ سَبْعِينَ عَامًا ، أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ، وَيُدْخِلَكُمْ الْجَنَّةَ ، اغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ ))

( مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُوَاقَ نَاقَةٍ ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ : الْفُوَاقُ كَغُرَابٍ هُوَ مَا بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ مِنْ الْوَقْتِ وَيُفْتَحُ , أَوْ مَا بَيْنَ فَتْحِ يَدِك وَقَبْضِهَا عَلَى الضَّرْعِ اِنْتَهَى . وَقَالَ فِي الْمَجْمَعِ : هُوَ مَا بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ لأَنَّهَا تُحْلَبُ ثُمَّ تُتْرَكُ سَرِيعَةً تُرْضِعُ الْفَصِيلَ لِتُدِرَّ ثُمَّ تُحْلَبَ اِنْتَهَى .

 

وعن مُعَاذ بْنَ جَبَلٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

(( مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ فَوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ ، وَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ الْقَتْلَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ صَادِقًا ثُمَّ مَاتَ أَوْ قُتِلَ فَلَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ ، وَمَنْ جُرِحَ جُرْحًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ نُكِبَ نَكْبَةً فَإِنَّهَا تَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَغْزَرِ مَا كَانَتْ لَوْنُهَا كَالزَّعْفَرَانِ وَرِيحُهَا كَالْمِسْكِ وَمَنْ جُرِحَ جُرْحًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَعَلَيْهِ طَابَعُ الشُّهَدَاءِ ))

 

المحافظة على تلاوة كتاب الله وحفظه :

فعلى المرء المحافظة والمداوم على الاهتمام بكتاب الله تعالى ، تلاوة وحفظًا وفهمًا وتدبرًا وعملاً ، فالقرآن يأتي شفيعًا لأصحابه يوم القيامة ، وتأتي سورة البقرة وآل عمران تدافعان وتشفعان لأصحابهما ، وسورة تبارك تدفع عذاب القبر ـ ومن قرأ "قل هو الله أحد عشر مرات" بنى الله له بيتًا في الجنة ، وسمع النبي رجلاً يقرأها فقال "وجبت له الجنة" وأهل القرآن هم أهل الله تعالى وخاصته

وصح أن الله تعالى لا يعذب إنسانًا وعى قلبه القرآن .. وغير ذلك من فضائل القرآن الكريم .. وقد أفردتها في كتاب مستقل اسمه "فضائل القرآن العظيم" فليراجع .

فمن حافظ على كتاب الله تعالى حفظه الله في حياته وفي موته وفي آخرته ، وكم سمعنا عن أهل القرآن وعن حسن خاتمتهم عند وفاتهم ، كرامة لهم من الله تعالى وآية لغيرهم .

 

المحافظة على سيد الاستغفار

عن شَدَّاد بْنُ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ قَالَ وَمَنْ قَالَهَا مِنْ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَنْ قَالَهَا مِنْ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ))

 

إدراك التكبيرة الأولى من الصلاة أربعين يومًا

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( مَنْ صَلَّى لِلَّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي جَمَاعَةٍ يُدْرِكُ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَتَانِ بَرَاءَةٌ مِنْ النَّارِ وَبَرَاءَةٌ مِنْ النِّفَاقِ ))

فالبراءة من النفاق ضمان لحسن الخاتمة بإذن الله تعالى .

إسباغ الوضوء وصلاة ركعتين

عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ يُقْبِلُ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ ))

فهذا الحديث من البشارات على حسن الخاتمة لمن عمل به .

المحافظة على الصلوات الخمس :

عَنْ حَنْظَلَةَ الْكَاتِبِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

(( مَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ رُكُوعِهِنَّ وَسُجُودِهِنَّ وَوُضُوئِهِنَّ وَمَوَاقِيتِهِنَّ وَعَلِمَ أَنَّهُنَّ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ أَوْ قَالَ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ ))

الاسترجاع عند فقد الولد :

عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلائِكَتِهِ : قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ ، فَيَقُولُ : قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ ، فَيَقُولُونَ : نَعَمْ ، فَيَقُولُ : مَاذَا قَالَ عَبْدِي ؟ فَيَقُولُونَ : حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ ، فَيَقُولُ اللَّهُ : ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ ))

قال بعض العلماء فيه دليل على حسن الخاتمة .

 

من سرته حسنته وساءته سيئته

عَنْ أَبِي أُمَامَةَ :

(( أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا الْإِيمَانُ ؟ قَالَ : إِذَا سَرَّتْكَ حَسَنَتُكَ وَسَاءَتْكَ سَيِّئَتُكَ فَأَنْتَ مُؤْمِنٌ ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا الْإِثْمُ ؟ قَالَ : إِذَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ فَدَعْهُ ))

قال المناوي :

(إذا سرتك) أي أفرحتك وأعجبتك وأصل السرور لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه

(حسنتك) أي عبادتك لكونك جازما بصدق الشارع فيما جاء به عن الله تعالى من حصول الثواب عليها سميت حسنة لأن بها يحسن حال فاعلها وهي سبب إحسان الله تعالى وإضافتها له من حيث الكسب

(وساءتك سيئتك) أي أحزنك ذنبك لكونك قاطعا بصدق الشارع فيما توعد به من العقاب عليها سميت سيئة لأن بها يسوء حال فاعلها وهي سبب كل سوء

(فأنت مؤمن) أي فذلك علامة إيمانك بل ذلك هو حقيقة الإيمان وليس الإيمان إلا تصديق الشارع فيما جاء به وفي الحزن على السيئة إشعار بالندم الذي هو أعظم أركان التوبة فكأنه قال إذا أتيت بالطاعة المأمور بها وكلما أذنبت ذنبا تبت منه كان ذلك علامة حسن الخاتمة وأنك تموت على الإيمان حقا وقد أشار إلى ما قررته أولا قول الطيبي يعني إذا صدرت منك طاعة وفرحت بها متيقنا بأنك تثاب عليها وإذا أصابتك معصية وحزنت عليها فذلك علامة الإيمان .

 

تربية البنات والإحسان إليهن :

عن جابر بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( مَنْ كُنَّ لَهُ ثَلاثُ بَنَاتٍ يُؤْوِيهِنَّ وَيَرْحَمُهُنَّ وَيَكْفُلُهُنَّ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ الْبَتَّةَ ، قَالَ قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنْ كَانَتْ اثْنَتَيْنِ ؟ قَالَ : وَإِنْ كَانَتْ اثْنَتَيْنِ ، قَالَ : فَرَأَى بَعْضُ الْقَوْمِ أَنْ لَوْ قَالُوا لَهُ وَاحِدَةً لَقَالَ وَاحِدَةً ))

 

عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ :

(( دَخَلَتْ امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا ، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا ، وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا ، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا فَأَخْبَرْتُهُ ، فَقَالَ : مَنْ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنْ النَّارِ ))

وفي رواية : (( فَقَالَ : مَنْ يَلِي مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ شَيْئًا فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنْ النَّارِ ))

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، فمن قام تربية البنات وأحسن إليهن كنَّ له حجابًا من النار ووجبت له الجنة ، وهذا دليل على أن الله يختم له بخير .

 

خصال أخرى من أعمال الخير

عن أبي سعيد رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :

(( خمس من عملهن في يوم كتبه الله من أهل الجنة : من عاد مريضاً ، وشهد جنازة وصام يومًا ( وفي رواية : من وافق صيامه يوم الجمعة ) ، وراح إلى الجمعة ، وأعتق رقبة ))

(كتبه الله من أهل الجنة) وهذا علامة على حسن الخاتمة وبشرى له بذلك

 

عَنْ مُعَاذِ بن جَبَلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( خَمْسٌ مَنْ فَعَلَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ كَانَ ضَامِنًا عَلَى اللَّهِ: مَنْ عَادَ مَرِيضًا، أَوْ خَرَجَ مَعَ جَنَازَةٍ، أَوْ خَرَجَ غَازِيًا، أَوْ دَخَلَ عَلَى إِمَامِهِ يُرِيدُ تَعْزِيزَهُ وَتَوْقِيرَهُ، أَوْ قَعَدَ فِي بَيْتِهِ فَسَلِمَ النَّاسُ مِنْهُ وَسَلِمَ مِنَ النَّاسِ ))

فالضمان للعبد بدخول الجنة دليل على حسن خاتمته عند الله تعالى ولا بد .

 

عن عائشة : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

(( خصلات ست ما من مسلم يموت في واحدة منهن إلا كان ضامناً على الله أن يدخله الجنة : رجل خرج مجاهدًا فإن مات في وجهه كان ضامناً على الله ، ورجل تبع جنازة فإن مات في وجهه كان ضامناً على الله ، ورجل عاد مريضاً فان مات في وجهه كان ضامناً على الله ، ورجل توضأ فاحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لصلاته فإن مات في وجهه كان ضامناً على الله ، ورجل أتى إماماً لا يأتيه إلا ليعزره ويوقره فإن مات في وجهه ذلك كان ضامناً على الله ، ورجل في بيته لا يغتاب مسلماً ولا يجر إليهم سخطاً ولا نقمة فإن مات في وجهه كان ضامناً على الله ))

 

طلب العلم الشرعي والتفقه في الدين :

عن مُعَاوِيَةَ قال النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ ))

(من يرد الله به خيرا) بالتنكير في سياق الشرط فيعم أي من يرد الله به جميع الخيرات (يفقهه في الدين) أي يفهمه علم الشريعة بالفقه لأنه علم مستنبط بالقوانين والأدلة والأقيسة والنظر الدقيق بخلاف علم اللغة والنحو والصرف.

وفي الحديث : شرف العلم وفضل العلماء وأن التفقه في الدين علامة على حسن الخاتمة

 

تبليغ حديث النبي صل الله عليه وسلم :

عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ : قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ ))

وعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

(( نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ ))

قال في تحفة الأحوذي : ( نَضَّرَ اللَّهُ ) الْمَعْنَى خَصَّهُ اللَّهُ بِالْبَهْجَةِ وَالسُّرُورِ لِمَا رُزِقَ بِعِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ مِنْ الْقَدْرِ وَالْمَنْزِلَةِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَنِعَمِهِ فِي الْآخِرَةِ حَتَّى يُرَى عَلَيْهِ رَوْنَقُ الرَّخَاءِ وَالنِّعْمَةِ , ثُمَّ قِيلَ إِنَّهُ إِخْبَارٌ يَعْنِي جَعَلَهُ ذَا نَضْرَةٍ , وَقِيلَ دُعَاءٌ لَهُ بِالنَّضْرَةِ وَهِيَ الْبَهْجَةُ وَالْبَهَاءُ فِي الْوَجْهِ مِنْ أَثَرِ النِّعْمَةِ .ا.هـ

وفي عون المعبود : ( نَضَّرَ اللَّه ) : قَالَ الْخَطَّابِيُّ : مَعْنَاهُ الدُّعَاء لَهُ بِالنَّضَارَةِ وَهِيَ النِّعْمَة وَالْبَهْجَة .

قَالَ السُّيُوطِيُّ : قَالَ أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن جَابِر : أَيْ أَلْبَسَهُ نَضْرَة وَحُسْنًا وَخُلُوصَ لَوْنٍ وَزِينَةً وَجَمَالًا , أَوْ أَوْصَلَهُ اللَّه لِنَضْرَةِ الْجَنَّة نَعِيمًا وَنَضَارَة . قَالَ تَعَالَى ((وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً)) ((تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ)) . قَالَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَةَ : مَا مِنْ أَحَدٍ يَطْلُب حَدِيثًا إِلَّا وَفِي وَجْهه نَضْرَة , رَوَاهُ الْخَطِيب .ا.هـ

وهذا من أحسن علامات حسن الخاتمة ، فمن بلغ الحديث نضر الله وجهه في الدنيا والآخرة .

 

السلامة من الكبر والغلول والدين :

عَنْ ثَوْبَانَ قال : قال رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( مَنْ فَارَقَ الرُّوحُ الْجَسَدَ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ثَلَاثٍ : الْكِبْرِ ، وَالْغُلُولِ ، وَالدَّيْنِ ، فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ أَوْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ ))

الكبر : هو التكبر على الخلق وغمط الحق

والغلول : السرقة من الغنيمة وكل سرقة من أموال المسلمين

الدين : من الاستدانة فينبغي الحرص على قضاء جميع الديون قبل حلول الأجل أو الوصية بقضاء ذلك من تركته .

 

 

كفالة اليتيم وعتق الرقاب :

عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ : أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

(( مَنْ ضَمَّ يَتِيمًا بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ ، إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنْهُ ، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ الْبَتَّةَ ، وَمَنْ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا كَانَ فِكَاكَهُ مِنْ النَّارِ يُجْزَى بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ ))

( البتة ) أي وجبت له الجنة مطلقًا ، وتحقق له ذلك قطعًا وجزمًا .. فهذا الحديث يبشر بحسن خاتمة كافل اليتيم وسعادة مآله .

 

ختامًا : فالطريق إلى حسن الخاتمة هو الإيمان والعمل الصالح والاستقامة على أمر الله وكل الطاعات والعبادات والأعمال الصالحة جعل الله تعالى ثوابها الجنة ، فمن داوم عليها ، فلا بد له من الوصول إلى ما يأمل .. نسأل الله تعالى أن يستعملنا فيما يرضيه وأن يوفانا وهو راض عنا على ما يرضيه ويحبه .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فصل

 

في

 

تمني الموت

 

النهي عن تمني الموت :

عن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

(( لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ ، قَالُوا : وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لا وَلا أَنَا إِلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا .

وَلا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ :

إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا ، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ ))

وعنه :

(( لا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ وَلا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ ، إِنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ انْقَطَعَ عَمَلُهُ وَإِنَّهُ لا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إِلا خَيْرًا ))

( وَلا يَتَمَنَّى ) لَفْظ نَفْي بِمَعْنَى النَّهْي . وَوَقَعَ فِي رِوَايَة ( لا يَتَمَنَّ ) عَلَى لَفْظ النَّهْي

وَبِلَفْظِ ( لا يَتَمَنَّيَنَّ ) وَزَادَ بَعْد قَوْله أَحَدكُمْ الْمَوْت ( وَلا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْل أَنْ يَأْتِيه ) وَهُوَ قَيْد فِي الصُّورَتَيْنِ

قَوْلُهُ ( إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَاد خَيْرًا , وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِب ) أَيْ يَرْجِع عَنْ مُوجِب الْعَتْب عَلَيْهِ .

وَوَقَعَ عِنْد أَحْمَد : ( وَأَنَّهُ لا يَزِيد الْمُؤْمِن عُمْره إِلا خَيْرًا ) وَفِيهِ إِشَارَة إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي النَّهْي عَنْ تَمَنِّي الْمَوْت وَالدُّعَاء بِهِ هُوَ اِنْقِطَاع الْعَمَل بِالْمَوْتِ , فَإِنَّ الْحَيَاة يَتَسَبَّب مِنْهَا الْعَمَل , وَالْعَمَل يُحَصِّل زِيَادَة الثَّوَاب , وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلا اِسْتِمْرَار التَّوْحِيد فَهُوَ أَفْضَل الأَعْمَال . وَلا يَرُدّ عَلَى هَذَا أَنَّهُ يَجُوز أَنْ يَقَع الارْتِدَاد وَالْعِيَاذ بِاَللَّهِ تَعَالَى عَنْ الإِيمَان لأَنَّ ذَلِكَ نَادِر , وَالإِيمَان بَعْد أَنْ تُخَالِط بَشَاشَته الْقُلُوب لا يَسْخَطهُ أَحَد , وَعَلَى تَقْدِير وُقُوع ذَلِكَ - وَقَدْ وَقَعَ لَكِنْ نَادِرًا - فَمَنْ سَبَقَ لَهُ فِي عِلْم اللَّه خَاتِمَة السُّوء فَلا بُدّ مِنْ وُقُوعهَا طَالَ عُمْره أَوْ قَصُرَ , فَتَعْجِيله بِطَلَبِ الْمَوْت لا خَيْر لَهُ فِيهِ .

وَوَقَعَ فِي رِوَايَة هَمَّام عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عِنْد أَحْمَد وَمُسْلِم : (وَأَنَّهُ لا يَزِيد الْمُؤْمِن عُمْره إِلا خَيْرًا)

وإن اكتسب شيئًا من السيئات ، فأَنَّ الْمُؤْمِن بِصَدَدِ أَنْ يَعْمَل مَا يُكَفِّر ذُنُوبه إِمَّا مِنْ اِجْتِنَاب الْكَبَائِر وَإِمَّا مِنْ فِعْل حَسَنَات أُخَر تُقَاوِم سَيِّئَاته , وَمَا دَامَ الإِيمَان بَاقٍ فَالْحَسَنَات بِصَدَدِ التَّضْعِيف , وَالسَّيِّئَات بِصَدَدِ التَّكْفِير .

وقد يكون قوله : ( لَعَلَّهُ ) مِنْ التَّرَجِّي ، وَالتَّرَجِّي مُشْعِر بِالْوُقُوعِ غَالِبًا لا جَزْمًا , فَخَرَجَ الْخَبَر مَخْرَج تَحْسِين الظَّنّ بِاَللَّهِ , وَأَنَّ الْمُحْسِن يَرْجُو مِنْ اللَّه الزِّيَادَة بِأَنْ يُوَفِّقهُ لِلزِّيَادَةِ مِنْ عَمَله الصَّالِح , وَأَنَّ الْمُسِيء لا يَنْبَغِي لَهُ الْقُنُوط مِنْ رَحْمَة اللَّه وَلا قَطْع رَجَائِهِ .

 

عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ قَالَ :

(( أَتَيْتُ خَبَّابًا وَقَدْ اكْتَوَى سَبْعًا ، قَالَ : لَوْلا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ )

 

عَنْ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :

(( لَوْلا أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لا تَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ لَتَمَنَّيْتُ ))

 

وعَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ ، فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلْ : اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي ، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي ))

وفي رواية :

(( لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ ، فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ فَاعِلاً فَلْيَقُلْ : اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي ))

قال النووي :

فِيهِ : التَّصْرِيح بِكَرَاهَةِ تَمَنِّي الْمَوْت لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ مِنْ مَرَض أَوْ فَاقَة أَوْ مِحْنَة مِنْ عَدُوّ أَوْ نَحْو ذَلِكَ مِنْ مَشَاقّ الدُّنْيَا , فَأَمَّا إِذَا خَافَ ضَرَرًا فِي دِينه أَوْ فِتْنَة فِيهِ , فَلا كَرَاهَة فِيهِ ; لِمَفْهُومِ هَذَا الْحَدِيث وَغَيْره , وَقَدْ فَعَلَ هَذَا الثَّانِي خَلائِق مِنْ السَّلَف عِنْد خَوْف الْفِتْنَة فِي أَدْيَانهمْ .

وَفِيهِ أَنَّهُ إِنْ خَافَ وَلَمْ يَصْبِر عَلَى حَاله فِي بَلْوَاهُ بِالْمَرَضِ وَنَحْوه فَلْيَقُلْ : اللَّهُمَّ أَحْيِنِي إِنْ كَانَتْ الْحَيَاة خَيْرًا . . . إِلَخْ , وَالأَفْضَل الصَّبْر وَالسُّكُون لِلْقَضَاءِ .

 

عن جَابِر بْنَ عَبْدِ اللَّهِ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( لا تَمَنَّوْا الْمَوْتَ ، فَإِنَّ هَوْلَ الْمَطْلَعِ شَدِيدٌ ، وَإِنَّ مِنْ السَّعَادَةِ أَنْ يَطُولَ عُمْرُ الْعَبْدِ وَيَرْزُقَهُ اللَّهُ الإِنَابَةَ ))

 

فضل طول العمر مع العمل الصالح :

 

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ

(( أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَابِيَّانِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا : مَنْ خَيْرُ الرِّجَالِ يَا مُحَمَّدُ ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ ، وَقَالَ الآخَرُ : إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيْنَا فَبَابٌ نَتَمَسَّكُ بِهِ جَامِعٌ ؟ قَالَ : لا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ))

 

عن أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه :

(( أَنَّ رَجُلاً قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ ؟ قَالَ : مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ ، قَالَ : فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ ؟ قَالَ : مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ ))

 

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِكُمْ ؟ قَالُوا : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : خِيَارُكُمْ أَطْوَلُكُمْ أَعْمَارًا وَأَحْسَنُكُمْ أَعْمَالاً ))

 

عَنْ أنس قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِكُمْ ؟ قَالُوا : بلى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : خِيَارُكُمْ أَطْوَلُكُمْ أَعْمَارًا إذ سددوا ))

 

عَنْ عُبَيْدِ بْنِ خَالِدٍ السُّلَمِيِّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ قُتِلَ أَحَدُهُمَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ مَاتَ الآخَرُ ، فَصَلَّوْا عَلَيْهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا قُلْتُمْ ؟ قَالَ : قُلْنَا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ اللَّهُمَّ أَلْحِقْهُ بِصَاحِبِهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَأَيْنَ صَلاتُهُ بَعْدَ صَلاتِهِ وَأَيْنَ صِيَامُهُ أَوْ عَمَلُهُ بَعْدَ عَمَلِهِ ، مَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ))

انقطاع الأعمال بانقضاء الآجال :

عن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

(( لا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ وَلا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ ، إِنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ انْقَطَعَ عَمَلُهُ وَإِنَّهُ لا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إِلا خَيْرًا ))

 

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ : صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ ))

 

عن فَضَالَة بْنَ عُبَيْدٍ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :

(( كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ ، إِلا الَّذِي مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَإِنَّهُ يُنْمَى لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَأْمَنُ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ ))

 

تحفة المؤمن الموت وراحته

عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

(( تحفة المؤمن الموت ))

التحفة ما يتحف به المؤمن من العطية مبالغة في بره وألطافه (الموت) لأن الدنيا محنته وسجنه وبلاؤه إذ لا يزال فيه في عناء من مقاساة نفسه ورياضة شهواته ومدافعة شيطانه والموت إطلاق له من هذا العذاب وسبب لحياته الأبدية وسعادته السرمدية ونيله للدرجات العلية فهو تحفة في حقه

وهو وإن كان فناءًا واضمحلالاً ظاهراً ، لكنه بالحقيقة ولادة ثانية ، ونقله من دار الفناء إلى دار البقاء ، ولو لم يكن الموت لم تكن الجنة ، ولهذا من الله علينا بالموت والتحفة .

وفي الحديث الصحيح : (( الدنيا سجن المؤمن )) ، فالمؤمن الآخرة خير له من الدنيا وما فيها ، وكما مر معنا حديث تلقي أرواح المؤمنين لروح الميت حديثًا أن الملائكة تقول لهم : ((دَعُوهُ حتى يستريح فَإِنَّهُ كَانَ فِي غَمِّ الدُّنْيَا))

فالمؤمن يكون الموت في حقه بداية الراحة والسعادة .. أما الكافر والفاجر فيستريح منهم الخلق ومن شرهم .

عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيِّ :

(( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ : مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ ؟ قَالَ : الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ ))

قال النووي :

مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ الْمَوْتَى قِسْمَانِ : مُسْتَرِيح وَمُسْتَرَاح مِنْهُ

وَنَصَب الدُّنْيَا : تَعَبهَا .

وَأَمَّا اِسْتِرَاحَة الْعِبَاد مِنْ الْفَاجِر مَعْنَاهُ : اِنْدِفَاع أَذَاهُ عَنْهُمْ , وَأَذَاهُ يَكُون مِنْ وُجُوه مِنْهَا : ظُلْمه لَهُمْ , وَمِنْهَا اِرْتِكَابه لِلْمُنْكَرَاتِ فَإِنْ أَنْكَرُوهَا قَاسُوا مَشَقَّة مِنْ ذَلِكَ , وَرُبَّمَا نَالَهُمْ ضَرَره , وَإِنْ سَكَتُوا عَنْهُ أَثِمُوا . وَاسْتِرَاحَة الدَّوَابّ مِنْهُ كَذَلِكَ ; لأَنَّهُ كَانَ يُؤْذِيهَا وَيَضُرّ بِهَا وَيُحَمِّلهَا مَا لا تُطِيقهُ , وَيُجِيعهَا فِي بَعْض الأَوْقَات وَغَيْر ذَلِكَ . وَاسْتِرَاحَة الْبِلاد وَالشَّجَر , فَقِيلَ : لأَنَّهَا تُمْنَع الْقَطْر بِمُصِيبَتِهِ , قَالَهُ الدَّاوُدِيُّ . وَقَالَ الْبَاجِيّ : لأَنَّهُ يَغْصِبهَا وَيَمْنَعهَا حَقّهَا مِنْ الشُّرْب وَغَيْره .

 

الموت خير للمؤمن من الفتن :

فالْفِتْنَة لَا يُؤْمَن مَعَهَا الْهَلَكَة .

عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( اثْنَتَانِ يَكْرَهُهُمَا ابْنُ آدَمَ : الْمَوْتُ وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ الْفِتْنَةِ ، وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقَلُّ لِلْحِسَابِ ))

فموت المسلم على الإيمان والعمل الصالح سالمًا من الفتنة في دينه ، خير له من التعرض إلى فتنة تفسد عليه دينه ، فالتعرض للفتن لا يؤمن معه الهلاك

ولذلك لما زار النبي صلى الله عليه وسلم الأموات قبل وفاته هنأهم على موتهم وقد سَلِمَ لهم دينهم ، وقبل نزول الفتن

عَنْ أَبِي مُوَيْهِبَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فَقَالَ : يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ إِنِّي قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَسْتَغْفِرَ لأَهْلِ الْبَقِيعِ ، فَانْطَلِقْ مَعِي فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ قَالَ : السَّلامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْمَقَابِرِ ، لِيَهْنِ لَكُمْ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ مِمَّا أَصْبَحَ فِيهِ النَّاسُ ، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا نَجَّاكُمْ اللَّهُ مِنْهُ ، أَقْبَلَتْ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ ، يَتْبَعُ أَوَّلُهَا آخِرَهَا ، الآخِرَةُ شَرٌّ مِنْ الأُولَى .. ))

فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الموت مع السلامة من الفتن خير من الحياة مع الوقوع في الفتنة .

وعَلَّمَ الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم الدعاء بقبض روحه سالمًا من الفتن إذا أراد بالعباد فتنة .. وعلم النبي صلى الله عليه وسلم أمته هذا الدعاء الطيب .

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( أَتَانِي اللَّيْلَةَ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ ، قَالَ أَحْسَبُهُ قَالَ فِي الْمَنَامِ .

فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ هَلْ تَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلأُ الأَعْلَى ؟

قَالَ : قُلْتُ لا .

قَالَ : فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَهَا بَيْنَ ثَدْيَيَّ أَوْ قَالَ فِي نَحْرِي فَعَلِمْتُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ .

قَالَ : يَا مُحَمَّدُ هَلْ تَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلأُ الأَعْلَى ؟

قُلْتُ : نَعَمْ ، فِي الْكَفَّارَاتِ وَالْكَفَّارَاتُ : الْمُكْثُ فِي الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ وَالْمَشْيُ عَلَى الأَقْدَامِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي الْمَكَارِهِ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَاشَ بِخَيْرٍ وَمَاتَ بِخَيْرٍ وَكَانَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ .

وَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ إِذَا صَلَّيْتَ فَقُلْ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ وَإِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ .

قَالَ : وَالدَّرَجَاتُ إِفْشَاءُ السَّلامِ وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ وَالصَّلاةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ ))

( وَإِذَا أَرَدْت بِعِبَادِك فِتْنَةً ) أَيْ ضَلالَةً أَوْ عُقُوبَةً دُنْيَوِيَّةً

( فَاقْبِضْنِي ) أَيْ تَوَفَّنِي ( غَيْرَ مَفْتُونٍ ) أَيْ غَيْرَ مُنَالٍ أَوْ غَيْرَ مُعَاقَبٍ

 

قَالَ يَحْيَى : وَسُئِلَ مَالِك عَنْ الدُّعَاءِ فِي الصَّلاةِ الْمَكْتُوبَةِ ؟

فَقَالَ : لا بَأْسَ بِالدُّعَاءِ فِيهَا ، وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو فَيَقُولُ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ وَإِذَا أَرَدْتَ فِي النَّاسِ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ .

تمني الموت في آخر الزمان :

ورد النهي عن تمني الموت كما سبق ، ومع ذلك أخبر صلى الله عليه وسلم أنه قرب قيام الساعة سيكون من يتمنى الموت ، بل أن أحدهم يمر بالقبر ويقول يا ليتني كنت مكانك ، بل هناك من سيتمرغ على القبر متمنيًا أن يكون مكانه .

ولكن تمني الموت قد يأتي في موضع الذم وهذا إذا كان تمنيه من أجل ضر يصيبه في دنياه لا في دينه ، وهذا الصنف لا يكون مهتمًا لدينه ، وإنما المهم عنده دنياه .. وهذا مذموم

وقد يأتي تمني الموت عند خوف المرء على دينه من الفتن ، ويريد أن يموت للنجاة منها حرصًا منه على سلامة دينه ورضا ربه تعالى .. وهذا الممدوح .

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ : يَا لَيْتَنِي مَكَانَهُ ))

 

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ عَلَى الْقَبْرِ فَيَتَمَرَّغُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ : يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَكَانَ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ ، وَلَيْسَ بِهِ الدِّينُ إِلا الْبَلاءُ ))

قال ابن حجر :

قَالَ اِبْن بَطَّال : تُغْبَط أَهْل الْقُبُور وَتَمَنِّي الْمَوْت عِنْدَ ظُهُور الْفِتَن إِنَّمَا هُوَ خَوْف ذَهَاب الدِّين بِغَلَبَةِ الْبَاطِل وَأَهْله وَظُهُور الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَر اِنْتَهَى .

وَلَيْسَ هَذَا عَامًّا فِي حَقّ كُلّ أَحَد وَإِنَّمَا هُوَ خَاصّ بِأَهْلِ الْخَيْر , وَأَمَّا غَيْرهمْ فَقَدْ يَكُون لِمَا يَقَع لأَحَدِهِمْ مِنْ الْمُصِيبَة فِي نَفْسه أَوْ أَهْله أَوْ دُنْيَاهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ شَيْء يَتَعَلَّق بِدِينِهِ .

وَيُؤَيِّدهُ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِم " لا تَذْهَب الدُّنْيَا حَتَّى يَمُرّ الرَّجُل عَلَى الْقَبْر فَيَتَمَرَّغ عَلَيْهِ وَيَقُول : يَا لَيْتَنِي مَكَانَ صَاحِب هَذَا الْقَبْر , وَلَيْسَ بِهِ الدِّين إِلا الْبَلاء "

وَالسَّبَب فِي ذَلِكَ مَا ذُكِرَ فِي رِوَايَة أَبِي حَازِم أَنَّهُ : (( يَقَع الْبَلاء وَالشِّدَّة حَتَّى يَكُون الْمَوْت الَّذِي هُوَ أَعْظَم الْمَصَائِب أَهْوَن عَلَى الْمَرْء فَيَتَمَنَّى أَهْوَن الْمُصِيبَتَيْنِ فِي اِعْتِقَاده )) وَبِهَذَا جَزَمَ الْقُرْطُبِيّ , وَذَكَرَهُ عِيَاض اِحْتِمَالاً .

 

وَأَغْرَبَ بَعْض شُرَّاح " الْمَصَابِيح " فَقَالَ : الْمُرَاد بِالدِّينِ هُنَا الْعِبَادَة , وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَتَمَرَّغ عَلَى الْقَبْر وَيَتَمَنَّى الْمَوْت فِي حَالَة لَيْسَ الْمُتَمَرِّغ فِيهَا مِنْ عَادَته وَإِنَّمَا الْحَامِل عَلَيْهِ الْبَلاء .

وَتَعَقَّبَهُ الطِّيبِيُّ : بِأَنَّ حَمْل الدِّين عَلَى حَقِيقَته أَوْلَى , أَيْ لَيْسَ التَّمَنِّي وَالتَّمَرُّغ لأَمْرٍ أَصَابَهُ مِنْ جِهَة الدِّين بَلْ مِنْ جِهَة الدُّنْيَا .

 

وَقَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ . ظَنَّ بَعْضهمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيث مُعَارِض لِلنَّهْيِ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْت , وَلَيْسَ كَذَلِكَ , وَإِنَّمَا فِي هَذَا أَنَّ هَذَا الْقَدْر سَيَكُونُ لِشِدَّةٍ تَنْزِل بِالنَّاسِ مِنْ فَسَاد الْحَال فِي الدِّين أَوْ ضَعْفه أَوْ خَوْف ذَهَابه لا لِضَرَرٍ يَنْزِل فِي الْجِسْم , كَذَا قَالَ , وَكَأَنَّهُ يُرِيد أَنَّ النَّهْي عَنْ تَمَنِّي الْمَوْت هُوَ حَيْثُ يَتَعَلَّق بِضَرَرِ الْجِسْم , وَأَمَّا إِذَا كَانَ لِضَرَرٍ يَتَعَلَّق بِالدِّينِ فَلا . وَقَدْ ذَكَرَهُ عِيَاض اِحْتِمَالاً أَيْضًا

وَقَالَ غَيْره : لَيْسَ بَيْنَ هَذَا الْخَبَر وَحَدِيث النَّهْي عَنْ تَمَنِّي الْمَوْت مُعَارَضَة , لِأَنَّ النَّهْي صَرِيح وَهَذَا إِنَّمَا فِيهِ إِخْبَار عَنْ شِدَّة سَتَحْصُلُ يَنْشَأ عَنْهَا هَذَا التَّمَنِّي , وَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّض لِحُكْمِهِ , وَإِنَّمَا سِيقَ لِلإِخْبَارِ عَمَّا سَيَقَعُ .

 

قُلْت : وَيُمْكِن أَخْذ الْحُكْم مِنْ الإِشَارَة فِي قَوْله " وَلَيْسَ بِهِ الدِّين إِنَّمَا هُوَ الْبَلاء " فَإِنَّهُ سِيقَ مَسَاق الذَّمّ وَالإِنْكَار .

وَفِيهِ إِيمَاء إِلَى أَنَّهُ لَوْ فُعِلَ ذَلِكَ بِسَبَبِ الدِّين لَكَانَ مَحْمُودًا , وَيُؤَيِّدهُ ثُبُوت تَمَنِّي الْمَوْت عِنْدَ فَسَاد أَمْر الدِّين عَنْ جَمَاعَة مِنْ السَّلَف .

قَالَ النَّوَوِيّ لا كَرَاهَة فِي ذَلِكَ بَلْ فَعَلَهُ خَلائِق مِنْ السَّلَف مِنْهُمْ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَعِيسَى الْغِفَارِيّ وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَغَيْرهمْ .

ثُمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيّ : كَأَنَّ فِي الْحَدِيث إِشَارَة إِلَى أَنَّ الْفِتَن وَالْمَشَقَّة الْبَالِغَة سَتَقَعُ حَتَّى يَخِفّ أَمْر الدِّين وَيَقِلّ الاعْتِنَاء بِأَمْرِهِ وَلا يَبْقَى لأَحَدٍ اِعْتِنَاء إِلا بِأَمْرِ دُنْيَاهُ وَمَعَاشه نَفْسه وَمَا يَتَعَلَّق بِهِ , وَمِنْ ثَمَّ عَظُمَ قَدْر الْعِبَادَة أَيَّام الْفِتْنَة كَمَا أَخْرَجَ مُسْلِم مِنْ حَدِيث مَعْقِل بْن يَسَار رَفَعَهُ " الْعِبَادَة فِي الْهَرْج كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ "

 

وَيُؤْخَذ مِنْ قَوْله " حَتَّى يَمُرّ الرَّجُل بِقَبْرِ الرَّجُل " أَنَّ التَّمَنِّي الْمَذْكُور إِنَّمَا يَحْصُل عِنْدَ رُؤْيَة الْقَبْر , وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادًا بَلْ فِيهِ إِشَارَة إِلَى قُوَّة هَذَا التَّمَنِّي لأَنَّ الَّذِي يَتَمَنَّى الْمَوْت بِسَبَبِ الشِّدَّة الَّتِي تَحْصُلُ عِنْدَهُ قَدْ يَذْهَب ذَلِكَ التَّمَنِّي أَوْ يَخِفّ عِنْدَ مُشَاهَدَة الْقَبْر وَالْمَقْبُور فَيَتَذَكَّر هَوْل الْمَقَام فَيَضْعُف تَمَنِّيه , فَإِذَا تَمَادَى عَلَى ذَلِكَ دَلَّ عَلَى تَأَكُّد أَمْر تِلْكَ الشِّدَّة عِنْدَهُ حَيْثُ لَمْ يَصْرِفهُ مَا شَاهِده مِنْ وَحْشَة الْقَبْر وَتَذَكُّر مَا فِيهِ مِنْ الأَهْوَال عَنْ اِسْتِمْرَاره عَلَى تَمَنِّي الْمَوْت .

 

وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِم مِنْ طَرِيق أَبِي سَلَمَة قَالَ :

(( عُدْت أَبَا هُرَيْرَة فَقُلْت : اللَّهُمَّ اِشْفِ أَبَا هُرَيْرَة , فَقَالَ : اللَّهُمَّ لا تَرْجِعهَا , إِنْ اِسْتَطَعْت يَا أَبَا سَلَمَة فَمُتّ , وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى الْعُلَمَاء زَمَان الْمَوْت أَحَبّ إِلَى أَحَدهمْ مِنْ الذَّهَب الأَحْمَر . وَلَيَأْتِيَنَّ أَحَدهمْ قَبْر أَخِيهِ فَيَقُول : لَيْتَنِي مَكَانَهُ ))

وَفِي كِتَاب الْفِتَن مِنْ رِوَايَة عَبْد اللَّه بْن الصَّامِت عَنْ أَبِي ذَرّ قَالَ :

(( يُوشِك أَنْ تَمُرَّ الْجِنَازَة فِي السُّوق عَلَى الْجَمَاعَة فَيَرَاهَا الرَّجُل فَيَهُزّ رَأْسه فَيَقُول : يَا لَيْتَنِي مَكَانَ هَذَا , قُلْت : يَا أَبَا ذَرّ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ أَمْر عَظِيم , قَالَ : أَجَلْ ))

 

 

ومن ذلك تمني الموت عند حدوث البلاء والفتن وفساد الناس

فعن عَبْس الْغِفَارِيَّ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

(( بَادِرُوا بِالْمَوْتِ سِتًّا : إِمْرَةَ السُّفَهَاءِ ، وَكَثْرَةَ الشَّرْطِ ، وَبَيْعَ الْحُكْمِ ، وَاسْتِخْفَافًا بِالدَّمِ ، وَقَطِيعَةَ الرَّحِمِ ، وَنَشْئًا يَتَّخِذُونَ الْقُرْآنَ مَزَامِيرَ يُقَدِّمُونَهُ يُغَنِّيهِمْ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُمْ فِقْهًا ))

 



 

فصل

 

في

 

مَوْت الْفُجَاءَة

 

 

 

 

 

مَوْت الْفُجَاءَة

عَنْ عُبَيْدِ بْنِ خَالِدٍ السُّلَمِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( مَوْتُ الْفَجْأَةِ أَخْذَةُ أَسِفٍ ))

( مَوْت الْفُجَاءَة ) الْفُجَاءَة بِضَمِّ الْفَاء وَبَعْد الْجِيم مَدّ ثُمَّ هَمْز , وَيُرْوَى بِفَتْحٍ ثُمَّ سُكُون بِغَيْرِ مَدّ , وَهِيَ الْهُجُوم عَلَى مَنْ لَمْ يَشْعُر بِهِ . وَمَوْت الْفَجْأَة وُقُوعه بِغَيْرِ سَبَب مِنْ مَرَض وَغَيْره .

وَقَوْله ( أَسَف ) أَيْ غَضَب .

قَالَ اِبْن بَطَّال : والأسف: الغضب، ويحتمل أن يكون ذلك وَاَللَّه أَعْلَم لِمَا فِي مَوْت الْفَجْأَة مِنْ خَوْف حِرْمَان الْوَصِيَّة , وَتَرْك الاسْتِعْدَاد لِلْمَعَادِ ، والتسويف بِالتَّوْبَةِ وَغَيْرهَا مِنْ الأَعْمَال الصَّالِحَة .

وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَد وَبَعْض الشَّافِعِيَّة كَرَاهَة مَوْت الْفَجْأَة , وَنَقَلَ النَّوَوِيّ عَنْ بَعْض الْقُدَمَاء أَنَّ جَمَاعَة مِنْ الأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ مَاتُوا كَذَلِكَ , قَالَ النَّوَوِيّ : وَهُوَ مَحْبُوب لِلْمُرَاقِبِينَ . قُلْت : وَبِذَلِكَ يَجْتَمِع الْقَوْلانِ .

وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ :

(( سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَوْتِ الْفَجْأَةِ ؟ فَقَالَ : رَاحَةٌ لِلْمُؤْمِنِ وَأَخْذَةُ أَسَفٍ للِفَاجِرٍ ))

قَالَ فِي النِّهَايَة : حَدِيث مَوْت الْفَجْأَة رَاحَة لِلْمُؤْمِنِ وَأَخْذَة أَسَف لِلْكَافِرِ أَيْ أَخْذَة غَضَب أَوْ غَضْبَان يُقَال أَسِفَ يَأْسَف أَسَفًا فَهُوَ أَسِف إِذَا غَضِبَ اِنْتَهَى . وَفِي الْقَامُوس : الأَسَف مُحَرَّكَة أَشَدّ الْحُزْن أَسِفَ كَفَرِحَ وَعَلَيْهِ غَضِبَ . وَسُئِلَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَوْت الْفَجْأَة فَقَالَ : " رَاحَة الْمُؤْمِن وَأَخْذَة أَسَف لِلْكَافِرِ " وَيُرْوَى أَسِف كَكَتِفٍ أَيْ أَخْذَة سَخَط أَوْ سَاخِط .

وَقَالَ عَلِيّ الْقَارِي : قَالُوا رُوِيَ فِي الْحَدِيث الأَسَف بِكَسْرِ السِّين وَفَتْحهَا ، فَالْكَسْر الْغَضْبَان وَالْفَتْح الْغَضَب ، أَيْ مَوْت الْفَجْأَة أَثَر مِنْ آثَار غَضَب اللَّه فَلا يَتْرُكهُ لِيَسْتَعِدّ لِمَعَادِهِ بِالتَّوْبَةِ وَإِعْدَاد زَاد الآخِرَة وَلَمْ يُمْرِضهُ لِيَكُونَ كَفَّارَة لِذُنُوبِهِ اِنْتَهَى .

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : الأَسِف الْغَضْبَان آسَفُونَا أَغْضَبُونَا . وَمَنْ هَذَا قَوْله تَعَالَى (( فَلَمَّا آسَفُونَا اِنْتَقَمْنَا مِنْهُمْ )) وَمَعْنَاهُ وَاَللَّه أَعْلَم أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوجِب الْغَضَب عَلَيْهِمْ وَالانْتِقَام مِنْهُمْ .

وقال المناوي : (أخذة أسف) بفتح السين أي غضب وبكسرها والمد أي أخذه غضبان يعني هو من أثار غضب الله تعالى فإنه لم يتركه ليتوب ويستعد للآخرة ولم يمرضه ليكون المرض كفارة لذنوبه كأخذة من مضى من العصاة المردة كما قال تعالى * (أخذناهم بغتة وهم لا يشعرون) * وهذا وارد في حق الكفار والفجار لا في المؤمنين الأتقياء .

 

عن عبدِ اللهِ بنِ عُبيدِ بنِ عُميرٍ قال :

سُئِلَتْ عائشةُ عن موتِ الفَجأةِ أيُكرَهُ ؟ فقالتْ : لأيِّ شيءٍ يُكرَهُ، سألتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ذلك فقال : (( هو رحمةٌ للمؤمنِ وسَخطَةٌ على الكافرِ ))

 

 

وعن عبيد بن عمير قال :

(( مات أخ لعائشة فجأة فقالت عائشة راحة للمؤمن وأخذة أسف على الكافر ))

 

وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ :

(( مَوْتُ الْفَجْأَةِ تَخْفِيفٌ عَلَى الْمُؤْمِنِ، وَأَسَفٌ عَلَى الْكَافِرِ ))

وقال العجلوني : وعند البيهقي عن أبي السكن البحتري قال مات خليل الله يعني إبراهيم عليه السلام فجأة ومات داود فجأة ومات سليمان بن داود فجأة والصالحون وهو تخفيف على المؤمن وتشديد على الكافر.

 

موت الفجأة .. من أشراط الساعة

عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

((مِنَ اقترابِ الساعةِ أنْ يُرَى الهلالُ قَبَلاً فيُقالُ : لِلَيْلَتَيْنِ وأنْ تُتَّخَذَ المساجدُ طرُقًا وأنْ يَظهَرَ موتُ الفَجأةِ ))

قال المناوي :

(من اقتراب الساعة أن يرى الهلال قَبلاً) بفتح القاف والباء أي يرى ساعة ما يطلع لعظمه ووضوحه من غير أن يتطلب (فيقال لليلتين) أي هو ابن ليلتين (وأن تتخذ المساجد طرقا) للمارة يدخل الرجل من باب ويخرج من باب فلا يصلي فيه تحية ولا يعتكف فيه لحظة (وأن يظهر موت الفجأة) فيسقط الإنسان ميتا وهو قائم يكلم صاحبه أو يتعاطى مصالحه.

وعن الشعبي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

(( إن من أشراط الساعة موت الفجأة ))

 

استحباب الاستعاذة من موت الفجأة

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عَمْرٍو

(( أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"اسْتَعَاذَ مِنْ سَبْعِ مَوْتَاتٍ: مِنْ مَوْتِ الْفَجْأَةِ، وَمِنْ لَدْغِ الْحَيَّةِ، وَمِنْ أَكَلِ السَّبْعِ، وَمِنَ الْغَرَقِ، وَمِنَ الْحَرْقِ، وَمِنْ أَنْ يَخِرَّ عَلَى شَيْءٍ أَوْ يَخِرَّ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَمِنَ الْقَتْلِ عِنْدَ فِرَارِ الزَّحْفِ ))

 

استحباب الصدقة على من مات فجأة

وقد بوب الإمام البخاري رحمه الله بابًا بها المعنى في كتاب الوصايا فقال : باب ما يستحب لمن توفي فجأة أن يتصدقوا

وكذلك الإمام النسائي في سننه فقال : باب : إذا مات الفجأة هل يستحب لأهله أن يتصدقوا عنه

وذكر تحته حديث السيدة عائشة التالي :

عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا :

(( أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ  ))

( اُفْتُلِتَتْ ) يُقَال اُفْتُلِتَ فُلان أَيْ مَاتَ فَجْأَة وَافْتُلِتَتْ نَفْسه كَذَلِكَ , وَالْفَلْتَة وَالافْتِلات مَا وَقَعَ بَغْتَة مِنْ غَيْر رَوِيَّة .

قال ابن بطال :

الافتلات عند العرب: المباغتة، يقول: ماتت بغتة .

قَالَ اِبْن رَشِيد :

مَقْصُود الْمُصَنِّف (أي البخاري) وَاَللَّه أَعْلَم الإِشَارَة إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ (أي موت الفجأة) لأَنَّهُ لَمْ يَظْهَر مِنْهُ كَرَاهِيَته لِمَا أَخْبَرَهُ الرَّجُل بِأَنَّ أُمّه اُفْتُلِتَتْ نَفْسُهَا .

وَقَالَ اِبْن الْمُنِير :

لَعَلَّ الْبُخَارِيّ أَرَادَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة أَنَّ مَنْ مَاتَ فَجْأَة فَلْيَسْتَدْرِكْ وَلَده مِنْ أَعْمَال الْبِرّ مَا أَمْكَنَهُ مِمَّا يَقْبَل النِّيَابَة .

قال النووي :

وَفِي هَذَا الْحَدِيث : أَنَّ الصَّدَقَة عَنْ الْمَيِّت تَنْفَع الْمَيِّت وَيُصَلِّهِ ثَوَابهَا , وَهُوَ كَذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاء .

 

 

 

 



فصل

في

الأداب

الواجب مراعاتها

تجاه الموتى

الأدب مع الموتى

 

الترحم على الموتى

يستحب الترحم على الموتى عند ذكرهم ، وهذه سنة نبوية شريفة ، وهو عمل الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من السلف .

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ..))

قوله ( وَيَرْحَم اللَّه لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْن شَدِيد ) : فَالْمُرَاد بِالرُّكْنِ الشَّدِيد هُوَ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى , فَإِنَّهُ أَشَدّ الأَرْكَان وَأَقْوَاهَا وَأَمْنَعهَا .

وَمَعْنَى الْحَدِيث وَاَللَّه أَعْلَم : أَنَّ لُوطًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَافَ عَلَى أَضْيَافه وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَشِيرَة تَمْنَعهُمْ مِنْ الظَّالِمِينَ ضَاقَ ذَرْعه وَاشْتَدَّ حُزْنه عَلَيْهِمْ , فَغَلَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَقَالَ فِي ذَلِكَ الْحَال : " لَوْ أَنَّ لِي بِكَمْ قُوَّة " فِي الدَّفْع بِنَفْسِي " أَوْ آوِي " إِلَى عَشِيرَة تَمْنَع لَمَنَعْتُكُم .

 

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ :

(( قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْمًا فَقَالَ رَجُلٌ : إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَغَضِبَ حَتَّى رَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ : يَرْحَمُ اللَّهَ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ ))

 

 

عن ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ أَوْ قَالَ لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنْ الْمَاءِ لَكَانَتْ عَيْنًا مَعِينًا ، وَأَقْبَلَ جُرْهُمُ فَقَالُوا أَتَأْذَنِينَ أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ قَالَتْ نَعَمْ وَلا حَقَّ لَكُمْ فِي الْمَاءِ قَالُوا نَعَمْ ))

 

وعن عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ : قال في حديث حَكِيم بْنَ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ..

(( فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللَّهُ ))

 

وعن ابن عَبَّاس في قصة إسلام أبي ذر ، قال في آخر الحديث :

(( .. فَكَانَ هَذَا أَوَّلَ إِسْلامِ أَبِي ذَرٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ ))

والأمر في ذلك يطول ولا زال أهل الإسلام من السلف الصالح يترحمون على الموتى عند ذكرهم ، بل ويترحمون أيضًا على الأحياء كما صحت بذلك الآثار والأحاديث .

عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ :

(( سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً يَقْرَأُ فِي الْمَسْجِدِ ، فَقَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهُنَّ مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا ))

وعَنْ عَائِشَةَ :

(( تَهَجَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي فَسَمِعَ صَوْتَ عَبَّادٍ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ ، فَقَالَ يَا عَائِشَةُ أَصَوْتُ عَبَّادٍ هَذَا ؟ قُلْتُ : نَعَمْ قَالَ : اللَّهُمَّ ارْحَمْ عَبَّادًا ))

وعباد : هو عباد بن بشر كما جاء في روايات أخرى للحديث .

 

النهي عن سب الأموات :

عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( لا تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا ))

قال الحافظ في الفتح :

قَوْله : ( أَفْضَوْا ) أَيْ وَصَلُوا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ خَيْر أَوْ شَرّ .

وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَنْع سَبّ الأَمْوَات مُطْلَقًا , وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ عُمُومه مَخْصُوص , وَأَصَحّ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ أَنَّ أَمْوَات الْكُفَّار وَالْفُسَّاق يَجُوز ذِكْر مَسَاوِيهِمْ لِلتَّحْذِيرِ مِنْهُمْ وَالتَّنْفِير عَنْهُمْ . وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى جَوَاز جَرْح الْمَجْرُوحِينَ مِنْ الرُّوَاة أَحْيَاء وَأَمْوَاتًا .انتهى .

عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ :

(( ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَالِكٌ بِسُوءٍ ، فَقَالَ : لا تَذْكُرُوا هَلْكَاكُمْ إِلا بِخَيْرٍ ))

قال السيوطي :

قِيلَ مَا الْجَمْع بَيْن هَذَا وَنَحْوه وَبَيْن الْحَدِيث السَّابِق وَمُرَّ بِجِنَازَة فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :وَجَبَتْ وَلَمْ يَنْهَهُمْ عَنْ الثَّنَاء بِالشَّرِّ

وَأَجَابَ النَّوَوِيّ بِأَنَّ النَّهْي عَنْ سَبّ الأَمْوَات هُوَ فِي غَيْر الْمُنَافِق وَالْكَافِر وَفِي غَيْر الْمُتَظَاهِر بِفِسْقٍ أَوْ بِدْعَة فَأَمَّا هَؤُلاءِ فَلا يَحْرُم ذِكْرهمْ بِالشَّرِّ لِلتَّحْذِيرِ مِنْ طَرِيقهمْ وَمِنْ الاقْتِدَاء بِآثَارِهِمْ وَالتَّخَلُّق بِأَخْلاقِهِمْ

قَالَ : وَالْحَدِيث الآخَر مَحْمُول عَلَى أَنَّ الَّذِي أَثْنَوْا عَلَيْهِ شَرًّا كَانَ مَشْهُورًا بِنِفَاقٍ أَوْ نَحْوه مِمَّا ذَكَرْنَا .

 

وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( إِذَا مَاتَ صَاحِبُكُمْ فَدَعُوهُ وَلا تَقَعُوا فِيهِ ))

( إِذَا مَاتَ صَاحِبكُمْ ) : أَيْ الْمُؤْمِن الَّذِي كُنْتُمْ تَجْتَمِعُونَ بِهِ وَتُصَاحِبُونَهُ

( فَدَعُوهُ ) : أَيْ اُتْرُكُوهُ مِنْ الْكَلام فِيهِ بِمَا يُؤْذِيه لَوْ كَانَ حَيًّا

( وَلا تَقَعُوا فِيهِ ) : أَيْ لا تَتَكَلَّمُوا فِي عِرْضه بِسُوءٍ فَإِنَّهُ قَدْ أَفْضَى إِلَى مَا قَدَّمَ , وَغِيبَة الْمَيِّت أَفْحَش مِنْ غِيبَة الْحَيّ وَأَشَدُّ لأَنَّ عَفْو الْحَيّ وَاسْتِحْلاله مُمْكِن بِخِلافِ الْمَيِّت

 

حرمة أجساد الموتى :

عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا ))

وفي رواية :

(( إِنَّ كَسْرَ عَظْمِ الْمُؤْمِنِ مَيْتًا مِثْلُ كَسْرِهِ حَيًّا ))

 

وكانت عَائِشَةَ تَقُولُ :

(( كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ مِثْلُ كَسْرِ عَظْمِ الْحَيِّ ))

 

 

 

 

حكم نقل الأعضاء من الميت لإنسان حي :

جاء في القرار رقم (26) بشأن انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر ، حياً كان أو ميتاً :

" إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية ، من 18-23 صفر 1408هـ الموافق 6-11 شباط ( فبراير ) 1988 م ، بعد اطلاعه على الأبحاث الفقهية والطبية الواردة إلى المَجمع ، بخصوص موضوع انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاً .

(( يجوز نقل عضو من ميت إلى حي تتوقف حياته على ذلك العضو ، أو تتوقف سلامة وظيفة أساسية فيه على ذلك ، بشرط أن يأذن الميت قبل موته أو ورثته بعد موته .

أو بشرط موافقة ولي أمر المسلمين إن كان المتوفى مجهول الهوية أو لا ورثة له .

وينبغي ملاحظة : أنَّ الاتفاق على جواز نقل العضو في الحالات التي تم بيانها ، مشروط بأن لا يتم ذلك بواسطة بيع العضو ؛ إذ لا يجوز إخضاع أعضاء الإنسان للبيع بحال ما )).

 

تشريح الجثث لغرض تعلم الطب

قامت المجامع الفقهية واللجان العلمية بدراسات مفصلة لتحقيق حكم تشريح جثة الإنسان لغرض تعليم الطب ، وذلك أن المسألة تنازعها أصلان كبيران :

الأول : حرمة الميت في الشريعة ، وما جاء من التشديد في احترامه وتقديره .

الثاني : المصلحة الضرورية المترتبة على التشريح في حالات كثيرة .

ونحن ننقل هنا الفتاوى الصادرة في هذا الشأن عن الهيئات العلمية وبعض أهل العلم المعاصرين ، وخلاصتها أنه لا حرج من استعمال الجثث في التشريح لغرض تعلم الطب وتعليمه ، ولكن بشرط ألا تكون الجثة لإنسان معصوم الدم ، وألا يتجاوز فيها قدر الحاجة والضرورة .

جاء في قرارات "المجمع الفقهي الإسلامي" بمكة المكرمة نقلا عن "فقه النوازل" للجيزاني (4/208-209) ما يلي :

"بناء على الضرورات التي دعت إلى تشريح جثث الموتى ، والتي يصير بها التشريح مصلحة تربو على مفسدة انتهاك كرامة الإنسان الميت ، قرر مجلس المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي ما يأتي :

أولا : يجوز تشريح جثث الموتى لأحد الأغراض الآتية :

أ‌- التحقيق في دعوى جنائية لمعرفة أسباب الموت أو الجريمة المرتكبة وذلك عندما يشكل على القاضي معرفة أسباب الوفاة ويتبين أن التشريح هو السبيل لمعرفة هذه الأسباب .

ب‌- التحقق من الأمراض التي تستدعي التشريح ليتخذ على ضوئه الاحتياطات الواقية والعلاجات المناسبة لتلك الأمراض .

ت‌- تعليم الطب وتعلمه كما هو الحال في كليات الطب .

 

ثانيا : في التشريح لغرض التعليم تراعى القيود التالية :

أ‌- إذا كانت الجثة لشخص معلوم يشترط أن يكون قد أذن هو قبل موته بتشريح جثته ، أو أن يأذن بذلك ورثته بعد موته ، ولا ينبغي تشريح جثة معصوم الدم إلا عند الضرورة .

ب‌- يجب أن يقتصر في التشريح على قدر الضرورة كيلا يعبث بجثث الموتى .

ت‌- جثث النساء لا يجوز أن يتولى تشريحها غير الطبيبات إلا إذا لم يوجدن .

 

ثالثا : يجب في جميع الأحوال دفن جميع أجزاء الجثة المشرحة " انتهى .

 

 

 

وجاء في كتاب "البحوث العلمية" لهيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية (2/83-84) ما يلي :

الموضوع ينقسم إلى ثلاثة أقسام :

الأول : التشريح لغرض التحقق عن دعوى جنائية .

الثاني : التشريح لغرض التحقق عن أمراض وبائية ؛ لتتخذ على ضوئه الاحتياطات الكفيلة بالوقاية منها .

الثالث : التشريح للغرض العلمي تعلما وتعليما .

وبعد تداول الرأي والمناقشة ودراسة البحث المقدم من اللجنة قرر المجلس ما يلي :

بالنسبة للقسمين الأول والثاني : فإن المجلس يرى : أن في إجازتهما تحقيقا لمصالح كثيرة في مجالات الأمن والعدل ووقاية المجتمع من الأمراض الوبائية ، ومفسدة انتهاك كرامة الجثة المشرحة مغمورة في جنب المصالح الكثيرة والعامة المتحققة بذلك .

وإن المجلس لهذا يقرر بالإجماع : إجازة التشريح لهذين الغرضين ، سواء كانت الجثة المشرحة جثة معصوم أم لا .

وأما بالنسبة للقسم الثالث : وهو التشريح للغرض التعليمي فنظرا إلى أن الشريعة الإسلامية قد جاءت بتحصيل المصالح وتكثيرها ، وبدرء المفاسد وتقليلها ، وبارتكاب أدنى الضررين لتفويت أشدهما ، وأنه إذا تعارضت المصالح أخذ بأرجحها .

وحيث إن تشريح غير الإنسان من الحيوانات لا يغني عن تشريح الإنسان .

وحيث إن في التشريح مصالح كثيرة ظهرت في التقدم العلمي في مجالات الطب المختلفة : فإن المجلس يرى : جواز تشريح جثة الآدمي في الجملة ، إلا أنه نظرا إلى عناية الشريعة الإسلامية بكرامة المسلم ميتا كعنايتها بكرامته حيا ؛ وذلك لما روى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كسر عظم الميت ككسره حيا ) ، ونظرا إلى أن التشريح فيه امتهان لكرامته ، وحيث إن الضرورة إلى ذلك منتفية بتيسر الحصول على جثث أموات غير معصومة : فإن المجلس يرى الاكتفاء بتشريح مثل هذه الجثث وعدم التعرض لجثث أموات معصومين " انتهى .

 

كما جاء في "مجموع فتاوى ابن باز" (22/349) ما يلي :

" إذا كان الميت معصوما في حياته - سواء كان مسلما أو كافرا ، وسواء كان رجلا أو امرأة - فإنه لا يجوز تشريحه ، لما في ذلك من الإساءة إليه وانتهاك حرمته ، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( كسر عظم الميت ككسره حيا ) رواه أبو داود (2792) .

أما إذا كان غير معصوم كالمرتد والحربي فلا أعلم حرجا في تشريحه للمصلحة الطبية " انتهى  والله أعلم .

هل يجوز للمسلم التبرع بجسده للبحث الطبي بعد وفاته

لا يجوز للمسلم أن يتبرع بجسده للبحث الطبي بعد وفاته ، وذلك لأن البحث الطبي قائم على تشريح الجثة وتقطيعها وفحصها ، وإجراء التجارب والاختبارات عليها ، ومثل هذه الأمور لا يحل فعلها بجسد المسلم .

ويدل على ذلك جملة من الأمور وهي:

الأول :أن حرمة جسد المسلم بعد وفاته محفوظة مصونة ، لا يجوز الاعتداء عليها بأي نوع من أنواع الأذى ، سواء بجرح أو تكسير أو تشريح أو غيره إلا لموجب شرعي يقتضي ذلك .

وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا ). رواه أبو داود

وعند ابن ماجه بلفظ : ( كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِ عَظْمِ الْحَيِّ فِي الْإِثْمِ )

قَالَ الطِّيبِيُّ : " إِشَارَة إِلَى أَنَّهُ لَا يُهَان مَيِّتًا كَمَا لَا يُهَان حَيًّا ". انتهى

وقال الباجي : " يُرِيدُ أَنَّ لَهُ مِنْ الْحُرْمَةِ فِي حَالِ مَوْتِهِ مِثْلَ مَا لَهُ مِنْهَا حَالَ حَيَاتِهِ ، وَأَنَّ كَسْرَ عِظَامِهِ فِي حَالِ مَوْتِهِ يَحْرُمُ ، كَمَا يَحْرُمُ كَسْرُهَا حَالَ حَيَاتِهِ " .

 

الثاني :أن الواجب في جسد المسلم بعد موته تغسيله وتكفينه والصلاة عليه ثم دفنه ، وفي تبرعه بجسده للبحث الطبي إسقاط لهذه الواجبات .

 

الثالث :أن جعل جثة المسلم محلاً للتشريح والتدريب والتعليم مناف لتكريم الله له .

وأما وجود الحاجة لتشريح الجثث للبحث العلمي ، فهذه الحاجة يمكن أن تتحقق بجثث غير المعصومين . (غير المعصوم هو الكافر الحربي ، والمرتد عن الإسلام )

وقد صدر بذلك قرار من هيئة كبار العلماء جاء فيه :

" ... نظراً إلى أن التشريح فيه امتهان لكرامته [ أي المسلم ] ، وحيث إن الضرورة إلى ذلك منتفية بتيسير الحصول على جثث أموات غير معصومة ، فإن المجلس يرى الاكتفاء بتشريح مثل هذه الجثث وعدم التعرض لجثث أموات معصومين ". أبحاث هيئة كبار العلماء (2 / 84) والله أعلم  .

 

لا يجوز الاحتفاظ بأجزاء من المتوفين :

س : مركز الطب الشرعي يريد إنشاء متحف للطب الشرعي ، والذي سوف يضم عينات وصوراً ومعلومات عن الطب الشرعي ، ومن هذه العينات التي نرغب في عرضها عينات وأجزاء من بعض المتوفين ، والتي تتضح فيها حقائق علمية ، وسوف يتم حفظ هذه العينات بمادة حافظة ، وتعرض في مكان خاص ، علماً بأن أهمية هذه العينات ترجع إلى : أولاً : ندرة وجودها ، وثانيا : أن لها أهمية تعليمية لذوي التحقيقات الطبية ، مثل ذلك : جزء من عظم اخترقه عيار ناري ، كما سوف يعرض صور فوتوغرافية لبعض حالات الطب الشرعي ، والتي تتضح لها علامات طبية شرعية ، مع العلم بأنه سوف نلتزم بإخفاء العورات وصور الوجه ؛ حفظاً لكرامة الإنسان المتوفى . فهل هذا جائز ؟

الحمد لله : "لا يجوز الاحتفاظ بأجزاء الإنسان المنفصلة منه ، بل يجب دفنها ؛ لحرمة الإنسان ووجوب صيانة أجزائه من الامتهان ، قال صلى الله عليه وسلم : (كسر عظم الميت ككسره حياً)

وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم" انتهى .

الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز .. الشيخ عبد الله بن غديان .. الشيخ صالح الفوزان .. الشيخ بكر أبو زيد ."فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" ( 25/99)

 

حرمة قبور المسلمين :

تمتد حرمة المسلم ميتًا ، إلى حرمة قبره المدفون فيه أيضًا ، فلا يجوز التعدي عليه ولا امتهانه

س : وجدت في طرف أرضي ثلاثة قبور فماذا أصنع بها ؟ هل يجوز أن أنقل رفاتها إلى مكان آخر ؟

الجواب : الحمد لله

الأصل أنهم قبروا في أرض موات ملكوها بقبرهم فيها ، فلا يجوز التعرض لها لا بنبش ولا باستطراق ولا بابتذال وينبغي أن تحاط بسور يمنع عنها الامتهان والابتذال ويحفظ لأصحابها كرامتهم لأن حرمة الميت من المسلمين كحرمته حيا ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .

اللجنة الدائمة فتاوى إسلامية 3/22

 

س: في قريتنا أصبحت المقابر تُمتهن حيث صارت طريقاً للإبل والبقر والماعز والسيارات ، بل والأدهى من ذلك أن بعضاً من الناس تقدموا للبناء عليها ، فما هو توجيه سماحتكم لهذا الأمر ؟

الجواب :

الحمد لله : هذا لا يجوز ، فإن المقبرة لا يجوز أن يُتعرض لها بشيء ما دام أن رفات الموتى موجود فيها ، فإن حرمة الميت كحرمة الحي . فلا يجوز امتهان المقبرة لا بوطء ولا بجعلها طرقاً ، ولا بالصلاة فيها ولا بإدخالها في مساكن الناس ، كل هذا لا يجوز ، إلا إذا كانت المقبرة قد صار ساكنوها من الأموات رميماً تراباً لم يبق لهم أي جثة ما ، فهذا وبهذه الحالة ، لا بأس باستعمال المقبرة كمزارع أو بيوت أو غير ذلك ، أما ما دام يوجد فيها شيء من جثث الموتى ، فلا يجوز استعمالها والمشي عليها لأن المسلم الميت تقدم إلى هذا المكان قبلكم وسبق إليه فهو أحق به وحرمته وهو ميت كحرمته وهو حي ، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى رجلاً يطأ القبور قال : ( لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده ، خير له من أن يجلس على قبر ) رواه مسلم رقم ، وأبو داود ، فهذا تحذير لما في ذلك من امتهان المسلم ، وقد ذكر العلماء أنه : يحرم التخلي بين القبور ، ولا يجوز الجلوس على القبور ، ولا يجوز الجلوس على القبر ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تجلسوا على القبور ، ولا تصلوا إليها ) رواه مسلم رقم ، وأبو داود ، ولا الاتكاء عليه ، ولا وطء القبور بالاقدام أو امتهانها ، فكل ذلك لا يجوز ، والله الموفق .

فتاوى سماحة الشيخ عبد الله بن حميد ص 161

 

 

 

 

 

 

ما سبق من حرمات وآداب لا ينطبق على الكفار

جثث المشركين لا حرمة لها ، ولكن إذا مات أحدهم في بلاد المسلمين ، وجب دفنه ، حتى لا يتأذي أحد به .

عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ :

(( قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ مَاتَ فَمَنْ يُوَارِيهِ ؟ قَالَ : اذْهَبْ فَوَارِ أَبَاكَ ، وَلَا تُحْدِثَنَّ حَدَثًا حَتَّى تَأْتِيَنِي ، فَوَارَيْتُهُ ثُمَّ جِئْتُ ، فَأَمَرَنِي فَاغْتَسَلْتُ وَدَعَا لِي ))

قَوْله ( إِنَّ عَمَّك ) هُوَ أَبُو طَالِبٍ

( وَلَا تُحْدِثَنَّ ) نَهْيٌ مِنْ الْإِحْدَاثِ أَيْ لَا تَفْعَلْنَ

( فَاغْتَسَلْت ) مَبْنِيّ عَلَى أَنَّهُ غَسَّلَهُ وَأَنَّ مَنْ يُغَسِّلُ الْمَيِّتَ يستحب لَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ وهذا على العموم

وَالْحَدِيث فِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ أَبَا طَالِب مَاتَ عَلَى غَيْر مِلَّة الْإِسْلَام وَفِي هَذَا نُصُوص صَرِيحَة رَوَاهَا مُسْلِم فِي صَحِيحه وَغَيْره , وَهَذَا الْقَوْل هُوَ الْحَقّ الصَّوَاب وَلَا يُلْتَفَت إِلَى قَوْل مَنْ ذَهَبَ إِلَى إِثْبَات إِسْلَامه فَهُوَ غَلَط مَرْدُود مُخَالِف لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة وَاَللَّه أَعْلَم .

 

لا يجوز الترحم على الكفار وإنما يبشرون بالنار :

عن ابن عمر رضي الله عنهما قَالَ :

(( جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي كَانَ يَصِلُ الرَّحِمَ وَكَانَ وَكَانَ فَأَيْنَ هُوَ ؟ قَالَ : فِي النَّارِ ، قَالَ : فَكَأَنَّهُ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيْنَ أَبُوكَ ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

"حَيْثُمَا مَرَرْتَ بِقَبْرِ مُشْرِكٍ فَبَشِّرْهُ بِالنَّارِ"

قَالَ : فَأَسْلَمَ الْأَعْرَابِيُّ بَعْدُ وَقَالَ : لَقَدْ كَلَّفَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَبًا مَا مَرَرْتُ بِقَبْرِ كَافِرٍ إِلَّا بَشَّرْتُهُ بِالنَّارِ ))

قال الألباني : وفي هذا الحديث فائدة هامة أغفلتها عامة كتب الفقه ، ألا وهي مشروعية تبشير الكافر بالنار إذا مر بقبره . و لا يخفى ما في هذا التشريع من إيقاظ المؤمن وتذكيره بخطورة جرم هذا الكافر حيث ارتكب ذنبا عظيما تهون ذنوب الدنيا كلها تجاهه و لو اجتمعت ، وهو الكفر بالله عز و جل والإشراك به الذي أبان الله

تعالى عن شدة مقته إياه حين استثناه من المغفرة فقال : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) ، و لهذا قال صلى الله عليه وسلم : " أكبر الكبائر أن تجعل لله ندا و قد خلقك " متفق عليه .

وإن الجهل بهذه الفائدة مما أودى ببعض المسلمين إلى الوقوع في خلاف ما أراد

الشارع الحكيم منها ، فإننا نعلم أن كثيرا من المسلمين يأتون بلاد الكفر لقضاء بعض المصالح الخاصة أو العامة ، فلا يكتفون بذلك حتى يقصدوا زيارة بعض قبور من يسمونهم بعظماء الرجال من الكفار ويضعون على قبورهم الأزهار و الأكاليل ويقفون أمامها خاشعين محزونين ، مما يشعر برضاهم عنهم و عدم مقتهم إياهم ،مع أن الأسوة الحسنة بالأنبياء عليهم السلام تقضي خلاف ذلك كما في هذا الحديث الصحيح و اسمع قول الله عز و جل : ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين

معه إذ قالوا لقومهم إنا برءآؤ منكم و مما تعبدون من دون الله كفرنا بكم و بدا بيننا وبينكم العداوة و البغضاء أبدًا ) الآية ، هذا موقفهم منهم و هم أحياء فكيف و هم أموات ؟!

راجع النسائي من أول باب زيارة قبر المشرك

 

 

 

 

فصل

 

في

 

تحريم النياحة

 

 

تعريف النياحة :

هي رفع الصوت بالندب على الميت ، ويصاحبها العديد من الأفعال القبيحة كلطم الوجه وشق الثوب وحلق الشعر والتلفظ بألفاظ التسخط والذم .

وذلك كله ينافي الصبر الواجب ، والنياحة من الكبائر لشدة الوعيد والعقوبة ، لأنها تسخط بقضاء الله

 

البيعة على ترك النياحة :

النياحة من أمور الجاهلية البشعة ، ولما أتى الإسلام نهى عنها وحرمها ، وأعطى لهذا التحريم عناية خاصة ، لما فيها من قبيح فعل وسوء اعتقاد ، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبايع النساء على ترك النياحة وأفعالها .

 

عن أَسِيد بْن أَبِي أَسِيدٍ عَنْ امْرَأَةٍ مِنَ الْمُبَايِعَاتِ قَالَتْ :

(( كَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَعْرُوفِ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْنَا : أَنْ لا نَعْصِيَهُ فِيهِ أَنْ لا نَخْمُشَ وَجْهًا ، وَلا نَدْعُوَ وَيْلاً ، وَلا نَشُقَّ جَيْبًا ، وَأَنْ لا نَنْشُرَ شَعَرًا ))

( أَنْ لا نَخْمِش ) : أَيْ لا نَخْدِش

( وَلا نَدْعُو وَيْلاً ) : وَالْوَيْل أَنْ يَقُول عِنْد الْمُصِيبَة وَاوَيْلاه

( وَلا نَشُقّ جَيْبًا ) : الْجَيْب هُوَ مَا يُفْتَح مِنْ الثَّوْب لِيَدْخُل فِيهِ الرَّأْس ، أي فتحة صدر الثوب ، وهو من عادات أهل الجاهلية ، فتمسك إحداهن بفتحة الثوب من عند الصدر ثم تشقه .

( وَلا نَنْشُر شَعْرًا ) : أَيْ لا نَنْشُر وَلا نُفَرِّق شَعْرًا , حيث تقوم المرأة بكشف شعرها وتهييجه بشكل قبيح ونشره للمبالغة في الحزن .

 

وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( "وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ" قَالَ : النَّوْحُ ))

 

وعن عبدالله بن عمرو قَالَ :

(( جَاءَتْ أُمَيْمَةُ بِنْتُ رُقَيْقَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُبَايِعُهُ عَلَى الإِسْلامِ ، فَقَالَ : أُبَايِعُكِ عَلَى أَنْ لا تُشْرِكِي بِاللَّهِ شَيْئًا ، وَلا تَسْرِقِي ، وَلا تَزْنِي ، وَلا تَقْتُلِي وَلَدَكِ ، وَلا تَأْتِي بِبُهْتَانٍ تَفْتَرِينَهُ بَيْنَ يَدَيْكِ وَرِجْلَيْكِ ، وَلا تَنُوحِي ، وَلا تَبَرَّجِي تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ))

 

وعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ :

(( أَخَذَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْبَيْعَةِ أَنْ لا نَنُوحَ فَمَا وَفَتْ مِنَّا امْرَأَةٌ غَيْرَ خَمْسِ نِسْوَةٍ : أُمِّ سُلَيْمٍ ، وَأُمِّ الْعَلاءِ ، وَابْنَةِ أَبِي سَبْرَةَ امْرَأَةِ مُعَاذٍ ، وَامْرَأَتَيْنِ ))

( عِنْد الْبَيْعَة ) أَيْ لَمَّا بَايَعَهُنَّ عَلَى الإِسْلام .

( فَمَا وَفَتْ ) أَيْ بِتَرْكِ النَّوْح .

1ـ أُمّ سُلَيْمٍ هِيَ بِنْت مِلْحَان وَالِدَة أَنَس

2ـ أُمّ الْعَلاء

3ـ اِمْرَأَة مُعَاذ وَهُوَ اِبْن جَبَل هِيَ أُمّ عَمْرو بِنْت خَلاد بْن عَمْرو السُّلَمِيَّة ذَكَرَهَا اِبْن سَعْد

4ـ بِنْت أَبِي سَبْرَة , وَلَعَلَّ بِنْت أَبِي سَبْرَة يُقَال لَهَا أُمّ كُلْثُوم

5ـ أُمّ عَطِيَّة رَاوِيَة الْحَدِيث .فعند الطبراني عَنْ أُمّ عَطِيَّة بِلَفْظِ ((فَمَا وَفَتْ غَيْرِي وَغَيْر أُمّ سُلَيْمٍ))

وَفِي حَدِيث أُمّ عَطِيَّة مِصْدَاق مَا وَصَفَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُنَّ نَاقِصَات عَقْل وَدِين . وَفِيهِ فَضِيلَة ظَاهِرَة لِلنِّسْوَةِ الْمَذْكُورَات

قَالَ عِيَاض : مَعْنَى الْحَدِيث لَمْ يَفِ مِمَّنْ بَايَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أُمّ عَطِيَّة فِي الْوَقْت الَّذِي بَايَعَتْ فِيهِ النِّسْوَة إِلا الْمَذْكُورَات , لا أَنَّهُ لَمْ يَتْرُك النِّيَاحَة مِنْ الْمُسْلِمَات غَيْر خَمْسَة .

 



 

النهي عن النياحة :

عن أبي حَرِيزٍ مَوْلَى مُعَاوِيَةَ قَالَ : خَطَبَ مُعَاوِيَةُ بِحِمْصَ فَذَكَرَ فِي خُطْبَتِهِ :

(( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ النَّوْحِ ))

وهذا النهي : نهي تحريم

عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ :

(( نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُتْبَعَ جِنَازَةٌ مَعَهَا رَانَّةٌ ))

قَوْله ( مَعَهَا رَانَّة ) الرَّنَّة بِتَشْدِيدِ النُّون الصَّوْت ، رَنَّتْ الْمَرْأَة إِذَا صَاحَتْ

 

عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ :

(( مَرَّتْ بِنَا جِنَازَةٌ فَقَالَ : ابْنُ عُمَرَ لَوْ قُمْتَ بِنَا مَعَهَا ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَقَبَضَ عَلَيْهَا قَبْضًا شَدِيدًا فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ الْمَقَابِرِ سَمِعَ رَنَّةً مِنْ خَلْفِهِ وَهُوَ قَابِضٌ عَلَى يَدِي فَاسْتَدَارَنِي فَاسْتَقْبَلَهَا فَقَالَ لَهَا شَرًّا وَقَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُتْبَعَ جِنَازَةٌ مَعَهَا رَانَّةٌ ))

 

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ :

(( أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ فَوَجَدَهُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ ، فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَهُ فِي حِجْرِهِ فَبَكَى ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ : أَتَبْكِي أَوَلَمْ تَكُنْ نَهَيْتَ عَنْ الْبُكَاءِ ؟ قَالَ : لا وَلَكِنْ نَهَيْتُ عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ : صَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ خَمْشِ وُجُوهٍ وَشَقِّ جُيُوبٍ ، وَرَنَّةِ شَيْطَانٍ ))

قَوْلُهُ : ( يَجُودُ بِنَفْسِهِ ) أَيْ يَخْرُجُهَا وَيَدْفَعُهَا كَمَا يَدْفَعُ الإِنْسَانُ مَالَهُ .

( خَمْشِ وُجُوهٍ ) مَصْدَرُ خَمَشَتْ الْمَرْأَةُ وَجْهَهَا خَمْشًا إِذَا قَشَّرَتْ بِالأَظْفَارِ

( وَرَنَّةِ الشَّيْطَانِ ) صَوْتٌ مَعَ بُكَاءٍ فِيهِ تَرْجِيعٌ كَالْقَلْقَلَةِ كَذَا فِي مَجْمَعِ الْبِحَارِ .

قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْخُلاصَةِ :

الْمُرَادُ بِهِ الْغِنَاءُ وَالْمَزَامِيرُ . قَالَ وَكَذَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ .

قَالَ الْعِرَاقِيُّ : وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ رَنَّةُ النَّوْحِ لا رَنَّةُ الْغِنَاءِ وَنُسِبَ إِلَى الشَّيْطَانِ لأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَوَّلُ مَنْ نَاحَ إِبْلِيسُ , وَتَكُونُ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ قَدْ ذُكِرَ فِيهَا أَحَدُ الصَّوْتَيْنِ فَقَطْ وَاخْتُصِرَ الآخَرُ .

وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ :

" إِنِّي لَمْ أَنْهَ عَنْ الْبُكَاءِ إِنَّمَا نَهَيْت عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ صَوْتِ نَغْمَةِ لَهْوٍ وَلَعِبٍ وَمَزَامِيرِ شَيْطَانٍ , وَصَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ خَمْشِ وُجُوهٍ وَشَقِّ جُيُوبٍ وَرَنَّةٍ .

 

 

 



 

 

النياحة من أعمال الكفر

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ : الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ ))

وعنه :

(( شُعْبَتَانِ من أَمْرِ الجاهليةِ لا يَتْرُكُهُما الناسُ أبدًا : النِّياحَةُ ، و الطَّعْنُ في النَّسَبِ ))

قال النووي :

(اِثْنَتَانِ فِي النَّاس هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ) وَفِيهِ أَقْوَال أَصَحُّهَا أَنَّ مَعْنَاهُ :

الأول : هُمَا مِنْ أَعْمَال الْكُفَّار وَأَخْلاق الْجَاهِلِيَّة . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْكُفْر . وَالثَّالِث : أَنَّهُ كُفْرُ النِّعْمَةِ وَالإِحْسَانِ . وَالرَّابِعُ : أَنَّ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَحِلِّ .

وَفِي هَذَا الْحَدِيث تَغْلِيظُ تَحْرِيمِ الطَّعْنِ فِي النَّسَب وَالنِّيَاحَةِ . وَقَدْ جَاءَ فِي كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا نُصُوصٌ مَعْرُوفَةٌ . وَاَللَّه أَعْلَم .

قال ابن عثيمين :

قوله ( بهم كفر ) : الباء يحتمل أن تكون بمعنى " من " ، أي : هما منهم كفر ، ويحتمل أن تكون بمعنى " في " أي : هما فيهم كفر .

قوله ( كفر ) أي : هاتان الخصلتان كفر ولا يلزم من وجود خصلتين من الكفر في المؤمن أن يكون كافراً ، كما لا يلزم من وجود خصلتين في الكافر من خصال الإيمان ، كالحياء ، والشجاعة ، والكرم ، أن يكون مؤمناً .

قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمة الله :

( بخلاف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( بين الرجل والشرك والكفر ترك الصلاة )) فإنه هنا أتى بأل الدالة على الحقيقة ، فالمراد بالكفر هنا الكفر المخرج عن الملة ، بخلاف مجيء " كفر " نكرة ، فلا يدل على الخروج عن الإسلام .

( الطعن في النسب ) أي : العيب فيه أو نفيه ، فهذا عمل من أعمال الكفر .

( النياحة على الميت ) أي : أن يبكي الإنسان على الميت بكاء على صفة نوح الحمام ، لأن هذا يدل على التضجر وعدم الصبر ، فهو مناف للصبر الواجب .

والناس حال المصيبة على مراتب أربع :

الأولى : السخط ، وهو إما أن يكون بالقلب كأن يسخط على ربه ويغضب على قدر الله عليه ، وقد يؤدى إلى الكفر ، قال تعالى (( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير أطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجه خسر الدنيا والآخرة ))  ، وقد يكون باللسان ، كالدعاء بالويل والثبور وما أشبه ذلك ، وقد يكون بالجوارح ، كلطم الخدود ، وشق الجيوب ، ونتف الشعور ، و أشبه ذلك .

الثانية : الصبر ، وهو كما قال الشاعر :

الصبر مثل اسمه مر مذاقته      لكن عواقبه أحلى من العسل

فيرى الإنسان أن هذا الشيء ثقيل عليه ويكرهه ، لكنه يتحمله ويتصبر ، وليس وقوعه وعدمه سواء عنده ، بل يكره هذا ولكن إيمانه يحميه من السخط .

الثالثة : الرضا ، وهو أعلى من ذلك ، وهو أن يكون الأمران عنده سواء بالنسبة لقضاء الله وقدرة وإن كان قد يحزن من المصيبة ، لأنه رجل يسبح في القضاء والقدر ، أينما ينزل به القضاء والقدر فهو نازل به على سهل أو جبل ، إن أصيب بنعمه أو أصيب بضدها ، فالكل عنده سواء ، لا لأن قلبه ميت ، بل لتمام رضاء ربه سبحانه وتعالى يتقلب في تصرفات الرب عز وجل ، ولكنها عنده سواء ، إذ إنه ينظر إليها باعتبارها قضاء لربه ، وهذا الفرق بين الرضا والصبر .

الرابعة : الشكر ، وهو أعلى المراتب ، وذلك أن يشكر الله على ما أصابه من مصيبة ، وذلك يكون في عباد الله الشاكرين حين يرى أن هناك مصائب أعظم منها ، وأن مصائب الدنيا أهون من مصائب الدين ، وأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، وأن هذه المصيبة سبب لتكفير سيئاته وربما لزيادة حسناته شكر الله على ذلك ، قال النبي صلى الله عليه وسلم (ما يصيب المؤمن من هو ولا غم ولا شيء إلا كفر له بها ، حتى الشوكة يشاكها) كما أنه قد يزداد إيمان المرء بذلك .



 

براءة النبي صلى الله عليه وسلم من أفعال النياحة

كثيرًا ما يصاحب النياحة على الميت بعض الأفعال التي يقوم بها الناس لإظهار الحزن والمبالغة فيه ، وهي أفعال قبيحة ، لا تظهر سوى الجزع والسخط ، وقد تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الأفعال ، ونبه على أنها من أفعال الجاهلية ، وحرمها على أمته تحريمًا جازمًا .

عن أبي بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى قَالَ :

(( وَجِعَ أَبُو مُوسَى وَجَعًا فَغُشِيَ عَلَيْهِ وَرَأْسُهُ فِي حَجْرِ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِهِ ، فَصَاحَتْ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا شَيْئًا ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ : أَنَا بَرِيءٌ مِمَّا بَرِئَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِئَ مِنْ الصَّالِقَةِ ، وَالْحَالِقَةِ ، وَالشَّاقَّةِ ))

وفي رواية :

(( وَأَقْبَلَتْ امْرَأَتُهُ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ تَصِيحُ بِرَنَّةٍ ، ثُمَّ أَفَاقَ قَالَ : أَلَمْ تَعْلَمِي وَكَانَ يُحَدِّثُهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ حَلَقَ وَسَلَقَ وَخَرَقَ ))

وفي رواية :

(( فَقَالَ أَبْرَأُ إِلَيْكُمْ كَمَا بَرِئَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَيْسَ مِنَّا مَنْ حَلَقَ وَلا خَرَقَ وَلا سَلَقَ ))

( تَصِيح بِرَنَّةٍ ) الرَّنَّة صَوْتٌ مَعَ الْبُكَاء فِيهِ تَرْجِيع كَالْقَلْقَلَةِ وَاللَّقْلَقَة

( أَنَا بَرِيءٌ ) الْبَرَاءَةُ مِنْ فَاعِل هَذِهِ الأُمُور

( الصَّالِقَة ـ وسلق ) هو رفع الصوت عند المصيبة ، وقيل : الصَّلْقُ ضَرْبُ الْوَجْهِ .

( وَالْحَالِقَة ـ وحلق ) هو حلق الشعر عند المصيبة .

( وَالشَّاقَّة ) الَّتِي تَشُقّ ثَوْبهَا عِنْد الْمُصِيبَة .

( وَخَرَقَ ) أي مزق ثوبه أو شقه .

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ ، أَوْ شَقَّ الْجُيُوبَ ، أَوْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ ))

وفي رواية :

(( لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ ))

قال الحافظ :

قَوْله : ( لَيْسَ مِنَّا ) أَيْ مِنْ أَهْل سُنِّتَتَا وَطَرِيقَتنَا , وَلَيْسَ الْمُرَاد بِهِ إِخْرَاجه عَنْ الدِّين , وَلَكِنْ فَائِدَة إِيرَاده بِهَذَا اللَّفْظ الْمُبَالَغَة فِي الرَّدْع عَنْ الْوُقُوع فِي مِثْل ذَلِكَ كَمَا يَقُول الرَّجُل لِوَلَدِهِ عِنْد مُعَاتَبَته : لَسْت مِنْك وَلَسْت مِنِّي , أَيْ مَا أَنْتَ عَلَى طَرِيقَتِي .

وَقَالَ الزَّيْن بْن الْمُنِير مَا مُلَخَّصه : التَّأْوِيل الأَوَّل يَسْتَلْزِم أَنْ يَكُون الْخَبَر إِنَّمَا وَرَدَ عَنْ أَمْر وُجُودِيّ , وَهَذَا يُصَان كَلام الشَّارِع عَنْ الْحَمْل عَلَيْهِ .

وَالأَوْلَى أَنْ يُقَال : الْمُرَاد أَنَّ الْوَاقِع فِي ذَلِكَ يَكُون قَدْ تَعَرَّضَ لأَنْ يُهْجَر وَيُعْرَض عَنْهُ فَلا يَخْتَلِط بِجَمَاعَةِ السُّنَّة تَأْدِيبًا لَهُ عَلَى اِسْتِصْحَابه حَاله الْجَاهِلِيَّة الَّتِي قَبَّحَهَا الإِسْلام , فَهَذَا أَوْلَى مِنْ الْحَمْل عَلَى مَا لا يُسْتَفَاد مِنْهُ قَدْر زَائِد عَلَى الْفِعْل الْمَوْجُود .

وَحُكِيَ عَنْ سُفْيَان أَنَّهُ كَانَ يَكْرَه الْخَوْض فِي تَأْوِيله وَيَقُول : يَنْبَغِي أَنْ يُمْسَك عَنْ ذَلِكَ لِيَكُونَ أَوْقَع فِي النُّفُوس وَأَبْلَغ فِي الزَّجْر .

وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَيْسَ عَلَى دِيننَا الْكَامِل , أَيْ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ فَرْع مِنْ فُرُوع الدِّين وَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَصْله , حَكَاهُ اِبْن الْعَرَبِيّ .

وَيَظْهَر لِي أَنَّ هَذَا النَّفْي يُفَسِّرهُ التَّبَرِّي فِي حَدِيث أَبِي مُوسَى حَيْثُ قَالَ " بَرِئَ مِنْهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَأَصْل الْبَرَاءَة الانْفِصَال مِنْ الشَّيْء , وَكَأَنَّهُ تَوَعَّدَهُ بِأَنْ لا يُدْخِلهُ فِي شَفَاعَته مَثَلاً .

وَقَالَ الْمُهَلَّب : قَوْله أَنَا بَرِيء أَيْ مِنْ فَاعِل مَا ذُكِرَ وَقْت ذَلِكَ الْفِعْل , وَلَمْ يُرِدْ نَفْيَهُ عَنْ الإِسْلام

قُلْت : بَيْنهمَا وَاسِطَة تُعْرَف مِمَّا تَقَدَّمَ أَوَّل الْكَلام

وَهَذَا يَدُلّ عَلَى تَحْرِيم مَا ذُكِرَ مِنْ شَقّ الْجَيْب وَغَيْره . وَكَأَنَّ السَّبَب فِي ذَلِكَ مَا تَضْمَنَّهُ ذَلِكَ مِنْ عَدَم الرِّضَا بِالْقَضَاءِ

فَإِنْ وَقَعَ التَّصْرِيح بِالاسْتِحْلالِ مَعَ الْعِلْم بِالتَّحْرِيمِ أَوْ التَّسَخُّط مَثَلاً بِمَا وَقَعَ فَلا مَانِع مِنْ حَمْل النَّفْي عَلَى الإِخْرَاج مِنْ الدِّين .

قَوْله : ( لَطَمَ الْخُدُود ) خَصَّ الْخَدّ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ الْغَالِب فِي ذَلِكَ , وَإِلا فَضَرْب بَقِيَّة الْوَجْه دَاخِل فِي ذَلِكَ .

قَوْله : ( وَشَقَّ الْجُيُوب ) جَمْع جَيْب وَهُوَ مَا يُفْتَح مِنْ الثَّوْب لِيَدْخُل فِيهِ الرَّأْس , وَالْمُرَاد بِشَقِّهِ إِكْمَال فَتْحه إِلَى آخِره وَهُوَ مِنْ عَلامَات التَّسَخُّط .

قَوْله : ( وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة ) فِي رِوَايَة مُسْلِم بِدَعْوَى أَهْل الْجَاهِلِيَّة , أَيْ مِنْ النِّيَاحَة وَنَحْوهَا وَكَذَا النُّدْبَة كَقَوْلِهِمْ : وَاجَبَلاه , وَكَذَا الدُّعَاء بِالْوَيْلِ وَالثُّبُور كَمَا سَيَأْتِي بَعْد ثَلاثَة أَبْوَاب .

قال محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى :

(دعوى الجاهلية) هو ندب الميت . وقال غيره : هو الدعاء بالويل والثبور . وقال ابن القيم رحمه الله : الدعاء بدعوى الجاهلية كالدعاء إلى القبائل والعصبية، ومثله التعصب إلى المذاهب والطوائف والمشايخ، وتفضيل بعضهم على بضع ، يدعو إلى ذلك ويوالي عليه ويعادي ، فكل هذا من دعوى الجاهلية .



الوعيد الشديد بالعذاب الأليم للنائحة :

عن أبي مَالِكٍ الأَشْعَرِيَّ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لا يَتْرُكُونَهُنَّ الْفَخْرُ فِي الأَحْسَابِ وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ وَالاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ وَالنِّيَاحَةُ ، وَقَالَ : النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ ))

قوله :  أربع في أمتي من أمر بالجاهلية لا يتركونهن  ستفعلها هذه الأمة إما مع العلم بتحريمها أو مع الجهل بذلك ، مع كونها من أعمال الجاهلية المذمومة المكروهة المحرمة . والمراد بالجاهلية هنا : ما قبل المبعث ، سموا ذلك لفرط جهلهم . وكل ما يخالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو جاهلية ، فقد خالفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من أمورهم أو أكثرها . وذلك يدرك بتدبر القرآن ومعرفة السنة .

وهذا يقتضي أن كل ما كان من أمر الجاهلية وفعلهم فهو مذموم في دين الإسلام

الفخر بالأحساب : أي التعاظم على الناس بالآباء ومآثرهم ، وذلك جهل عظيم ، إذ لا كرم إلا بالتقوى

والطعن في الأنساب : أي الوقوع فيها بالعيب والتنقص

والاستسقاء بالنجوم : أي نسبة المطر إلى النوء ، فإذا قال قائلهم : مطرنا بنجم كذا أو بنوء كذا . فلا يخلوا إما أن يعتقد أن له تأثيراً في إنزال المطر . فهذا شرك وكفر ، وإما أن يقول : مطرنا بنوء كذا مثلا ، لكن مع اعتقاده أن المؤثر هو الله وحده . لكنه أجرى العادة بوجود المطر عند سقوط ذلك النجم .

والصحيح : أنه يحرم نسبة ذلك إلى النجم ولو على طريق المجاز وذلك أن القائل لذلك نسب ما هو من فعل الله تعالى الذي لا يقدر عليه غيره إلى خلق مسخر لا ينفع ولا يضر ولا قدرة له على شيء ، فيكون ذلك شركاً أصغر .

وعَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( النِّيَاحَةُ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَإِنَّ النَّائِحَةَ إِذَا مَاتَتْ وَلَمْ تَتُبْ قَطَعَ اللَّهُ لَهَا ثِيَابًا مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعًا مِنْ لَهَبِ النَّارِ ))

وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( النِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ ، فَإِنَّ النَّائِحَةَ إِنْ لَمْ تَتُبْ قَبْلَ أَنْ تَمُوتَ فَإِنَّهَا تُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهَا سَرَابِيلُ مِنْ قَطِرَانٍ ، ثُمَّ يُعْلَى عَلَيْهَا بِدِرْعٍ مِنْ لَهَبِ النَّارِ ))

والنائحة إذا لم تتب : فيه تنبيه على أن التوبة تكفر الذنب وإن عظم

السربال : واحد السرابيل ، وهي الثياب والقميص كما جاء تفسيرها في حديث أبي مالك ، والله بقدرته يجعل من القطران ثيابًا يلبسونها ، حتى يكون اشتعال النار بأجسادهن أعظم ، ورائحتهن أنتن ، وألمهن بسبب الجرب أشد . وروى عن ابن عباس : إن القطران هو النحاس المذاب .

 



 

ما جاء في لعن النائحة :

اللعن هو الطرد من رحمة الله ، وهو أمر كبير وعظيم ، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم النائحة ، مما يؤكد أن هذه الأفعال من كبائر الذنوب ، التي يجب التوبة منها .

عَنْ أَبِي أُمَامَةَ :

(( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ الْخَامِشَةَ وَجْهَهَا ، وَالشَّاقَّةَ جَيْبَهَا ، وَالدَّاعِيَةَ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ ))

 

عَنْ الْقَرْثَعِ قَالَ :

(( لَمَّا ثَقُلَ أَبُو مُوسَى ، صَاحَتْ امْرَأَتُهُ فَقَالَ : أَمَا عَلِمْتِ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : بَلَى ثُمَّ سَكَتَتْ ، فَقِيلَ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَيُّ شَيْءٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَتْ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ مَنْ حَلَقَ أَوْ سَلَقَ أَوْ خَرَقَ ))

 



 

حرمان النائحة من صلاة الملائكة :

 

ورد في كتاب الله تعالى وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة تستغفر لأهل الإيمان ، وتصلي عليهم ، وتدعو لهم بالرحمة والمغفرة ، وهذا الفضل تُحرم منه النائحة حتى تتوب إلى الله تعالى وترجع عن النياحة التي يتبين من نصوص الوعيد أنها من أسباب الشقاء والتعاسة ، وأنها تجلب على الإنسان الشرور في الدنيا والآخرة .

 

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( لا تُصَلِّي الْمَلائِكَةُ عَلَى نَائِحَةٍ وَلا عَلَى مُرِنَّةٍ ))

المرنة : من الرنين وهو الصياح عند البكاء .

 

 



 

لا إسعاد في الإسلام :

كانت مشاركة النساء في البكاء على الميت والنياحة عليه ، من عادات الجاهلية ، فمن مات لها ميت تذهب إليها النساء ويقمن بمشاركتها في النياحة والصياح والعويل ، ويفعلن ذلك كل بدورها على سبيل المجاملة ورد المشاركة ، وكان هذا يسمى بالإسعاد ، فأتى الإسلام ونهى عن ذلك .

عَنْ أَنَسٍ :

(( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ عَلَى النِّسَاءِ حِينَ بَايَعَهُنَّ أَنْ لا يَنُحْنَ ، فَقُلْنَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ نِسَاءً أَسْعَدْنَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَفَنُسْعِدُهُنَّ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لا إِسْعَادَ فِي الإِسْلامِ ))

( أَخَذَ عَلَى النِّسَاء ) أَيْ أَخَذَ مِنْهُنَّ الْعَهْدَ

( أَنْ لا يَنُحْنَ ) أَيْ بِأَنْ لا ينحن مِنْ النَّوْحِ

( أَسْعَدْنَنَا ) أَيْ وَافَقْنَنَا عَلَى النِّيَاحَة وَإِسْعَاد النِّسَاء فِي الْمَنَاحَات هُوَ أَنْ تَقُومَ اِمْرَأَةٌ فَتَقُومَ مَعَهَا لِلْمُوَافَقَةِ وَالْمُعَاوَنَة عَلَى مُرَادِهَا وَكَانَ ذَلِكَ فِيهِنَّ عَادَةً فَإِذَا فَعَلَتْ إِحْدَاهُمَا بِالأُخْرَى ذَلِكَ فَلا بُدَّ لَهَا أَنْ تَفْعَلَ بِهَا مِثْلَ ذَلِكَ مُجَازَاةً عَلَى فِعْلِهَا .

 

كما أن الإسعاد والنياحة من الأعمال الني يستحل بها الشيطان دخول البيوت ، والتمكن منها

عن أُمّ سَلَمَةَ قالت :

(( لَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ : غَرِيبٌ وَفِي أَرْضِ غُرْبَةٍ لأَبْكِيَنَّهُ بُكَاءً يُتَحَدَّثُ عَنْهُ ، فَكُنْتُ قَدْ تَهَيَّأْتُ لِلْبُكَاءِ عَلَيْهِ ، إِذْ أَقَبَلَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الصَّعِيدِ تُرِيدُ أَنْ تُسْعِدَنِي فَاسْتَقْبَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : أَتُرِيدِينَ أَنْ تُدْخِلِي الشَّيْطَانَ بَيْتًا أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْهُ مَرَّتَيْنِ ، فَكَفَفْتُ عَنْ الْبُكَاءِ فَلَمْ أَبْكِ ))

( غَرِيب وَفِي أَرْض غُرْبَة ) مَعْنَاهُ أَنَّهُ مِنْ أَهْل مَكَّة وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ .

( أَقْبَلَتْ اِمْرَأَة مِنْ الصَّعِيد ) الْمُرَاد بِالصَّعِيدِ هُنَا عَوَالِي الْمَدِينَة .

( تُسْعِدنِي ) أَيْ تُسَاعِدنِي فِي الْبُكَاء وَالنَّوْح .

( أَتُرِيدِينَ أَنْ تُدْخِلِي الشَّيْطَانَ بَيْتًا أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْهُ مَرَّتَيْنِ ) لعل المراد ، أنها وأبو سلمة كانا من أصحاب الهجرتين ، فأرغما الشيطان بذلك ، لأنه كما جاء في الحديث أن الشيطان وقف لابن آدم في طريق هجرته ، فعصاه فهاجر .. وهم من أصحاب هذا الفضل مرتين

فكأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أنه بهجرتك مرتين طردت الشيطان عن أهل هذا البيت مرتين ، فكيف تسمحين له بالدخول بالنياحة ، فانتهت رضي الله عنها عن ذلك حتى لا يجد اللعين سبيلاً للدخول .

 



 

الوصية بترك النياحة :

وهو فعل عدد من الصحابة رضي الله عنهم ، حيث أوصوا أهلهم بترك النياحة عليهم ، وذلك فيه فوائد :

تذكير لهم بالأمور الشرعية الصحيحة وترك أفعال الجاهلية المذمومة ، وفيه براءة له منهم إذا فعلوا ذلك .

 

أوصى عمرو بن العاص رضي الله عنه عند موته فقال :

(( فَإِذَا أَنَا مُتُّ فَلا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ وَلا نَارٌ ))

عَنْ حَكِيمِ بْنِ قَيْسٍ : أَنَّ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ قَالَ :

(( لا تَنُوحُوا عَلَيَّ ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنَحْ عَلَيْهِ ))

 



 

جواز البكاء على الميت

 

مع ما سبق من النهي عن النياحة وما يصاحبها من أفعال ، فإن ذلك لا يمنع البكاء والذي هو من طبيعة الإنسان ، ويجوز البكاء فهو رحمة جعلها الله في القلب ، وهو من ردود الأفعال الطبيعية التي تكون عند حدوث المصيبة .

فالمنهي عنه ما صاحبه تسخط ونياحة وغير ذلك من لطم خدود وشق جيوب ونحوه

أما مجرد البكاء مع الرضا والاسترجاع ، فهذا لا حرج فيه .

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحزن ويبكي ، ولكن لا يقول إلا ما يرضي الله سبحانه وتعالى مع تمام الرضا بقدر الله تعالى وقضائه .. ونذكر بعض ما صح في ذلك .

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :

(( شَهِدْنَا بِنْتًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ ، فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ ))

بنت النبي صلى الله عليه وسلم هنا هي : أم كلثوم زوجة عثمان بن عفان رضي الله عنهما .

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :

(( دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ وَكَانَ ظِئْرًا لإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلام ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ ، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلا نَقُولُ إِلا مَا يَرْضَى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ" ))

 

وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ :

(( كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ إِحْدَى بَنَاتِهِ تَدْعُوهُ وَتُخْبِرُهُ أَنَّ صَبِيًّا لَهَا أَوْ ابْنًا لَهَا فِي الْمَوْتِ ، فَقَالَ لِلرَّسُولِ : ارْجِعْ إِلَيْهَا فَأَخْبِرْهَا أَنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ ، فَعَادَ الرَّسُولُ فَقَالَ : إِنَّهَا قَدْ أَقْسَمَتْ لَتَأْتِيَنَّهَا ، قَالَ : فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَامَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَانْطَلَقْتُ مَعَهُمْ فَرُفِعَ إِلَيْهِ الصَّبِيُّ ، وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا فِي شَنَّةٍ ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ : مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ ))

 

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ وَإِنَّ عَيْنَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتَذْرِفَانِ ، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ))

 

 

 

عَنْ عَائِشَةَ :

(( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّلَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَهُوَ مَيِّتٌ وَهُوَ يَبْكِي أَوْ قَالَ عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ ))

 

عن جَابِر بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ :

(( لَمَّا قُتِلَ أَبِي جَعَلْتُ أَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ أَبْكِي وَيَنْهَوْنِي عَنْهُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَنْهَانِي فَجَعَلَتْ عَمَّتِي فَاطِمَةُ تَبْكِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبْكِينَ أَوْ لا تَبْكِينَ مَا زَالَتْ الْمَلائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ ))

 

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :

(( لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ قَالَتْ امْرَأَةٌ هَنِيئًا لَكَ الْجَنَّةُ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا نَظَرَ غَضْبَانَ فَقَالَ : وَمَا يُدْرِيكِ ؟ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَارِسُكَ وَصَاحِبُكَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهِ : إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي فَأَشْفَقَ النَّاسُ عَلَى عُثْمَانَ .

فَلَمَّا مَاتَتْ زَيْنَبُ ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْحَقِي بِسَلَفِنَا الصَّالِحِ الْخَيْرِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ ، فَبَكَتْ النِّسَاءُ ، فَجَعَلَ عُمَرُ يَضْرِبُهُنَّ بِسَوْطِهِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ وَقَالَ : مَهْلاً يَا عُمَرُ ، ثُمَّ قَالَ : ابْكِينَ وَإِيَّاكُنَّ وَنَعِيقَ الشَّيْطَانِ ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّهُ مَهْمَا كَانَ مِنْ الْعَيْنِ وَالْقَلْبِ فَمِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمِنْ الرَّحْمَةِ ، وَمَا كَانَ مِنْ الْيَدِ وَاللِّسَانِ فَمِنْ الشَّيْطَانِ ))

 

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ :

(( اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ فِي غَاشِيَةِ أَهْلِهِ فَقَالَ : قَدْ قَضَى ؟ قَالُوا : لا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَبَكَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكَوْا فَقَالَ : أَلا تَسْمَعُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلا بِحُزْنِ الْقَلْبِ ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ أَوْ يَرْحَمُ ، وَإِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ ، وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَضْرِبُ فِيهِ بِالْعَصَا وَيَرْمِي بِالْحِجَارَةِ وَيَحْثِي بِالتُّرَابِ ))

 

( إِنَّ اللَّه يُعَذِّب بِهَذَا ) أَيْ إِنْ قَالَ سُوءًا .

( أَوْ يَرْحَم ) إِنْ قَالَ خَيْرًا , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مَعْنَى قَوْله " أَوْ يَرْحَم " أَيْ إِنْ لَمْ يُنْفِذ الْوَعِيد . قَوْله : ( إِنَّ الْمَيِّت يُعَذَّب بِبُكَاءِ أَهْله عَلَيْهِ ) سبق الكلام على ذلك .

 

 

 



 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الكلام على حديث : الميت يعذب ببكاء أهله عليه

 

أولاً : حديث عمر بن الخطاب وابنه عبدالله رضي الله عنهما في عذاب الميت بالبكاء عليه :

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ

(( أَنَّ حَفْصَةَ بَكَتْ عَلَى عُمَرَ فَقَالَ : مَهْلاً يَا بُنَيَّةُ أَلَمْ تَعْلَمِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ ))

 

عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ :

(( لَمَّا طُعِنَ عُمَرُ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَصِيحَ عَلَيْهِ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ : أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ ))

 

عن أبي موسى الأشعري قَالَ :

(( لَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ صُهَيْبٌ يَقُولُ وَا أَخَاهُ فَقَالَ عُمَرُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ ))

 

وعَنْ أَنَسٍ :

(( أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا طُعِنَ عَوَّلَتْ عَلَيْهِ حَفْصَةُ فَقَالَ : يَا حَفْصَةُ أَمَا سَمِعْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ ، وَعَوَّلَ عَلَيْهِ صُهَيْبٌ فَقَالَ عُمَرُ : يَا صُهَيْبُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ ))

عول : هو البكاء بصوت .

عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ وفي لفظ : بالنياحة عليه ))

 

ثانيًا : حديث عائشة في إنكار حديث عمر وابنه رضي الله عن الجميع

عن عَبْد اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ :

(( تُوُفِّيَتْ ابْنَةٌ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَكَّةَ وَجِئْنَا لِنَشْهَدَهَا وَحَضَرَهَا ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَإِنِّي لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ : أَلا تَنْهَى عَنْ الْبُكَاءِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا :

قَدْ كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ بَعْضَ ذَلِكَ ثُمَّ حَدَّثَ قَالَ : صَدَرْتُ مَعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ إِذَا هُوَ بِرَكْبٍ تَحْتَ ظِلِّ سَمُرَةٍ فَقَالَ : اذْهَبْ فَانْظُرْ مَنْ هَؤُلاءِ الرَّكْبُ فَنَظَرْتُ فَإِذَا صُهَيْبٌ فَأَخْبَرْتُهُ ، فَقَالَ : ادْعُهُ لِي ، فَرَجَعْتُ إِلَى صُهَيْبٍ فَقُلْتُ : ارْتَحِلْ فَالْحَقْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ .

فَلَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ دَخَلَ صُهَيْبٌ يَبْكِي يَقُولُ : وَا أَخَاهُ ، وَا صَاحِبَاهُ ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :

يَا صُهَيْبُ أَتَبْكِي عَلَيَّ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ" .

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ :

رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ لَيُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

" إِنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ " ، وَقَالَتْ : حَسْبُكُمْ الْقُرْآنُ "وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى" .

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عِنْدَ ذَلِكَ : وَاللَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ، قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ وَاللَّهِ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا شَيْئًا ))

وعند مسلم :

(( فَقَالَتْ لا وَاللَّهِ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَحَدٍ وَلَكِنَّهُ قَالَ : إِنَّ الْكَافِرَ يَزِيدُهُ اللَّهُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَذَابًا ، وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى "وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى" .. وعن الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ : لَمَّا بَلَغَ عَائِشَةَ قَوْلُ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ قَالَتْ : إِنَّكُمْ لَتُحَدِّثُونِّي عَنْ غَيْرِ كَاذِبَيْنِ وَلا مُكَذَّبَيْنِ وَلَكِنَّ السَّمْعَ يُخْطِئُ ))

( بِنْت لِعُثْمَان ) هِيَ أُمّ أَبَان بِنْت عُثْمَان

( فَلَمَّا أُصِيبَ عُمَر ) يَعْنِي بِالْقَتْلِ

( حَسْبُكُمْ ) بِسُكُونِ السِّين الْمُهْمَلَة أَيْ كَافِيكُمْ ( الْقُرْآن ) أَيْ فِي تَأْيِيد مَا ذَهَبْت إِلَيْهِ مِنْ رَدّ الْخَبَر .

( قَالَ اِبْن عَبَّاس عِنْد ذَلِكَ ) أَيْ عِنْد اِنْتِهَاء حَدِيثه عَنْ عَائِشَة ( وَاَللَّه هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ) أَيْ أَنَّ الْعَبْرَة لا يَمْلِكهَا اِبْن آدَم وَلا تَسَبُّب لَهُ فِيهَا فَكَيْفَ يُعَاقَب عَلَيْهَا فَضْلاً عَنْ الْمَيِّت .

وَقَالَ الدَّاوُدِيّ : مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَذِنَ فِي الْجَمِيل مِنْ الْبُكَاء فَلا يُعَذِّب عَلَى مَا أَذِنَ فِيهِ .

وَقَالَ الطِّيبِيُّ : غَرَضه تَقْرِير قَوْل عَائِشَة أَيْ أَنَّ بُكَاء الإِنْسَان وَضَحِكَهُ مِنْ اللَّه يُظْهِرهُ فِيهِ فَلا أَثَر لَهُ فِي ذَلِكَ .

قَوْله : ( مَا قَالَ اِبْن عُمَر شَيْئًا ) قَالَ الطَّيِّب وَغَيْره : ظَهَرَتْ لابْنِ عُمَر الْحُجَّة فَسَكَتَ مُذْعِنًا . وَقَالَ الزَّيْن بْن الْمُنِير : سُكُوته لا يَدُلّ عَلَى الإِذْعَان فَلَعَلَّهُ كَرِهَ الْمُجَادَلَة فِي ذَلِكَ الْمَقَام .

وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ : لَيْسَ سُكُوته لِشَكٍّ طَرَأَ لَهُ بَعْدَمَا صَرَّحَ بِرَفْعِ الْحَدِيث , وَلَكِنْ اِحْتَمَلَ عِنْده أَنْ يَكُون الْحَدِيث قَابِلاً لِلتَّأْوِيلِ , وَلَمْ يَتَعَيَّن لَهُ مَحْمِل يَحْمِلهُ عَلَيْهِ إِذْ ذَاكَ أَوْ كَانَ الْمَجْلِس لا يَقْبَل الْمُمَارَاة وَلَمْ تَتَعَيَّن الْحَاجَة إِلَى ذَلِكَ حِينَئِذٍ . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون اِبْن عُمَر فَهِمَ مِنْ اِسْتِشْهَاد اِبْن عَبَّاس بِالآيَةِ قَبُول رِوَايَته لأَنَّهَا يُمْكِن أَنْ يُتَمَسَّك بِهَا فِي أَنَّ لِلَّهِ أَنْ يُعَذِّب بِلا ذَنْب فَيَكُون بُكَاء الْحَيّ عَلامَة لِذَلِكَ , أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْكَرْمَانِيُّ .

 

عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ :

(( إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى يَهُودِيَّةٍ يَبْكِي عَلَيْهَا أَهْلُهَا فَقَالَ : إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا ))

وعنها قَالَتْ :

(( رَحِمَ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعَ شَيْئًا فَلَمْ يَحْفَظْهُ ، إِنَّمَا مَرَّتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ وَهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهِ فَقَالَ : أَنْتُمْ تَبْكُونَ وَإِنَّهُ لَيُعَذَّبُ ))

وعنها قَالَتْ :

(( يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ وَلَكِنَّهُ نَسِيَ أَوْ أَخْطَأَ إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى يَهُودِيَّةٍ يُبْكَى عَلَيْهَا فَقَالَ إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا ))

 

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ :

(( اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ فِي غَاشِيَةِ أَهْلِهِ فَقَالَ : قَدْ قَضَى ؟ قَالُوا : لا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَبَكَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكَوْا فَقَالَ : أَلا تَسْمَعُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلا بِحُزْنِ الْقَلْبِ ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ أَوْ يَرْحَمُ ، وَإِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ .

وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَضْرِبُ فِيهِ بِالْعَصَا وَيَرْمِي بِالْحِجَارَةِ وَيَحْثِي بِالتُّرَابِ ))

 

( إِنَّ اللَّه يُعَذِّب بِهَذَا ) أَيْ إِنْ قَالَ سُوءًا .

( أَوْ يَرْحَم ) إِنْ قَالَ خَيْرًا .

 

عن عروة بن الزبير قَالَ :

(( ذُكِرَ عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَفَعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ

فَقَالَتْ : وَهَلَ إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّهُ لَيُعَذَّبُ بِخَطِيئَتِهِ وَذَنْبِهِ وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ الآنَ .

قَالَتْ : وَذَاكَ مِثْلُ قَوْلِهِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَى الْقَلِيبِ وَفِيهِ قَتْلَى بَدْرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ لَهُمْ مَا قَالَ ، إِنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ إِنَّمَا قَالَ إِنَّهُمْ الآنَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ ثُمَّ قَرَأَتْ إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ يَقُولُ حِينَ تَبَوَّءُوا مَقَاعِدَهُمْ مِنْ النَّارِ ))

 

ثالثًا : أحاديث أخرى :

عَنْ الْمُغِيرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

(( مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ ))

 

عن مُحَمَّد بْنَ سِيرِينَ قَالَ :

(( ذَكَرُوا عِنْدَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ ، فَقَالُوا : كَيْفَ يُعَذَّبُ الْمَيِّتُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ ، فَقَالَ عِمْرَانُ : قَدْ قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ))

 

عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ :

(( أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ ، فَجَعَلَتْ أُخْتُهُ عَمْرَةُ تَبْكِي : وَا جَبَلاهْ وَا كَذَا وَا كَذَا ، تُعَدِّدُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ حِينَ أَفَاقَ : مَا قُلْتِ شَيْئًا إِلا قِيلَ لِي : آنْتَ كَذَلِكَ ؟ ، فَلَمَّا مَاتَ لَمْ تَبْكِ عَلَيْهِ ))

 

عن أَسِيد بْنُ أَبِي أَسِيدٍ : عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ : عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ إِذَا قَالُوا : وَا عَضُدَاهُ ، وَا كَاسِيَاهُ ، وَا نَاصِرَاهُ ، وَا جَبَلاهُ ، وَنَحْوَ هَذَا ، يُتَعْتَعُ ، وَيُقَالُ : أَنْتَ كَذَلِكَ ؟ أَنْتَ كَذَلِكَ ؟ ))

قَالَ أَسِيدٌ : فَقُلْتُ سُبْحَانَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ "وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى" ، قَالَ : وَيْحَكَ أُحَدِّثُكَ أَنَّ أَبَا مُوسَى حَدَّثَنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَتَرَى أَنَّ أَبَا مُوسَى كَذَبَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَوْ تَرَى أَنِّي كَذَبْتُ عَلَى أَبِي مُوسَى ))

وعنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ بَاكِيهِ فَيَقُولُ : وَا جَبَلاهْ وَا سَيِّدَاهْ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ إِلا وُكِّلَ بِهِ مَلَكَانِ يَلْهَزَانِهِ : أَهَكَذَا كُنْتَ ))

قال النووي :

قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ الْمَيِّت لَيُعَذِّب بِبُكَاءِ أَهْله عَلَيْهِ ) وَفِي رِوَايَة ( بِبَعْضِ بُكَاء أَهْله عَلَيْهِ ) وَفِي رِوَايَة ( بِبُكَاءِ الْحَيّ ) وَفِي رِوَايَة ( يُعَذَّب فِي قَبْره بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ ) وَفِي رِوَايَة ( مَنْ يَبْكِ عَلَيْهِ يُعَذَّب ) :

وَهَذِهِ الرِّوَايَات مِنْ رِوَايَة عُمَر بْن الْخَطَّاب وَابْنه عَبْد اللَّه رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا , وَأَنْكَرَتْ عَائِشَة وَنَسَبَتْهَا إِلَى النِّسْيَان وَالاشْتِبَاه عَلَيْهِمَا , وَأَنْكَرَتْ أَنْ يَكُون النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ وَاحْتَجَّتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) قَالَتْ : وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَهُودِيَّة أَنَّهَا تُعَذَّب وَهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهَا يَعْنِي تُعَذَّب بِكُفْرِهَا فِي حَال بُكَاء أَهْلهَا لا بِسَبَبِ الْبُكَاء .

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي هَذِهِ الأَحَادِيث :

فَتَأَوَّلَهَا الْجُمْهُور عَلَى مَنْ وَصَّى بِأَنْ يُبْكَى عَلَيْهِ وَيُنَاح بَعْد مَوْته فَنُفِّذَتْ وَصِيَّته , فَهَذَا يُعَذَّب بِبُكَاءِ أَهْله عَلَيْهِ وَنَوْحهمْ ; لأَنَّهُ بِسَبَبِهِ وَمَنْسُوب إِلَيْهِ . قَالُوا فَأَمَّا مَنْ بَكَى عَلَيْهِ أَهْله وَنَاحُوا مِنْ غَيْر وَصِيَّة مِنْهُ فَلا يُعَذَّب لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى )

قَالُوا : وَكَانَ مِنْ عَادَة الْعَرَب الْوَصِيَّة بِذَلِكَ وَمِنْهُ قَوْل طَرَفَةَ بْن الْعَبْد :

إِذَا مِتُّ فَانْعِينِي بِمَا أَنَا أَهْله .. وَشُقِّي عَلَيَّ الْجَيْب يَا اِبْنَة مَعْبَد

قَالُوا : فَخَرَجَ الْحَدِيث مُطْلَقًا حَمْلاً عَلَى مَا كَانَ مُعْتَادًا لَهُمْ .

 

وَقَالَتْ طَائِفَة : هُوَ مَحْمُول عَلَى مَنْ أَوْصَى بِالْبُكَاءِ وَالنَّوْح أَوْ لَمْ يُوصِ بِتَرْكِهِمَا . فَمَنْ أَوْصَى بِهِمَا أَوْ أَهْمَلَ الْوَصِيَّة بِتَرْكِهِمَا يُعَذَّب بِهِمَا لِتَفْرِيطِهِ بِإِهْمَالِ الْوَصِيَّة بِتَرْكِهِمَا فَأَمَّا مَنْ وَصَّى بِتَرْكِهِمَا فَلا يُعَذَّب بِهِمَا إِذْ لا صُنْع لَهُ فِيهِمَا وَلا تَفْرِيط مِنْهُ .

وَحَاصِل هَذَا الْقَوْل إِيجَاب الْوَصِيَّة بِتَرْكِهِمَا , وَمَنْ أَهْمَلَهُمَا عُذِّبَ بِهِمَا .

 

وَقَالَتْ طَائِفَة : مَعْنَى الأَحَادِيث أَنَّهُمْ كَانُوا يَنُوحُونَ عَلَى الْمَيِّت وَيَنْدُبُونَهُ بِتَعْدِيدِ شَمَائِله وَمَحَاسِنه فِي زَعْمهمْ , وَتِلْكَ الشَّمَائِل قَبَائِح فِي الشَّرْع يُعَذَّب بِهَا كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ : يَا مُؤَيِّد النِّسْوَانِ , وَمُؤْتِمّ الْوِلْدَان وَمُخَرِّب الْعُمْرَانِ وَمُفَرِّق الأَخْدَان , وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا يَرَوْنَهُ شَجَاعَة وَفَخْرًا وَهُوَ حَرَام شَرْعًا .

 

وَقَالَتْ طَائِفَة : مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُعَذَّب بِسَمَاعِهِ بُكَاء أَهْله وَيَرِقّ لَهُمْ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مُحَمَّد بْن جَرِير الطَّبَرِيُّ وَغَيْره . وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض : وَهُوَ أَوْلَى الأَقْوَال , وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثٍ فِيهِ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَجَرَ اِمْرَأَة عَنْ الْبُكَاء عَلَى أَبِيهَا وَقَالَ : ( إِنَّ أَحَدكُمْ إِذَا بَكَى اِسْتَعْبَرَ لَهُ صُوَيْحِبه فَيَا عِبَاد اللَّه لا تُعَذِّبُوا إِخْوَانكُمْ ) وَقَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ الْكَافِر أَوْ غَيْره مِنْ أَصْحَاب الذُّنُوب يُعَذَّب فِي حَال بُكَاء أَهْله عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ لا بِبُكَائِهِمْ .

 

وَالصَّحِيح مِنْ هَذِهِ الأَقْوَال مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الْجُمْهُور وَأَجْمَعُوا كُلّهمْ عَلَى اِخْتِلاف مَذَاهِبهمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِالْبُكَاءِ هُنَا الْبُكَاء بِصَوْتٍ وَنِيَاحَة لا مُجَرَّد دَمْع الْعَيْن .

 

قَالَ الْحَافِظ شَمْس الدِّين اِبْن الْقَيِّم رَحِمَهُ اللَّه :

هَذَا أَحَد الأَحَادِيث الَّتِي رَدَّتْهَا عَائِشَة وَاسْتَدْرَكَتْهَا ، وَوَهَّمَتْ فِيهِ اِبْن عُمَر . وَالصَّوَاب مَعَ اِبْن عُمَر ، فَإِنَّهُ حَفِظَهُ وَلَمْ يُتَّهَم فِيهِ . وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُوهُ عُمَر بْن الْخَطَّاب ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، وَقَدْ وَافَقَهُ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ جَمَاعَة الصَّحَابَة ، كَمَا أَخْرَجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ " لَمَّا طُعِنَ عُمَر أُغْمِيَ عَلَيْهِ ، فَصِيحَ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ : أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ الْمَيِّت يُعَذَّب بِبُكَاءِ الْحَيّ " ؟ .

وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " الْمَيِّت يُعَذَّب بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ " وَأَخْرَجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ " لَمَّا أُصِيبَ عُمَر جَعَلَ صُهَيْب يَقُول : وَاأَخَاهُ ، فَقَالَ لَهُ عُمَر : يَا صُهَيْب ، أَمَا عَلِمْت أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ الْمَيِّت لَيُعَذَّب بِبُكَاءِ الْحَيّ ؟

وَفِي لَفْظ لَهُمَا : قَالَ عُمَر " وَاَللَّه لَقَدْ عَلِمْت أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ يُبْكَ عَلَيْهِ يُعَذَّب " .

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَس " أَنَّ عُمَر لَمَّا طُعِنَ أَعْوَلَتْ عَلَيْهِ حَفْصَة ، فَقَالَ : يَا حَفْصَة ، أَمَا سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : " الْمَعْتُوك عَلَيْهِ يُعَذَّب ، .

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْمُغِيرَة بْن شُعْبَة : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : " مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ يُعَذَّب بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ " .

فَهَؤُلاءِ عُمَر بْن الْخَطَّاب ، وَابْنه عَبْد اللَّه ، وَابْنَته حَفْصَة ، وَصُهَيْب ، وَالْمُغِيرَة بْن شُعْبَة كُلّهمْ يَرْوِي ذَلِكَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَمُحَال أَنْ يَكُون هَؤُلاءِ كُلّهمْ وَهَمُوا فِي الْحَدِيث . وَالْعَارِضَة الَّتِي ظَنَّتْهَا أُمّ الْمُؤْمِنِينَ بَيْن رِوَايَتهمْ وَبَيْن قَوْله تَعَالَى ((لا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى)) غَيْر لازِمَة أَصْلاً . وَلَوْ كَانَتْ لازِمَة لَزِمَ فِي رِوَايَتهَا أَيْضًا : أَنَّ الْكَافِر يَزِيدهُ اللَّه بِبُكَاءِ أَهْله عَذَابًا ، فَإِنَّ اللَّه سُبْحَانه لا يُعَذِّب أَحَدًا بِذَنْبِ غَيْره الَّذِي لا تَسَبُّب لَهُ فِيهِ . فَمَا تُجِيب بِهِ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قِصَّة الْكَافِر يُجِيب بِهِ أَبْنَاؤُهَا عَنْ الْحَدِيث الَّذِي اِسْتَدْرَكَتْهُ عَلَيْهِمْ .

ثُمَّ سَلَكُوا فِي ذَلِكَ طُرُقًا .

أَحَدهَا : أَنَّ ذَلِكَ خَاصّ بِمَنْ أَوْصَى أَنْ يُنَاح عَلَيْهِ ، فَيَكُون النَّوْح بِسَبَبِ فِعْله ، وَيَكُون هَذَا جَارِيًا عَلَى الْمُتَعَارَف مِنْ عَادَة الْجَاهِلِيَّة ، كَمَا قَالَ قَائِلهمْ :

إِذَا مُتّ فَانْعِينِي بِمَا أَنَا أَهْله .. وَشُقِّي عَلَيَّ الْجَيْب يَا اِبْنَة مَعْبَد

وَهُوَ كَثِير فِي شِعْرهمْ .

وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَتَسَبَّب إِلَى ذَلِكَ بِوَصِيَّةٍ وَلا غَيْرهَا فَلا يَتَنَاوَلهُ الْحَدِيث .

وَهَذَا ضَعِيف مِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدهمَا : أَنَّ اللَّفْظ عَامّ .

الثَّانِي : أَنَّ عُمَر وَالصَّحَابَة فَهِمُوا مِنْهُ حُصُول ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ .

وَمِنْ وَجْه آخَر : وَهُوَ أَنَّ الْوَصِيَّة بِذَلِكَ حَرَام يَسْتَحِقّ بِهَا التَّعْذِيب نِيحَ عَلَيْهِ أَمْ لا . وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا عَلَّقَ التَّعْذِيب بِالنِّيَاحَةِ لا بِالْوَصِيَّةِ .

الْمَسْلَك الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ خَاصّ بِمَنْ كَانَ النَّوْح مِنْ عَادَته وَعَادَة قَوْمه وَأَهْله ، وَهُوَ يَعْلَم أَنَّهُمْ يَنُوحُونَ عَلَيْهِ إِذَا مَاتَ . فَإِذَا لَمْ يَنْهَهُمْ كَانَ ذَلِكَ رِضًا مِنْهُ بِفِعْلِهِمْ ، وَذَلِكَ سَبَب عَذَابه وَهَذَا مَسْلَك الْبُخَارِيّ فِي صَحِيحه ، فَإِنَّهُ تَرْجَمَ عَلَيْهِ وَقَالَ " إِذَا كَانَ النَّوْح مِنْ سُنَنه " وَهُوَ قَرِيب مِنْ الأَوَّل .

الْمَسْلَك الثَّالِث : أَنَّ الْبَاء لَيْسَتْ بَاء السَّبَبِيَّة ، وَإِنَّمَا هِيَ بَاء الْمُصَاحَبَة . وَالْمَعْنَى : يُعَذَّب مَعَ بُكَاء أَهْله عَلَيْهِ ، أَيْ يَجْتَمِع بُكَاء أَهْله وَعَذَابه ، كَقَوْلِهِ : خَرَجَ زَيْد بِسِلاحِهِ . قَالَ تَعَالَى ((وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ)) .

وَهَذَا الْمَسْلَك بَاطِل قَطْعًا ، فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلّ مَيِّت يُعَذَّب ، وَلأَنَّ هَذَا اللَّفْظ لا يَدُلّ إِلا عَلَى السَّبَبِيَّة ، كَمَا فَهِمَهُ أَعْظَم النَّاس فَهْمًا وَلِهَذَا رَدَّتْهُ عَائِشَة لَمَّا فَهِمَتْ مِنْهُ السَّبَبِيَّة ، لأَنَّ اللَّفْظ الآخَر الصَّحِيح الَّذِي رَوَاهُ بِالْمُغِيرَةِ يُبْطِل هَذَا التَّأْوِيل ، وَلأَنَّ الإِخْبَار بِمُقَارَنَةِ عَذَاب الْمَيِّت الْمُسْتَحِقّ لِلْعَذَابِ لِبُكَاءِ أَهْله لا فَائِدَة فِيهِ .

الْمَسْلَك الرَّابِع : أَنَّ الْمُرَاد بِالْحَدِيثِ : مَا يَتَأَلَّم بِهِ الْمَيِّت ، وَيَتَعَذَّب بِهِ ، مِنْ بُكَاء الْحَيّ عَلَيْهِ . وَلَيْسَ الْمُرَاد : أَنَّ اللَّه تَعَالَى يُعَاقِبهُ بِبُكَاءِ الْحَيّ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ التَّعْذِيب هُوَ مِنْ جِنْس الأَلَم الَّذِي يَنَالهُ بِمَنْ يُجَاوِرهُ مِمَّا يَتَأَذَّى بِهِ وَنَحْوه . قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " السَّفَر قِطْعَة مِنْ الْعَذَاب " وَلَيْسَ هَذَا عِقَابًا عَلَى ذَنْب ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْذِيب وَتَأَلُّم ، فَإِذَا وُبِّخَ الْمَيِّت عَلَى مَا يُنَاح بِهِ عَلَيْهِ لَحِقَهُ مِنْ ذَلِكَ تَأَلُّم وَتَعْذِيب .

وَيَدُلّ عَلَى ذَلِكَ : مَا رَوَى الْبُخَارِيّ فِي صَحِيحه عَنْ النُّعْمَان بْن بَشِير قَالَ " أُغْمِيَ عَلَى عَبْد اللَّه بْن رَوَاحَة ، فَجَعَلَتْ أُخْته عَمْرَة تَبْكِي : وَاجَبَلاه وَاكَذَا ، وَاكَذَا ، تُعَدِّد عَلَيْهِ ، فَقَالَ حِين أَفَاقَ : مَا قُلْت شَيْئًا إِلا قِيلَ لَهُ لِي : أَأَنْت كَذَلِكَ ؟ " .

وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيث عَبْد اللَّه بْن ثَابِت " فَإِذَا وَجَبَ فَلا تَبْكِيَنَّ بَاكِيَة" .

وَهَذَا أَصَحّ مَا قِيلَ فِي الْحَدِيث .

وَلا رَيْب أَنَّ الْمَيِّت يَسْمَع بُكَاء الْحَيّ ، وَيَسْمَع قَرْع نِعَالهمْ ، وَتُعْرَض عَلَيْهِ أَعْمَال أَقَارِبه الأَحْيَاء ، فَإِذَا رَأَى مَا يَسُوءهُمْ تَأَلَّمَ لَهُ ، وَهَذَا وَنَحْوه مِمَّا يَتَعَذَّب بِهِ الْمَيِّت وَيَتَأَلَّم ، وَلا تَعَارُض بَيْن ذَلِكَ وَبَيْن قَوْله تَعَالَى ((وَلا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى)) بِوَجْهٍ مَا .

 

===============

سئل شيخ الإسلام : هَلْ يَتَأَذَّى الْمَيِّتُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ ؟

فَأَجَابَ :هَذِهِ مَسْأَلَةٌ فِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَالْعُلَمَاءِ .

وَالصَّوَابُ : أَنَّهُ يَتَأَذَّى بِالْبُكَاءِ عَلَيْهِ كَمَا نَطَقَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . . . ثم ذكر بعض هذه الأحاديث . ثم قال :

وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَعْذِيبِ الإِنْسَانِ بِذَنْبِ غَيْرِهِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لقوله تعالى : ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) ثُمَّ تَنَوَّعَتْ طُرُقُهُمْ فِي تِلْكَ الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ . فَمِنْهُمْ مَنْ غَلَّطَ الرُّوَاةَ لَهَا كَعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ , وَهَذِهِ طَرِيقَةُ عَائِشَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا .

وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى مَا إذَا أَوْصَى بِهِ فَيُعَذَّبُ عَلَى إيصَائِهِ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ , كالمزني وَغَيْرِهِ .

وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ عَادَتُهُمْ ، فَيُعَذَّبُ عَلَى تَرْكِ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ , وَهُوَ اخْتِيَارُ طَائِفَةٍ , مِنْهُمْ جَدِّي أَبُو الْبَرَكَاتِ .

وَكُلُّ هَذِهِ الأَقْوَالِ ضَعِيفَةٌ جِدًّا , وَالأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ الَّتِي يَرْوِيهَا مِثْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِمْ لا تُرَدُّ بِمِثْلِ هَذَا .

وَاَلَّذِينَ أَقَرُّوا هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى مُقْتَضَاهُ ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ عُقُوبَةِ الإِنْسَانِ بِذَنْبِ غَيْرِهِ وَأَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ , وَاعْتَقَدَ هَؤُلاءِ أَنَّ اللَّهَ يُعَاقِبُ الإِنْسَانَ بِذَنْبِ غَيْرِهِ . . . .

واللَّه تعالى لا يُعَذِّبُ أَحَدًا فِي الآخِرَةِ إلا بِذَنْبِهِ ، ( ولا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) .

وَأَمَّا تَعْذِيبُ الْمَيِّتِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ ، فَهُوَ لَمْ يَقُلْ : إنَّ الْمَيِّتَ يُعَاقَبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ , بَلْ قَالَ : ( يُعَذَّبُ ) وَالْعَذَابُ أَعَمُّ مِنْ الْعِقَابِ ، فَإِنَّ الْعَذَابَ هُوَ الأَلَمُ ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ تَأَلَّمَ بِسَبَبٍ كَانَ ذَلِكَ عِقَابًا لَهُ عَلَى ذَلِكَ السَّبَبِ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ , يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ) فَسَمَّى السَّفَرَ عَذَابًا ، وَلَيْسَ هُوَ عِقَابًا عَلَى ذَنْبٍ , وَالإِنْسَانُ يُعَذَّبُ بِالأُمُورِ الْمَكْرُوهَةِ الَّتِي يَشْعُرُ بِهَا مِثْلَ الأَصْوَاتِ الْهَائِلَةِ وَالأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ وَالصُّوَرِ الْقَبِيحَةِ فَهُوَ يَتَعَذَّبُ بِسَمَاعِ هَذَا وَشَمِّ هَذَا وَرُؤْيَةِ هَذَا وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَمَلا لَهُ عُوقِبَ عَلَيْهِ , فَكَيْفَ يُنْكَرُ أَنْ يُعَذَّبَ الْمَيِّتُ بِالنِّيَاحَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ النِّيَاحَةُ عَمَلا لَهُ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ ؟

ولا نحكم على كل من ناح عليه أهله أنه يعذب بذلك :

ثم قال شيخ الإسلام :

ثُمَّ النِّيَاحَةُ سَبَبُ الْعَذَابِ , وَقَدْ يَنْدَفِعُ حُكْمُ السَّبَبِ بِمَا يُعَارِضُهُ فَقَدْ يَكُونُ فِي الْمَيِّتِ مِنْ قُوَّةِ الْكَرَامَةِ مَا يَدْفَعُ عَنْهُ مِنْ الْعَذَابِ

وهذا العذاب الذي يحصل للمؤمن ببكاء أهله عليه ، من جملة الشدائد والأذى التي يكفر الله بها عن المؤمن من ذنوبه .

وأما الكافر فإنه يزداد بذلك عذابه ، فيجمع له بين ألم العقاب ، والتألم الحاصل له ببكاء أهله عليه .

ثم قال شيخ الإسلام :

وَمَا يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا وَالْبَرْزَخِ وَالْقِيَامَةِ مِنْ الأَلَمِ الَّتِي هِيَ عَذَابٌ فَإِنَّ ذَلِكَ يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهِ خَطَايَاهُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : ( مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلا نَصَبٍ وَلا هَمٍّ وَلا حَزَنٍ وَلا أَذًى حَتَّى الشَّوْكَةَ يَشَاكُهَا إلا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ ) انتهى باختصار  .

وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه ) ؟

فأجاب :

" معناه أن الميت إذا بكى أهله عليه فإنه يعلم بذلك ويتألم ، وليس المعنى أن الله يعاقبه بذلك لأن الله تعالى يقول : ( وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ) والعذاب لا يلزم أن يكون عقوبة ألم تر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن السفر قطعة من العذاب ) والسفر ليس بعقوبة ، لكن يتأذى به الإنسان ويتعب ، وهكذا الميت إذا بكى أهله عليه فإنه يتألم ويتعب من ذلك ، وإن كان هذا ليس بعقوبة من الله عز وجل له ، وهذا التفسير للحديث تفسير واضح صريح ، ولا يرد عليه إشكال ، ولا يحتاج أن يقال : هذا فيمن أوصى بالنياحة ، أو فيمن كان عادة أهله النياحة ولم ينههم عند موته ، بل نقول : إن الإنسان يعذب بالشيء ولا يتضرر به " انتهى .

 

حكم رثاء الأموات

الرثاء هو بكاء الميت بعد موته ومدحه ، وكذلك إذا نظمت فيه الأشعار

ويراد به أيضاً التوجع من الوقوع في مكروه . ومنه حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ ) يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ )

وقد ذكر الحافظ في "الفتح" أن قوله : ( يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ ) هو من كلام الزهري  .

وللعلماء رحمهم الله في رثاء الأموات قولان في الجملة .

القول الأول : أنه لا بأس بالمراثي ، وهذا مذهب الحنفية ، والشافعية  .

واستدل هؤلاء بأن الكثير من الصحابة رضي الله عنهم فعله ، وكذلك فعله كثير من أهل العلم  .

القول الثاني : أنه تكره المراثي ، وهو قول للشافعية  .

واستدل هؤلاء بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن المراثي ، فعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المراثي .

ومدار الحديث على إبراهيم الهجري الراوي عن عبد الله قال عنه البوصيري في مصباح الزجاجة : وهو ضعيف جداً ، ضعفه سفيان بن عيينة ويحيى بن معين والنسائي وغيرهم . وقال عنه البخاري : منكر الحديث . ولهذا ضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجه .

جاء في الموسوعة الفقهية (22/98(

" جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِتَرْثِيَةِ الْمَيِّتِ بِشِعْرٍ أَوْ غَيْرِهِ , لَكِنْ يُكْرَهُ الْإِفْرَاطُ فِي مَدْحِهِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ جِنَازَتِهِ . وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ صَاحِبِ التَّتِمَّةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ تَرْثِيَةُ الْمَيِّتِ بِذِكْرِ آبَائِهِ , وَخَصَائِلِهِ , وَأَفْعَالِهِ , وَالْأَوْلَى الِاسْتِغْفَارُ لَهُ . وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ مَا هَيَّجَ الْمُصِيبَةَ مِنْ وَعْظٍ أَوْ إنْشَادِ شِعْرٍ فَمِنْ النِّيَاحَةِ أَيْ : الْمَنْهِيِّ عَنْهَا . قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ " انتهى

 

وقد قسّم القرافي في "الفروق" (2/174) المراثي إلى أربعة أقسام ، فقال :

لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى إبَاحَةِ الْمَرَاثِي وَعَدَمِ تَفْسِيقِ الشُّعَرَاءِ الَّذِينَ يَرْثُونَ الْمَوْتَى مِنْ الْمُلُوكِ وَالْأَعْيَانِ مُطْلَقًا , وَإِنْ اُشْتُهِرَ ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ بَلْ الْحَقُّ أَنَّ الْمَرَاثِي عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : حَرَامٌ كَبِيرَةٌ ، وَحَرَامٌ صَغِيرَةٌ ، وَمُبَاحٌ ، وَمَنْدُوبٌ .

أَمَّا ضَابِطُ مَا هُوَ حَرَامٌ كَبِيرَةٌ فَكُلُّ كَلَامٍ يُقَرِّرُ فِي النُّفُوسِ وَيُوضِحُ لِلْأَفْهَامِ نِسْبَةَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَى الْجَوْرِ فِي قَضَائِهِ ، وَالتَّبَرُّمِ بِقَدَرِهِ , وَأَنَّ الْوَاقِعَ مِنْ مَوْتِ هَذَا الْمَيِّتِ لَمْ يَكُنْ مَصْلَحَةً ، بَلْ مَفْسَدَةً عَظِيمَةً ، فَيَحْمِلُ السَّامِعِينَ عَلَى اعْتِقَادِ ذَلِكَ يَكُونُ حَرَامًا كَبِيرَةً نَظْمًا كَانَ أَوْ نَثْرًا .

كَأَنْ يَقُولَ الشَّاعِرُ فِي رِثَائِهِ :

مَاتَ مَنْ كَانَ بَعْضُ أَجْنَادِهِ .... الْمَوْتَ وَمَنْ كَانَ يَخْتَشِيهِ الْقَضَاءُ

فَيَتَضَمَّنُ شِعْرُهُ مِنْ التَّعْرِيضِ لِلْقَضَاءِ بِقَوْلِهِ : "مَنْ كَانَ بَعْضُ أَجْنَادِهِ الْمَوْتَ" تَعْظِيمًا لِشَأْنِ هَذَا الْمَيِّتِ , وَأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَيِّتِ مَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَخْلُوَ مِنْهُ مَنْصِبُ الْخِلَافَةِ , وَمَتَى تَأْتِي الْأَيَّامُ بِمِثْلِ هَذَا ؟ وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَيُشِيرُ قَوْلُهُ : "يَخْتَشِيهِ الْقَضَاءُ" إلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يَخَافُ مِنْهُ , وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ كُفْرًا صَرِيحًا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ لَفْظِهِ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ , فَلِذَا لَمَّا حَضَرَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي الْمَحْفِلِ الَّذِي جَمَعَ فِيهِ الْمَلِكُ الصَّالِحُ الْأَكَابِرَ وَالْأَعْيَانَ وَالْقُرَّاءَ وَالشُّعَرَاءَ لِعَزَاءِ الْخَلِيفَةِ بِبَغْدَادَ , وَأَنْشَدَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي مَرْثِيَّتِهِ : مَاتَ مَنْ كَانَ بَعْضُ أَجْنَادِهِ الْمَوْتَ وَسَمِعَهُ الشَّيْخُ أَمَرَ بِتَأْدِيبِهِ وَحَبْسِهِ وَأَغْلَظَ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ , وَبَالَغَ فِي تَقْبِيحِ رِثَائِهِ , وَأَقَامَ بَعْدَ التَّعْزِيرِ فِي الْحَبْسِ زَمَانًا طَوِيلًا , ثُمَّ اسْتَتَابَهُ بَعْدَ شَفَاعَةِ الْأُمَرَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ فِيهِ , وَأَمَرَهُ أَنْ يَنْظِمَ قَصِيدَةً يُثْنِي فِيهَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَكُونُ مُكَفِّرَةً لِمَا تَضَمَّنَهُ شِعْرُهُ مِنْ التَّعَرُّضِ لِلْقَضَاءِ وَالْإِشَارَةِ إلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يَخَافُ مِنْ الْمَيِّتِ , وَالشُّعَرَاءُ كَثِيرًا مَا يَهْجُمُونَ عَلَى أُمُورٍ صَعْبَةٍ مِثْلِ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي الْإِغْرَابِ وَالتَّمَدُّحِ بِأَنَّهُ طَرَقَ مَعْنًى لَمْ يُطْرَقْ قَبْلَهُ فَيَقَعُونَ فِي هَذَا وَمِثْلِهِ .

وَهَذَا الْقِسْمُ شَرُّ الْمَرَاثِي .

وَأَمَّا ضَابِطُ مَا هُوَ حَرَامٌ صَغِيرَةٌ فَكُلُّ كَلَامٍ نَظْمًا أَوْ نَثْرًا لَمْ يَصِلْ إلَى الْغَايَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ إلَّا أَنَّهُ يُبْعِدُ السَّلْوَةَ عَنْ أَهْلِ الْمَيِّتِ , وَيُهِيجُ الْأَسَفَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُؤَدِّيَ إلَى تَعْذِيبِ نُفُوسِهِمْ وَقِلَّةِ صَبْرِهِمْ وَضَجرِهِمْ , وَرُبَّمَا بَعَثَهُمْ عَلَى الْقُنُوطِ وَشَقِّ الْجُيُوبِ وَضَرْبِ الْخُدُودِ ، يَكُونُ حَرَامًا صَغِيرَةً .

وَأَمَّا ضَابِطُ مَا هُوَ مُبَاحٌ مِنْ الْمَرَاثِي فَكُلُّ كَلَامٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا فِي الْقِسْمَيْنِ قَبْلَهُ بَلْ ذُكِرَ فِيهِ دِينُ الْمَيِّتِ , وَأَنَّهُ انْتَقَلَ إلَى جَزَاءِ أَعْمَالِهِ الْحَسَنَةِ وَمُجَاوَرَةِ أَهْلِ السَّعَادَةِ . وَأَنَّهُ أَتَى عَلَيْهِ مَا قَضَى عَلَى عَامَّةِ النَّاسِ , وَأَنَّ هَذَا سَبِيلٌ لَا بُدَّ مِنْهُ وَأَنَّهُ مَوْطِنٌ اشْتَرَكَ فِيهِ جَمِيعُ الْخَلَائِقِ وَبَابٌ لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِهِ ، يَكُونُ مُبَاحًا خَالِيًا عَنْ التَّحْرِيمِ .

وَأَمَّا ضَابِطُ الْمَنْدُوبِ مِنْ الْمَرَاثِي فَكُلُّ كَلَامٍ زَادَ عَلَى مَا فِي قِسْمِ الْمُبَاحِ مِنْ أَمْرِ أَهْلِ الْمَيِّتِ بِالصَّبْرِ وَحَثِّهِمْ عَلَى طَلَبِ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ , وَأَنَّهُمْ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَحْتَسِبُوا مَيِّتَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَعْتَمِدُونَ فِي حُسْنِ الْخَلَفِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَنَحْوُ ذَلِكَ ، يَكُونُ مَنْدُوبًا إلَيْهِ مَأْمُورًا بِهِ .

وَمِنْهُ مَا رُوِيَ أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه لَمَّا مَاتَ عَظُمَ مُصَابُهُ عَلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ فقَدِمَ أَعْرَابِيٌّ مِنْ الْبَادِيَةِ ، فَسَأَلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، فَلَمَّا دخل عليه قال :

اصْبِرْ نَكُنْ بِك صَابِرِينَ فَإِنَّمَا صَبْرُ الرَّعِيَّةِ عِنْدَ صَبْرِ الرَّاسِ

خَيْرٌ مِنْ الْعَبَّاسِ أَجْرُك بَعْدَهُ وَاَللَّهُ خَيْرٌ مِنْك لِلْعَبَّاسِ

 

فَلَمَّا سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ رِثَاءَهُ وَاسْتَوْعَبَ شِعْرَهُ سَرَّى عَنْهُ عَظِيمَ مَا كَانَ بِهِ .

وَهَذَا كَلَامٌ فِي غَايَةِ الْجَوْدَةِ مِنْ الرِّثَاءِ ، مُسَهِّلٌ لِلْمُصِيبَةِ ، مُذْهِبٌ لِلْحُزْنِ ، مُحْسِنٌ لِتَصَرُّفِ الْقَضَاءِ ، مُثْنٍ عَلَى الرَّبِّ بِإِحْسَانٍ وَجَمِيلِ الْعَوَارِفِ , فَهَذَا حَسَنٌ جَمِيلٌ .

وَعَلَى هَذِهِ الْقَوَانِينِ يَتَخَرَّجُ جَمِيعُ مَا يَرِدُ عَلَيْك مِنْ َالْمَرَاثِي وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ " انتهى باختصار .

وقال في تحفة الأحوذي :

فَإِنْ قِيلَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمَرَاثِي كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ , فَإِذَا نَهَى عَنْهُ كَيْفَ يَفْعَلُهُ ؟ - يعني في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه المتقدم –

فَالْجَوَابُ : أَنَّ الْمَرْثِيَةَ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا مَا فِيهِ مَدْحُ الْمَيِّتِ وَذِكْرُ مَحَاسِنِهِ الْبَاعِثُ عَلَى تَهْيِيجِ الْحُزْنِ وَتَجْدِيدِ اللَّوْعَةِ أَوْ فِعْلِهَا مَعَ الِاجْتِمَاعِ لَهَا أَوْ عَلَى الْإِكْثَارِ مِنْهَا دُونَ مَا عَدَا ذَلِكَ , وَالْمُرَادُ هُنَا تَوَجُّعُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَحَزُّنُهُ عَلَى سَعْدٍ لِكَوْنِهِ مَاتَ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مِنْهَا ، لَا مَدْحَ الْمَيِّتِ لِتَهْيِيجِ الْحُزْنِ ، كَذَا ذَكَرَهُ الْقَسْطَلَّانِيُّ " انتهى  .

وسئل الشيخ ابن باز : القصائد التي فيها رثاء للميت هل هي من النعي المحرم ؟

فأجاب : " ليست القصائد التي فيها رثاء للميت من النعي المحرم ، ولكن لا يجوز لأحد أن يغلو في أحد ويصفه بالكذب ، كما هي عادة الكثير من الشعراء " انتهى .

وعلى هذا ؛ فإقامة حفلات الرثاء ، والاجتماع لذلك منهي عنه ، لا سيما إذا اقترن بذلك تهييج الأحزان أو الاعتراض على القدر ، أو الكذب بوصف الميت بما ليس فيه ، ونحو ذلك من الأمور المحرمة .

أما مجرد ذكر محاسن الميت وإظهار التوجع والحزن عليه ، فهذا لا بأس به إذا خلا من المحظورات المتقدمة ونحوها .

 

نكتفي بهذا القدر من الكتاب على أن يكون له جزء آخر بإذن الله تعالى يكون فيه تتمة الكلام عن الموت وما يتعلق به من أحكام الجنائز نسأل الله تعالى التييسر

تم بحمد الله

وصلِ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

كتبه : محمد سعد عبدالدايم

غرة شعبان 1436 للهجرة المشرفة

19 مايو 2015 م

الفهرس

مقدمة 2
الإيمان بالموت وبيان العقيدة الصحيحة فيه 4
أولاً : وجوب الإيمان بالموت 5
ثانيًا : الموت بأمر الله وقدره 7
ثالثًا : أن الله سبحانه هو الذي يحيي ويميت 8
فالله سبحانه هو الذي يتوفى الأنفس 9
رابعًا : تفرد الله بالإحياء والإماتة لا شريك له 11
خامسًا: الموت حق على كل نفس 12
سادسًا : لكل إنسان أجله الذي يموت فيه 13
سابعًا : لا مفر ولا حماية لأحد من الموت 17
ثامنًا : الموت مخلوق من مخلوقات الله تعالى 18
تاسعًا : اختصاص الله تبارك وتعالى بعلم الآجال ومكان الموت 19
الملك الموكل بقبض الأرواح 21
جمع طيب للشيخ الشنقيطي في نسبة توفي الأنفس إلى الله تعالى في الآيات الكريمة .. ثم إلى ملك الموت في آيات أخر ، ثم إلى الملائكة في آيات غيرها 23
تعريف الموت 24
عدد موتات الإنسان 26
هل هناك من يموت أو يعيش أكثر من مرتين ؟ 28
المواضع التي تم ذكر ذلك فيها من القرآن الكريم 28
المواضع التي تم ذكر ذلك فيها من السنة المشرفة 32
الحث على تذكر الموت 34
فصل في وصف لحظات الموت وسؤال الملكين
شدة الموت 44
ذكر الآيات التي وردت في كتاب الله تعالى
وهي تصف حالة الاحتضار
حالة احتضار الظالمين 50
حالة احتضار المؤمنين 55
أصناف الناس حين ساعة الاحتضار 58
محبة لقاء الله عند الموت 60
حديث جليل عظيم
في لحظات انتزاع الروح وسؤال القبر 62
تنبيه حول الفرق بين موضع كتاب العبد وبين مستقر روحه في الآخرة وأن عليين وسجين هي موضع الكتب 68
أحاديث أخرى في وصف لحظات الموت 71
شخوص بصر الميت يتبع روحه 73
ما يقوله الميت حين تحمل جنازته 74
ما يتبع الإنسان بعد موته 74
مجموعة أخرى من الأحاديث في بيان
ما يحدث للعبد إذا وضع في قبره 75
مدافعة الأعمال الصالحة عن العبد في قبره 78
صورة طيبة لأهل الإيمان والصلاة حين يوضع في قبره 82
ومن صور تلقي الملائكة للروح 82
ذكر أسماء الملائكة الموكلة بسؤال القبر وصفتهم 83
جمع الله تعالى للأبدان وسؤالها وإن تفرقت 84
امتلاء القبور ظلمة على أهلها 89
ضغطة القبر 90
أول ما ينتن من الإنسان بطنه 91
بلاء كل شيء من الإنسان إلا عجب الذنب 92
ويستثنى من ذلك أجساد الأنبياء عليهم السلام 93
تلاقي الأرواح بعد الموت وتعارفها
وعرض أعمال الأحياء على أرواح المؤمنين 94
مستقر الأرواح بعد الموت
أولاً : مستقر أرواح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام 99
ثانيًا : مستقر أرواح الشهداء 101
ثانيًا : مستقر أرواح المؤمنين 103
ثالثًاً : مستقر أرواح الأطفال 105
رابعًا : مستقر أرواح الكفار 107
حقيقة الروح 108
ورود الروح في القرآن بعدة معان 111
فصل في إثبات عذاب القبر ونعيمه .. وبيان ثبوته بالقرآن والسنة والإجماع
أولاً : الأدلة من القرآن الكريم 113
ثانيًا : بعض الأدلة من السنة 120
من أقوال الصحابة الكرام رضي الله عنهم 122
إجماع أهل السنة على أن عذاب القبر حق 125
فصل الاستعاذة من عذاب القبر
الاستعاذة من عذاب القبر 128
تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأمته
التعوذ من عذاب القبر 130
التعوذ من عذاب القبر دبر كل صلاة 131
التعوذ من عذاب القبر كل صباح ومساء 133
الدعاء للموتى بالعصمة من فتنة القبر 133
أفضلية التعوذ من عذاب القبر 133
أسباب عذاب القبر 135
الكفر والنفاق 135
تبديل وتغيير شرع الله تعالى من أسباب عذاب القبر 137
الغلول والسرقة من أموال المسلمين 138
رؤيته صلى الله عليه وسلم للسارق وهو يعذب 140
الذين يعذبون خلق الله .. من إنسان أو حيوان 141
جر الثوب خيلاء 142
العجب بالنفس والاختيال والتكبر 143
النياحة 145
الغيبة والنميمة والبول 146
الصلاة بغير وضوء .. وعدم نصرة المظلوم 151
الوقوع في أعراض الناس 152
نهي الناس عن المعروف 152
ومن أسباب عذاب القبر :
هجر القرآن ـ النوم عن الصلاة المكتوبة ـ الكذب ـ الزنا ـ أكل الربا 153
رؤيا أخرى فيها أصناف من المعذبين :
المفطرون في رمضان ـ الممتنعة عن إرضاع ولدها 155
خطباء الأمة الذين يقولون ما لا يفعلون 158
كلام ابن القيم في أسباب عذاب القبر
159
أسباب النجاة من عذاب القبر : الأسباب العامة 162
أسباب النجاة من عذاب القبر : الأسباب الخاصة 163
من مات ببطنه وقاه الله عذاب القبر 163
سورة تبارك 164
الموت يوم أو ليلة الجمعة 164
من مات مرابطا في سبيل الله 165
المحافظة على الأعمال الصالحة وقاية من عذاب القبر 166
الصدقة 168
الاستعاذة من عذاب القبر 168
كثرة المصلين على صلاة الجنازة تشفع للميت 169
الدعاء للميت 171
حمد الله تعالى عند المرض 171
من مات شهيدًا وقاه الله عذاب القبر : مع ذكر أنواع الشهداء 172
أسباب عذاب القبر تكون على ما اكتسبه العبد من الذنوب
أما أسباب النجاة من عذاب القبر ، والوقاية من فتنته ، تكون من عدة جهات 181
الْأَعْمَال بِالْخَوَاتِيمِ 182
وجوب تحصيل أسباب حسن الخاتمة 188
دعاء النبي لأصحابه بحسن الخاتمة 189
الأسباب العامة لتحصيل حسن الخاتمة 190
العلامات والأسباب الخاصة لحسن الخاتمة 196
قول لا إله إلا الله مع القيام بشروطها 196
الموت بعرق الجبين 199
حمد الله تعالى عند الموت 199
من مات لا يسأل الناس شيئًا 200
من التزم بدعاء طلب الوسيلة عند الأذان 200
اجتماع الخوف والرجاء عند الموت 201
الصدق مع الله تعالى من أعظم أسباب حسن الخاتمة 201
الموت شهيدًا 205
من خرج مهاجرًا في سبيل الله 205
الموت ليلة أو يوم الجمعة 205
الموت بالمدينة 206
من ختم له بعمل صالح 207
الرضا بالله ربًا والجهاد في سبيل الله 208
المحافظة على تلاوة كتاب الله وحفظه 211
المحافظة على سيد الاستغفار 211
إدراك التكبيرة الأولى من الصلاة أربعين يومًا 212
إسباغ الوضوء وصلاة ركعتين 212
المحافظة على الصلوات الخمس 212
الاسترجاع عند فقد الولد 213
من سرته حسنته وساءته سيئته 214
تربية البنات والإحسان إليهن 214
خصال أخرى من أعمال الخير 215
طلب العلم الشرعي والتفقه في الدين 216
تبليغ حديث النبي صل الله عليه وسلم 216
السلامة من الكبر والغلول والدين 217
كفالة اليتيم وعتق الرقاب 218
فصل في تمني الموت
النهي عن تمني الموت 220
فضل طول العمر مع العمل الصالح 222
انقطاع الأعمال بانقضاء الآجال 224
تحفة المؤمن الموت وراحته 224
الموت خير للمؤمن من الفتن 226
تمني الموت في آخر الزمان 228
فصل في مَوْت الْفُجَاءَة
موت الفجاءة 233
موت الفجأة .. من أشراط الساعة 235
استحباب الاستعاذة من موت الفجأة 236
استحباب الصدقة على من مات فجأة 236
فصل في الأداب الواجب مراعاتها تجاه الموتى
الترحم على الموتى 239
النهي عن سب الأموات 241
حرمة أجساد الموتى 242
حكم نقل الأعضاء من الميت لإنسان حي 243
تشريح الجثث لغرض تعلم الطب
243
هل يجوز للمسلم التبرع بجسده للبحث الطبي بعد وفاته
246
لا يجوز الاحتفاظ بأجزاء من المتوفين 247
حرمة قبور المسلمين 248
ما سبق من حرمات وآداب لا ينطبق على الكفار 250
لا يجوز الترحم على الكفار وإنما يبشرون بالنار 250
فصل في تحريم النياحة
تعريف النياحة 253
البيعة على ترك النياحة 253
النهي عن النياحة 255
النياحة من أعمال الكفر 257
الناس حال المصيبة على مراتب أربع 258
براءة النبي صلى الله عليه وسلم من أفعال النياحة 259
الوعيد الشديد بالعذاب الأليم للنائحة 262
ما جاء في لعن النائحة 263
حرمان النائحة من صلاة الملائكة 264
لا إسعاد في الإسلام 265
الوصية بترك النياحة 266
جواز البكاء على الميت 267
الكلام على حديث : الميت يعذب ببكاء أهله عليه 271
حكم رثاء الأموات
283
الخاتمة 287 .

=

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق